في خضم الإبحار الفلسفي في عالم العقل وقضاياه يطرحون بشكل عام نموذجين من التفكير، الأول هو التفكير (في العقل)، والثاني هو التفكير (بالعقل)، أن التفكير (في العقل) يجعل من العقل موضوع التفكير، مشكلة التفكير، العقل هنا مسلَّط على العقل، على ذاته، على هويته، على بنيته، فيما النموذج الثاني يتحدث عن العقل كأداة تفكير، عضو تفكير ــ قد يكون هنا تسامح في التعبير لأسباب سوف نتبينها لاحقا إن شاء الله تعالى ــ وهناك نصوص فلسفية قديمة ونصوص فلسفية حديثة تمجِّد وتُعلي وتصعِّد من قيمة التفكير (في العقل)، تعتبره أكثر معقولية، وأسمى مستوى من التفكير (بالعقل)، أي إنَّ التفكير (في العقل) الذي هو أقرب للبحث الأنطولجي أهم وأشرف وأعظم من التفكير (بالعقل) الذي هو أقرب للبحث الأبستمولجي، الأول تفكير في الوجود، فالعقل المبحوث عنه هنا موجود، كائن موجود. والثاني تفكير في المعرفة، لأن التفكير (بالعقل) تعبير عن ممارسة العقل لوظفيته الحياتية، التي هي التفكير في الكون والطبيعة واللغة والحياة والافكار وغير ذلك، تحليل الوجود وتركيب المعارف.
يقول الدكتور الجابري في كتابه تكوين العقل العربي (التفكير في العقل درجة من المقولية أسمى بدون شك من درجة التفكير بالعقل)، والمعقولية هنا تعني التجريد كما يبدو لي، وبهذا يكون معنى أسمى معقولية و هو أكثر متعارف.
ولكن التفكير (في العقل) يتم بـ (العقل)، ومن هنا تشخص مفارقة كبيرة، حيث يتبدى لنا التفكير (بالعقل) هو المرجع، وهو المآل، فإن عالم (في العقل) يحتاج إلى (بالعقل)، نقتحم العقلَ بالعقلْ، فأيهما يحوز على شرف السبق بالاهتمام والرعاية والبحث والتواصل؟
ولكن هل للتفكير (في العقل) من المزايا والفوائد والعطائات ما يترك أثره الجوهري والكبير على عمل العقل في الطبيعة والوجود والحياة واللغة والرياضيات والعلوم؟
لم أجد ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، فهذا آنشتاين أخرج لنا النسبية، ولكن هل إنطلق وهو يفكر بـ (عقله) من تفكيره في (عقله)، وبالتلي كان له هذا العطاء الكبير؟
وأي منا ينطلق وهو يفكر بـ (عقله) بعدما مر بجولة عسيرة من التفكير (في عقله)؟
هؤلاء عباقرة الرياضة والفيزياء والطب، لم يسجلوا لنا في مذكراتهم أنهم إنما أبدعوا هذا الإبداع بسبب جولاتهم الفلسفية والتأملية (في العقل) أولا، ومن ثم فكروا بـ (عقلهم).
ليس هناك مرحلتان في الجهد والعمل والإنجاز العلمي لهؤلاء الأفذاذ، الأولى كانت (في عقولهم) والثانية كانت (بعقولهم) بل هم اخترقوا المجهول بعقولهم مباشرة، وفق شروط البحث العلمي، وبالاستعانة بالتقنيات المتوفرة لهم، وبتشجيع من روحهم الكبيرة.
ما هي النتائج التي توفرت لنا بعد أن جال بعض الفلاسفة (في العقل)؟
تلك قضية أخرى سوف أتناولها في مقال خاص لإيلاف في المستقبل القريب بإذن الله تبارك وتعالى.
الفلسفة الاسلامية اهتمت بموضوعة تفكير العقل (في العقل)، وأطلقت على هذا النوع من التفكير بأ نه أحد مصاديق (العلم الحضوري)، والمقصود بـ (العلم الحضوري) هو علم الإنسان بنفسه، وعلمه بآلامه، وعلمه باسراره، وعلمه بخواطره، ومثل هذا النوع من العلم لا يتقوم بموضوع وذات، بل هو الموضوع والذات في آن واحد، أي أن موضوع التفكير هو نفسه أداة التفكير، فالعقل هنا عالم ومعلوم، مُفكِّر ومُفكَّر فيه، ولا يحتاج العلم الحضوري إلى عملية برهانية، بل لا معنى للبرهان في العلم الحضوري لانه عين الانكشاف بلا واسطة كما يقولون، وبالتالي فإن علم العقل بنفسه هو علم حضوري بكل معنى الكلمة، العقل منكشف لنفسه، ولكن إذا كان الامر كذلك، فلماذا يجهل العقل ذاته حقا؟
النموذج الثاني من التفكير هو التفكير (بالعقل)، فالعقل هنا آلة، ألة تفكير، بصرف النظر عن صحة أو دقة الاصطلاح، من حيث البساطة والتركيب، لأن بعض المدارس ترى أن العقل كائن بسيط.
