1
بداية أؤكد بأن أي محاولة لتلافي تدريس الدين في المدرسة العراقية أمر صعب للغاية، ولا اعتقد إن مثل هذا الإمضاء او هذا التصور بعيد عن إمضاء وتصور الكثير من الكتاب العرب، فالدين جزء من هوية الضمير العربي، وذلك مهما بدى لبعضهم أن هذا الضمير بدأ يجدب دينيا، ولكن لماذا نذهب بعيدا حيث يشكل الدين مادة مدرسية معترف بها في الكثير من المدارس بل المناهج التربوية الغربية، بل تعد مادة جوهرية في المناهج المدرسية الامريكية، لا أريد أن أتناول هذه النقطة بمزيد من القراءة والنظر لأنها كما قلت تكاد تكون محل توافق واتفاق بين المهتمين بالقضية التربوية والمدرسية من الكتاب والمفكرين العرب.
أقدم هذه الملاحظة السريعة لاتحدث عن المنهج الديني في المدرسة الابتدائية ا لعراقية، والمسمى بـ (القرآن الكريم والتربية الاسلامية) يبدا بالصف الاول وينتهي بالصف الرابع من المرحلة الابتدائية، وقد صادف وأن اطلعت على المنهج بعد أن سمعت حوارا عن المنهج بين معلم وولي أحد الطلاب صدفة، حيث شجعني الحوار على مراجعة المنهج، حيث كان الاتفاق متطابقا بين المعلم وولي الامر على أن المنهج المذكور يتسم بالصعوبة والجفاف، وإن المعلم بحد ذاته يعاني صعوبة بالغة في توصيل المادة الى الطالب!
كتاب الدين للصف الاول الابتدائي يتكون من 96 صفحة من القطع المتوسط، يتضمن (19) درسا في العقيدة والفقه والسيرة والسلوك، مزين الصور التوضحية بشكل واسع ومكثف، تحتل موضوعة ا لصلاة المساحة الاكبر من المنهج (42 ــ 64)، بما في ذلك ا دراج موضوعة الوضوء كمقدمة واجبة للصلاة.
المنهج يتضمن الكثير من التصورات الصعبة حتى بالنسبة لمعلم التربية الدينية، فنحن نقرا مثلا في الدرس الثاني تحت عنوان(هوية المسلم) في صفحة (11) شعرا توحيديا يقول:
يا من ْ له كلُّ النعم يا من خلقتَ منْ عدم
حيث يعلم الجميع أن الخلق من عدم قضية مربكة للعقل، وقد كانت وما زالت سببا في الكثير من التساؤلات والمشاكل، وإنها صعبة على التصور والتصديق، بل أن كلمة (عدم) بحد ذاتها تثير الرعب والخوف والتساؤل.
يركز الدرس الثاني على أن الله (خالق) كل شيء، ولا يشك مسلم بذلك، ولكن في تصوري إن النقطة الجوهرية التي ينبغي أن يربي عليها النمهج في هذه المرحلة هي (الربوبية الإلهية) وليست (ا لخالقية الإلهية)، فإن الناس، كثير من الناس، إنما يعانون من فهم ساذج في الربوبية وليس الخالقية، بل كون الله خالق كل شيء قضية محل إمضاء شعوري ولا شعوري في المجتمعات المسلمة والشرقية بصورة عامة.
نقرا في المنهج (خلق الله سبحانه وتعالى الارض بسهولها وجبالها وأنهارها، خلق الله الحيوانات، خلق الله الطيور، خلق الله الاسماك، خلق الله النخيل والاشجار، خلق الله الازهار، خلق الله الفواكه والثمار، ينبت الله الزرع، خلق الله الماء...) مع صور توضيحية جميلة، ويمكن أن ألاحظ على هذا الاستعراض ما يلي: ــ
الف: إن هذا الاستعراض الذي يركز على (الخالقية الإلهية لكل شيء) دونما استعراض شيء من (الربوبية الإلهية) التي هي من اساسيات العقيدة الاسلامية، بل أهم من مبدا (الخالقية) من حيث التربية والتغذية العقدية إنما تشكل نقطة فقر واضحة في المنهج.
باء: أعتقد أن توجيه عقل الطالب في هذه المرحلة باتجاه الايمان بالله خالقا وربا لا يحتاج إن نصدر له هذه الجمل الجاهزة(خلق، ذرأ، بدع...) بل نكتفي باستعراض مظاهر الكون الرائعة بـ (عنواين) بسيطة تمجد الله، وتبين عظمة هذه ا لمخلوقات، وجمالها وخيراتها، فما الذي يمنع من عنوان (التمر لذيذ فشكرا لله الذي رزقنا هذا الطعام اللذيذ)، وذلك تحت صورة توضيحية لنخيل باسق مع تدلي ثمره الناضج بشكل جميل وجذاب؟
بل هذا العنوان ا جدى واهم واقدر على زرع المفاهيم التوحيدية في ضمير المسلم، كذلك العناوين الاخرى التي تحدث عن رحمة الله وكرم الله وعفو الله....
