موضوعة العقل شائعة في الروايات الإسلامية عن النبي الكريم واهل البيت، وقد نظّم كثير من علماء الاسلام كتبا في العقل اعتمادا على هذا التراث الروائي، ولكن للانصاف إن مقدار ما ورد من تراث في هذا المجال في المصادر الشيعية والصوفية يفوق ما نجده في مصادر الرواية السنية والسلفية إذا صح التعبير، وإذا ما قمنا بعملية مسح سريعة للتراث الوارد هنا، سنجد هناك من الروايات ما يهتم بتعريف العقل، وغيرها يهتم ببيان ماهية العقل، وأخرى تهتم بأهمية العقل ودوره في الهداية والاستقامة والتدبير، ولقد سعى كثير من العلماء الى تصنيف هذه الروايات في أبواب عامة تحت مختلف العناوين، مثل (فضل العقل) و (ما هية العقل)، وما إلى ذلك من عناوين تخص الموضوعة ذاتها.
هناك روايات تؤكد إن العقل (كائن) مخلوق، وهذه الروايات مشهورة ومعروفة، ولكن كثير من العلماء يضعِّفونها، وفي مقدمتهم ابن تيمية، وفي الحقيقة ليس المهم هنا تكذيب أو تصويب هذه الروايات بقدر ما هو البحث والتدقيق في معاني العقل في هذه الروايات.
يقول نموذج من هذه الروايات: (لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إليّ منك، ولا أكمِّلك إلاّ فيمن أحب،أما إنِّي إياك آمر، وإياك أنهي، وإياك أثيب) / البحار 2 ص96 /
هذا النموذج تكرر في التراث الروائي، وقد اختلف العلماء في تفسيره وبيان المراد من العقل هنا، فمنهم من يرى إن العقل هنا إشارة إلى عقل كلي، محيط بالكون، ويستند في ذلك الى روايات تقول بان أوَّل مخلوق خلقه الله هو العقل،وإنه كان نورا، وقد أضْفيت عليه مواصافات ومقتربات ونعوت روحية وغيبية ضخمة، مما أضطر بعضهم للقول إن المقصود هنا هو العقل الذي صدرت عنه النفس، وفق ذلك التسلسل الطولي التراتبي حسب نظرية الاشر اق أو الفيض، أي نظرية العقول العشرة!
يقول بعضهم أن العقل كائن مخلوق قبل خلق الابدان، ثم يتلبس بالبدن بشكل وآخر، والرواية هنا ليست على وزان التمثيل والتشبيه، أي ليس هناك مجاز، وإنّما على وزان الحقيقة الصارخة!، وفيما تتكاثر التصورات والتفسيرات للعقل في هذا النموذج من الروايات التا ريخية نقرا أن العقل هنا يأتي بما يفيد كونه مناط التكليف، بدلالة قوله: (... إياك آمر، وإياك انهي، وإياك أثيب).
يقول مأثور تراثي: (زينة الرجل عقله)، كذلك: (أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الجهل)، كذلك: (لا عدّة أنفع من العقل، ولا عدو أضرَّ من الجهل)، هذه المأثورات تفيد أن العقل يعني العلم، معلومات، مذخور العقل من فكر وتصورات نافعة مفيدة، يعين صاحبه على مواجهة مشاكل الحياة، وتخطي الصعاب، وبالتالي، فهي عقل، وفي ذلك يقول الطبرسي: (العقل والفهم والمعرفة واللب نظائر، ورجل عاقل فهم لبيب ذا معرفة، وضد العقل الحمق) وذلك في تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون).
فكون العقل ضد الجهل لا يشير إلى العقل بالمعنى العضوي الأداتي ــ الأداتي لا يعني هنا ما يعنيه المصطلح في مدرسة فرانكفوت كما هو واضح ــ، بل يشير إلى العلم، ومن هنا يستنكر بعضهم أن يُقال بان العقل غير العلم.
العقل بمعنى التدبير وإدارة شؤون المعاش من التعريفات الواردة في التراث، ففي حديث منسوب لعلي بن أبي طالب نقرا: (... ولا عقل كالتدبير...)، فهذه العبارة القصيرة تكشف عن معنى عملي للعقل، صحيح ليس في الافق قراءات نظرية وتحليلات دقيقة للعقل، وإنّما هي لمحة خاطفة، ولكنّها على أي حال تؤسس لمعنى عملي للعقل، وربما استفاد منها علماء الاسلام في تكوين فلسفتهم وافكارهم وتصوراتهم عن العقل بشكل عام والعقل العملي بشكل خاص.
يروي التراث عن النبي قوله: (قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له)، ويُرْوى من هذا القبيل كثير، وهو جري على المعنى التقليدي للعقل كما جاء في التراث اللغوي، أي منظومة خُلقية وعرفية محمودة تسير الهيئة الاجتماعية وتحفظ لها قوامها ومصيرها.
يقول التراث: (خلق الله العقل من أربعة أشياء، من العلم، والقدرة، والنور، والمشية بالامر، فجعله قائما بالعلم، دائما بالملكوت)، ويصرف بعض الشرّاح الموضوع إلى ذلك العقل الذي ورد فيه ترا ث خاص، حيث تقول بعض المأثورات إن أوَّل ما خلق الله العقل، وهو غير العقل الذي نتحدث به، أي العقل الانساني، فيما يرى آخرون أن الرواية تتحدث عن هذا العقل بالذات، ولحن الكلام يفيد أن العقل شيء ما، وإن هذا الشيء يتكون من أشياء، هي المذكورة تباعا.
