ما زلت أتذكر، قبل ثلاثين سنة أو ما يقارب ذلك، إني قرأت مقابلة مطولة لأحد الصحفيين البارزين الذين كانوا يكتبون في مجلة (المستقبل) اللبنانية مع السيد الراحل آية الله الموسوي الخمنيني في باريس، عندما كان يقود الا نتفاضة الشعبية الاير انية ضد الشاه محمد رضا بهلوي، وكان الصحفي قد سأل الامام رحمه الله عن مصادر أو ينا بيع نظريته في بناء النظام الجديد فيما لو أنتصر على خصمه، أي شاه إيران، وما زلت أن جوهر جواب الامام الكبير ما مفاده، ان لدينا في الفلسفة كتاب (الاسفار / أي الاسفار الاربعة للملا صدرا) وفي الفقه كتاب (الجواهر / أي جوهر الاحكام للجواهري)، وفي الاخلاق كتاب (تهذيب الإحياء للكاشاني / أي تهذيب أحياء الغزالي للملا محسن الفيض الكاشاني) وحينها شعرت بالخوف والقلق، وللتاريخ عندما التقيت باحد الأخوة الذي كان معنا في بلاد المهجر، وهو اليوم وزير في حكومة السيد نوري المالكي، وقد رآني مغموما، مهموما، فلما سأل عن السبب، قلت له بالضبط:(إن السيد الإمام أعلن حكومة الكتاب الواحد)!!
لم يفهم الأخ الكريم المعنى، فاضطررت إلى توضيح مقصودي، إن الإمام أعلن دولة الكتاب الواحد، والكتاب الواحد هنا في التحليل الاخير هو القرآن الكريم!!
دولة الكتاب الواحد هي دولة (الاعتقاد)، الواحد تقريبا، القرآن، الانجيل، رأس المال، ثروة الامم، الفيدا، كتاب واحد، أو ما يدور حول الكتاب الواحد فضلا عن الكتاب نفسه، تلك هي دولة الكتاب الوحد، فهذا الكتاب هو الحقيقة، لم يكن حقيقة، بل هو الحقيقة، سواء كان كتابا موحى أو غير موحىه، منه يتم الاستقاء، واليه يعود الحكم الفصل، وفي نطاقه وبركته يكون الابداع، وبين سطوره نكتشف الحقائق، ومن خلال الهامه نشيد الكون، ونسبر خفايا السعادة، على مائدته نكتب، ونفكر، ونستخلص، ونستنتج، ونقيم، ونحاكم، ونقيس، ونقتبس، ونعلم، ونتعلم، ونوحي، ونبشر، فهو على الر فوف وفي المكتابات الخاصة و العامة، وعلى الواجهات، وفي الدوائر، وفي المتاحف، نبدا به، وننتهي به، فضلا عن المسافة بين النهاية والبداية محكومة بجزئياته وفقراته وفصوله، وفي مقابل هذه الدولة، أي دولة الاعتقاد، ما أسميته بـ (دولة المعاش)، وهي دولة الكتب المتعددة، المتنوعة، دولة المعاش هي دولة الكتب، الكتب بكل ألوانها، باسماء متعددة ومتضادة، بمضامين متطابقة ومتفارقة، بتوجهات تلتقي وتتنافر، تتضافر وتتشاجر، كتاب راس المال الى جانب كتاب الله تعالى، كلاهما على مائدة و احدة، كلاهما في رف واحد، كلاهما له محبوه، وشارحوه، وتابعوه، وكلاهما يجول صداه في المدارس والمؤسسات والدوائر والجمعيات والمكتبات، بلا فرق، بلا تمييز.
دولة الكتاب الواحد هي دولة الرأي الواحد، القراءة الواحدة، مهما تعددت القراءات لهذا الكتاب ولكن الجوهر، الماهية، النقطة النووية واحدة، فيما دولة الكتب المتنوعة هي دولة القراءات المنتوعة، المتصارعة، المتشاجرة، المتداخلة، يحتل فيه التناص والتثاقف والتناسخ مكانة تأسيسية بالصميم.

دولة الاعتقاد ربما يسودها صراع فكري، بل حتما يتواجدعلى ساحتها صراع فكري، ولكنه صراع يدور حول محور واحد، أو محاور مسماة، لا تجديد فيها، لا أضافةعليها، بينما دولة المعاش هي دولة الصراع المفتوح، الصراع الذي يولد صراعا، وهكذا، صراع بين أضداد، بين نقائض، بين متفاوتات يفرق بين أطرافها مسافات تمضي قدما لتوسيع البعد الفاصل، فيما دولة الاعتقاد تحاول أن تلملم اطراف الصراع من خلال الجمع بين نهايتها، حفاظا على وحدة الكتاب الواحد أو القكرة الواحدة، ومن ثم الحفاظ على التماسك الاجتماعي، المجتمع المتماسك، مجتمع الخشبة، مجتمع الحديد، فيما دولة المعاش تلح على الاختلاف الفكري الهائل، كي تسخن الصراع، لا لكي تهد كيان المجتمع، بل لتغذي الحركة المتبادلة بين أطرافه، بين مكوناتها، فيتجاذب على الفكر، وتسوده فوضى الافكار، لتنتج أفكار تلو افكار.

ليس هناك كتاب واحد في دولة المعاش، بل كتب وكتب، باسماء لا تلتقي ربما ابد الدهر، ولكنها تلتقي في نقطة الصراع الهائلة، التي من شانها أن تتحول الى نقطة مكثفة، تنفجر في لحظة ما، فيحصل زلزال الفكر، وتتوالد بذور الفكر كي تتحول إلى أشجار، والاشجار تتحول إلىغابات.
كتب متعددة متنوعة، فيحول الوضع إلى عقول متعددة ومتنوعة، أو مناهج تفكير متعددة متنوعة، طرائق حياة متعددة متنوعة، وسائل نظر متعددة متنوعة، يزدهر التاريخ بهذه الدولة، فيما في دولة الاعتقاد يزدهر الاعتقاد وحسب، وازدهاره وهمي، لانه في نطاق جغرافيته وحسب.
دولة الكتاب الواحد هي دولة رجل الدين، الفيلسوف الرسمي، المثقف السلطوي، المتلقي الآلي، فيما دولة الكتب المتنوعة هي دولة رجال الدين، الفلاسفة، المثقفين، المتلقين، هناك عقل منغلق وهنا عقل منفتح...
دولة الكتاب الواحد هي دولة الجبر، دولة الكتب المتنوعة هي دولة الاختيار، وبين الجبر والاختيار مسافة نوعية لا تُقاس.
دولة الكتاب الواحد بدأت تضمر، فيما دولة الكتب المتنوعة آخذة بالانتصار، ولو كان تصلح دولة الكتاب الواحد، لصلحت الطبيعة الواحدة، وإن كنت أكره كلمة طبيعة، ولذا اقول لو صلحت دولة الكتاب الواحد، لكان هناك كونا متماهيا مع ذاته بشكل آلي حرفي روتيني ساذج...