جيم: إن ايعاز الخلق المطلق الى الله سبحانه وتعالى من دون اشارة فنية الى تعاضد وتكامل وترابط الموجودات الكونية، وأن ذلك يساهم في استمرار الوجود وتخليق المكونات، إنما يخلق عقلية عاجزة عن التعامل مع الكون بلغة بعقلية علمية،أن ذلك يشيد عقلية غيبية مطلقة،ينبغي أن نوحي للطالب أن النخلة لا يمكن أن تستمر بالحياة من دون الماء، وإن الانسان لا يمكنه أن يعيش من دون الهواء، ثم نربط ذلك في النهاية بالقدرة الالهية، فيما الاستعراضات الموجودة في قسم القعيدة كلها تؤكد التخليق الالهي المباشر والتسيير الالهي المباشر لكل موجود، وبذلك نبني عقلية توحيدية علمية، واقعية، مندكة بالكون، لا تتعامل مع موضوعة الخلق الالهي بلغة سحرية مفاجئة.


2
يتضمن المنهج ست سور للحفظ هي (الفاتحة، الاخلاص، الناس، النصر، العصر، الكوثر) ولست أدري ما الداعي لحفظ هذه السور الكريمة على الغيب؟ وهل الحفظ على الغيب ربى عقلا، وهذب ضميرا؟ فضلا عن كون ذلك قد يشكل عبئا على الطالب الصغير، وهو الملول المتهرب من الوا جب وا لفرض، والحقيقة إذا كان ولابد أن نُبقي على هذه السور، فليس على اساس الحفظ، ونكتفي بالشرح والبيان البسيط، ومن خلال صور توضحية، وبلغة في غاية السلاسة، وإذا كان هناك مجال لتجسيد المعنى بالتمثيل والتشبيه والتجسيم يكون أروع واكثر جاذبية.
إن الحفظ على الغيب عملية غير مجدية، حتى على مستوى تدريب الذهن وتقوية النشاط العقلي، بل ربما تثقل كاهل الطالب، وربما تسبب له النفور من المادة المفروضة الحفظ، وا لاكتفاء بالقراءة والشرح والنقاش والحوار بين المعلم من جهة والطلاب من جهة أخرى، كذلك بين الطلاب أنفسهم أجدى بالنفع وا لفائدة في مثل هذه الحالات.
هذا وقد تضمن المنهج في هذا المجال أكثر من جدول فيما يخص (الكلمة: معناها)، ولم تسلم هذه المادة من صعوبات هي الاخرى (العصر: الدهر) حيث أن الدهر أخفى معنى من العصر، ثم العصر ربما ينصرف إلى الزمن بحد ذاته، ومن هنا سيكون الموقف أ جمل وأسهل فيما لو فسرنا العصر ب ـ (الزمن) والزمن بمفرداته اليومية وهو رأي محترم لدى بعض المفسرين، فما الذي يبرر استخدام هذا المعنى الصعب العسير دون تلك الاستخدامات البسيطة السلهة الواضحة؟
في الدرس الثاني عشر يطرح المنهج سورة العصر، والغريب أن يتطرق المنهج في خانة (الكلمة معناها)الى معنى العصر و(لفي خسر)والتواصي ولكن لم يتطرق إلى معنى الحق؟ فيما هو مركز السورة ولحمتها، وفي تصوري كان الواجب التنويه عن هذه المفردة ليس بشكل تجريدي بل على شكل عينات بسيطة تمس واقعنا الاجتماعي والديني، بما في ذلك الصدق في القول والعمل، وا لاخلاص فيهما، فإن ذلك من الحق كما هو معلوم، من دون أن نوحي للطالب أن معنى الحق محصور بهذا العينات، إن التعريف بالعينات ا حسن من التعريف ا للفظي با لنسبة لطالب بهذه المرحلة، فالذين يخسرون هم الذين يؤذون الناس، ويحتالون على البشر، والذي يغش في الامتحان، وهكذا...
إن الواجب التربوي والاجتماعي وبلحاظ الواقع الذي نعيشه يستوجب تغيير نظام الكلمة معناها، من النظام القاموسي الى النظام العيني، وهو ما يعرف بالتعريف بالمثال.