ليس من شك أن كل التراث الحضاري الإنساني هو نتاج (التفكير بالعقل) وليس نتاج التفكير (في العقل)، ليس في ذلك شك، فأن التفكير بالعقل هو الجانب التطبيقي للعقل، الجانب الأداتي، هو معركة الإنسان ضد الطبييعة، هو معركة الإنسان في اقتحام المجهول،هو معركة الإنسان في تأنيس الطبيعة، وهو أيضا أداة الإنسان للتفكير (في العقل) ذاته !!!
هل هناك مجال للمفاضلة؟
يرفض بعضهم منطق المفاضلة، لسبب بسيط، ذلك أن لكل من التفكيرين مجاله وطبيعته وربما أدواته، فهي اشبه بالمفضالة بين مهندس وطبيب، فيما يصر بعضهم على هذه المفاضلة، مقدما التفكير (في العقل)، على التفكير (بالعقل)، ويضطربون في مادة المفاضلة، هل هي شدة التجريد؟ أم هي النتائج على صعيد الواقع؟ أم هي اللذة الروحية؟ أم هي الجرأة في الطرح؟ أم هي شي لا هذا ولا ذاك؟
ولكن هل تخلصنا من تلك الشبهة الصعبة؟ أقصد تناوب الذات والموضوع بعضهما عن بعض بالتساوي، فإذا كان موضوع التفكير هو العقل كآداة تفكير، فليس من شك إن التفكير بذلك، بهذه الأداة، إنما يتم بـ (العقل) ذاته، وهكذا كان العقل آداة كموضوع وآداة كعضو تفكير في ذات الأدات!!!
هل حقا يتحرر العقل من ذاته عندما يودع مضمونه العلمي ويغرق في لجته الخاصة؟
هل حقا يتحرر العقل من سلطته على نفسه عندما يغمض العين عن المفاهيم الطبيعية والمنطقية والفسلفية وينغمس في بحره اللجي الخاص؟


وهناك نموذج ثالث في التفكير، ذلك هو التفكير في المفاهيم، فالعقل بحر من المفاهيم، بحر متلاطم الأمواج، هناك المفاهيم الطبيعية التي هي واسطة التفكير بين العقل والوجود، منها مفاهيم فيزيائية (الكتلة، الضوء، السرعة) ومنها كيميائية ومنها جغرافية، وهكذا، وهناك المفاهيم المنطقية، مثل الكلي والجزئي، مثل الأمكان والوجوب والامتناع، وهناك المفاهيم الفلسفية مثل العلة والمعلول، الشدة والضعف، وغيرها، وبصرف النظر عن صحة هذا التقسيم، وبصرف النظر عن صدق هذه المفاهيم وطبيعة العلاقة بينها وبين الوجود والعلاقة بين بعضها البعض، فإن العقل يفكر بهذه المفاهيم، يفكر بها كأداة، ويفكر بها كمضمون، فما هي خصائص هذا النموذج من التفكير؟
هناك كلام آخر في مجال التفكير (في العقل)، خاصة بعد أن أصبح العقل من أهم الموضوعات التي تستحوذ على مجالات متعددة من الفكر، وإذا كانت في مقدمتها الفلسفة، فهناك أيضا علم اللغة، وعلوم النفس، وعلوم الإناسة، بل حتى علوم الحاسوب، وغيرها، حيث ترى بعض المحاولات إن الجهد يجب أن يتحول من دراسة (ماهيَّة) العقل إلى دراسة وتحليل الظواهر العقلية، مثل التفكير، والذكاء، والانتباه، وتتمثيل العقل للأشياء، وتوجّه العقل نحو الأشياء بهدف إدراكها (القصدية)، وقدرة العقل على خلق واقع إجتماعي موضوعي، ومن ثم التواصل العقلي بين البشر.
ترى بعض المدارس إن قراءة العقل يجب أن تتناول الظواهر العقلية وليس ذات العقل، ولست أدري هل حقا أن هذه الظواهر أو المظاهر أو الانشطة لم تدرسها الفلسفة؟ إن الفلاسفة المسلمين تطرقوا باسهاب وعمق في بعض الاحيان إلى موضوعة الذكاء والتذكر والوهم والخيال، وعلاقة العالم بالعلم بالمعلوم، وخرجوا بنتائج مذهلة، عسى أ ن اتكلم عنها في مقال منفصل إن شاء الله تعالى.