يرى بعضهم أن المراد بالنور هنا (ظهور الكمالات والاخلاق السنية، والاعمال الرضية، وبالمشية بالامر اختيار محاسن الأمور)، وإنما خلْقُ العقل من هذه الاشياء كناية أو تعبير رمزي عن استلازمه لها، فيما ينصرف المعنى في ظن آخرين إلى كون حرف (من) للتعليل، فالمعنى يفيد أن الله خلق العقل كي يعلم، وكي يتدبر الأمور، وكي يأمر وينهي، ويرشد ويعلم.
هناك تفسير في تصوري أعمق، إن العقل يُطرَح هنا باعتباره قبس من روح الله، من علم الله، قدرته، مشيئته، أي أن الله خلقه من قدرته هو، من علمه هو، من مشيئته هو، ولذلك كان خليفة الله جلّ وعلا، ولذلك كان بديله أو في طول قدرته وطول علمه، ومن هنا كان دائم السمو، يتجه نحو العلو، فهو لحظة بعد لحظة يتصعَّد في سماء المعرفة والكشف والاحاطة، وليس من شك (لا عقل) بـ (لا علم)، فقوامه بالعلم، أي وجوده، أو على أقل تقدير وجوده الحقيقية إنما بـ (العلم)، فكان العقل والعلم هنا نظيران، وهو رأي كثير من الفلاسفة وعلماء الحكمة.
نقرا في التراث الروائي إن العقل (يزيد وينقص)، وربما هذا إشارة إلى العقل بالمعنى الاخلاقي والعلمي، أي من حيث كونه مجموعة قيم إخلاقية وعرفية متَّبعة، أو عبارة عن ذات المعلومات، فمثل هذه (الماهية) للعقل قابلة للزيادة وا لنقصان، الشدة والضعف، بصرف النظر عن مدى صحة التعريف أ و خطأه، على أن المثير حقا في الموضوع، إن التراث يقترح بعض الأطعمة والمواد من أجل زيادة العقل!
يقترح التراث السفرجل والبقول والقرع واليقطين والدبّاء والسّداب والسلق والخل واللحم لتقوي العقل وتنشطه وتشحذه وتزيد من حدة الدماغ، ولم يفرق الترا ث في هذا المجال بين العقل والدماغ، فهل العقل هنا هو الدماغ ذاته، أم هو الدماغ عضو يحمل العقل؟ ليس من المعقول أن نصرف العقل هنا إلى منظومة من المعارف والمباديء، ولكن من المعقول أن نتصور العقل هنا عضو تفكير، وربما عضو تفكير ذي بعد مادي!
في المقابل هناك ما (يذهب العقل)، وتذكر كتب التراث عينات من مُذْهِبات العقل، منها (البول في الماء الراكد)، ولا يسع الناقد سوى أن يصرف العقل هنا إلى منظومة السلوك العقلائي، ليس إلاّ.
يضاهي بل احيانا يماهي بين العقل والنور، مرة على سبيل التشبيه، وتارة على سبيل المطابقة والتماهي الحقيقي، ويبدو أن وجه المقاربة هذه، إن النور ظاهر بنفسه مُظهر لغيره على حد تعبير تقليدي سائد لدى فلاسفة المسلمين وعلماء كلامهم، والعقل كأنه منكشف لنفسه كاشف لغيره، خاصة وإن العلم في تعبير كثير من هؤلاء العلماء و الفلاسفة عبارة عن كشف، وليس خلق، وبالتالي، هناك نوع مماهاة بين العقل وا لنور.
يصف التراث العقل بأنه (دعامة الإنسان)، ففي رواية أو أكثر من روا ية نقرأ: (دعامة الإنسان عقله)، ووصف العقل في هذا التراث بأنه (قوام المرء) وما إلى هنالك من مواصفات ونعوت ترتفع بالعقل إلى وظيفة التدبير والتقويم والتوجيه، ويبدو إن نكهة هذه المواصفات عملية أخلاقية، ففي الرواية الترا ثية: (ولكل شيء دعامة،ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته)، فإن مثل هذه الصيغ لا تخرج عن دائرة النكهة الخلقية والعرفية والسلوكية المحمودة في تعريف وفهم العقل.
يذكر التراث عمرا معينا يعتبرها حاسمة في تاريخ العقل، وهو سن الأربعين، ويبدو إن المقصود هنا، اكتمال التجربة، واكتساب الخبرة، وربما تكون الاشارة إلى اشتداد قوة التفكير والاستنتاج والفهم.
ليس هناك معالم نظرية واضحة في العقل يمكن العثور عليها من خلال التراث الروائي، وما جاء مجرد إشارات سريعة، وهذه الاشارات لا تشكل مادّة يمكن الاعتاد بها لتشكيل مدرسة وا ضحة ومفصلة في العقل، ربما الرجوع إلى القرآن الكريم يساعد على مثل هذا العمل، ولكن في خصوص ا لسنة النبوية، فالامر يكتنفه بعض الصعوبات.

بعض مصادر المقالة
1: بحار الانوار للشيخ المجلسي الجزء الثاني، مؤسسة الوفاء بيروت سنة 1983
2: عوالم العلوم والمعارف والاحوال، للبحراني، كتاب العقل ــ العلم / طبع قم
3: الاذكياء لابن الجوزي، طبع ونشر دار الكتاب العربي،2005.