في الوقت الذي أؤشر فيه على هذه الملاحظة نقرا في صفحة (87)، ما يلي في تعليق على المولد النبوي الشريف، وتحت قبة المسجد الشريف ما يلي:
هزّ الوجودَ المولدُ فالكائنت تردد
صلوا عليه وسلموا
ترى هل فكر الذي وضع المنهج كم هو صعب معنى (الوجود)؟
وهل بامكان المعلم بحد ذاته ان يوضح مثل هذه المادة بسهولة ويسر؟ أعتقد ينبغي أن نتكلم ونعلم ونساعد التلميذ وهو بهذه المرحلة التعليمية ا لا ولية البسيطة بلغة اسهل من هذا المستوى بكثير وكثير وكثير.

3
الغريب أ ن يخلو المنهج من التوجيه العملي بشكل عام للطالب، توجيه من شانه حب العمل الذي يعتبر من أهم المفاهيم التي يركز عليها الدين الاسلامي، بما في ذلك العمل من أجل العيش والرزق، أي ثقافة المعاش اذا صح التعبير، من خلال الاستشهاد بالايات الكريمة والاحاديث الشريفة، والممارسات العملية للنبي والمؤمنين الذين لهم منزلتهم في قلوب المسلمين، مع وسائل ايضاح جميلة وسهلة، كان من الوا جب أن يكون العمل والابداع والانتاج والتدبير من أهم الموضوعات التي يتطرق اليها المنهج بلغة ايضاحية تصويرية حوارية.
لا أعتقد أن الظروف التي يعيشها العراق تساعد على طرح موضوع الفقه العبادي مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة في المنهج الدراسي مهما كانت المرحلة الدراسية، لسبب بسيط، أن المدرسة العراقية تنتمي الى مجتمع متعدد المذاهب، وهذا يستدعي طرح الصور المتعددة للشعيرة العبادية الواحدة، وفي ذلك مشاكل كثيرة، ولذا، إن الحل الامثل هنا، هو الاكتفاء بذكر الشعيرة، وتترك احكامها وكيفية إدائها للعائلة والمؤسسات الدينية الاهلية، فهناك الصلاة الشيعية والصلاة السنية، بل وهناك أحكام يختلف فيها المذهب الواحد في شعيرةعبادية واحدة، بما في ذلك الصلاة، ولذلك، لا نعتقد أن من المناسب أن يتعرض المنهج الديني المدرسي للعبادات على مستوى الاحكام، وينبغي الا كتفاء بذكرها بعنوانها التكليفي فقط، مع التشجيع على الالتزام بها.


4
يركز المنهج من خلال اناشيد وآيات وروايات على أخوّة المسلمين، ففي الدرس الثاني (المسلمون أخواننا... المسلمات اخواتنا...)، وليس من شك أن مثل هذا التوجيه جيد ومفيد ومطلوب، ولكن الذي يكمل هذا كله، هو توجيه التلميذ إلى دائرة الاخوة الاكبر، اي الاخوة الانسانية، وما اكثر الايات والروايات التي يمكن أن نستعين بها على ذلك، فقول النبي الكريم (كلكم من آدم وآدم من تراب...) مادة تربوية رائعة على طريق بناء المجد الاخوي العالمي، كذلك اية (يا ايها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وا نثى...)، إن البديء في زرع بذرة الاخاء الانسانية منذ الطفولة في ضمير المسلم، ومن خلال المناهج التربوية المدرسية يحقق اكبر انتصار للبشرية، ويشيد اللبنة الا ولى في مواجهة العنف والقسوة والظلم والتعالي والتكبر.
في الوقت الذي يستعرض فيه المنهج موقف ابي لهب وزوجه من النبي الكريم ودعوته، يخلو المنهج من مثل مضاد، أ ي من عائلة اخرى كانت تقف الى جانب النبي، كأن تكون عائلة عمار بن ياسر، فإن مثل هذه المقارنة مهمة، فإن مثل هذه الصورة ذات الوجهين ا لمتقابلين تربي الطفل بشكل غير مباشر على أن الحياة صراع بين الحق والباطل، حقا، أن المتتبع ليصاب بالصدمة من أن يخلو المنهج من صورة مناقضة لصورة ابي لهب في المنهج وهو منهج تربوي!
هذه نقاط سريعة عن المنهج الديني للمدرسة الابتدائية العراقية / الصف الاول ابتدائي / على امل ان ا نقد المنهج في مرا تبه اللاحقة بإذن الله، وشكرا لايلاف التي تحولت الى مصدر تربوي عربي كبير