منذ أن تولى السيد نوري المالكي رئاسة الحكومة العراقية وحتى كتابة هذا المقال كنت وما زلت اتابع خطابه، ولذلك اسباب عديدة، منها بحكم كوني كاتبا عراقيِّا، ومنها لمعرفتي الشخصية به، ومنها لانه رئيس وزراء العراق، وتاليا، هو المسؤول عن مصير بلدي وشعبي، وضمنا مصيري كأي مواطن عراقي، وكنت وما زلت اعتقد أن خطاب السيد المالكي يفتقد إلى الدقة والعلمية، وأنه كثيرا ما يتسم بالاستعجال والاستنتاجات المبالغ فيها، فضلا عن افتقاد الخطاب الى رؤية سياسية واضحة مبرمجة، وقد أشرت إلى بعضها في نقدي لخطابه أكثر من مرّة في موقع إيلاف ومواقع أخرى، كما أشرت بذلك أثناء الكثير من اللقاءات العراقية التي تحصل هنا وهناك، بمناسبة أو غير مناسبة.
لا أريد أن اعيد بعض هذه الاستنتاجات المُستعجلة في هذه المقالة السريعة، ولكني أريد أن استعرض مراحل خطاب رئيس الوزراء منذ توليه المسؤولية قبل أربع سنوات تقريبا وحد هذه اللحظة...
استطيع أن اسمي المرحلة الاولى من خطاب السيد رئيس الوزراء بانها مرحلة الخطاب الوثوقي القوي، وكان محوره تحقيق الامن والا ستقرار، وإنجاز مشروع الحكومة الوطنية، فضلا عن تبشير الشعب العراقي بعهد الإعمار والازدهار والبناء، بل كان قد وعد الشعب بأن (لا عاطل سنة 2009) وذلك في خطابه الدعائي في الانتخابات البلدية الاخيرة،كذلك التبشير بعهد (تفكيك) المحاصصة الطائفية في الوزارات والدوائر الحكومية.
المرحلة الثانية استطيع أن أسميها مرحلة خطاب الشكوى والتبرّم، فعندما اتضح أن الامن هش في جوهره، بل أن البلد مهدد بالانهيار أمنيا، وأن حكومة (الوحدة الوطنية) إدعاء لا أكثر، والاّ أي معنى لهذه (الوحدة)، والعلاقة بين رئيس الوزراء ووزير الداخلية وصل بها التوتر والتشنج والخلاف إلى حد القطيعة والتهديدات المبطنة والعلنية؟! ثم لم يتحقق شي ء من تلك الوعود الكبيرة، فالبطالة استمرت بعد عام الوعد، والمحاصصة الطائفية في الدوائر والوظائف حتى على مستوى السلك الدبلوماسي ما زالت هي الفيصل، والا عمار ما زال حلما... عندما اتضح كل ذلك بدا خطاب السيد رئيس الوزراء بالانتقال من الوثوقية ألى الشكوى، فقد تهجم على البرلمان بشكل واضح، واتهمه بالخيانة الشعبية، كما أنه تهجم على بعض رفاق دربه بالامس، ووجه لهم تهمة تعطيل برنامجه الاعماري، بل وتهجم على طاقم حكومته بشكل و آخر، كل ذلك في خطاب يتسم بالشكوى! الشكوى المرّة، سواء في خطابه لبعض العشائر أو في خطاباته العامة بمناسبة و أخرى.
تصاعدت حدة التفجيرات، وتزايدت فضائح الاختلاس، واشتدت معاناة الناس، وتتابعت حدة الخلافات مع الكثير من الانظمة المجاورة، وتكثّرت محاولات التغطية على مجرمي الاعتداء على المال العام، وناهبي أموال الشعب وعلى يد كبار المسؤولين ومن ذوي العلاقة الروحية والتاريخية بأكبر مسؤول في السلطة التنفيذية، فكان من الواجب أن يغير السيد رئيس الوزراء نكهة خطابه...
ما هي النكهة الجديدة لخطاب السيد رئيس الوزراء العراقي في مرحلته الاخيرة؟
أستطيع أن اسميه خطاب الصمت...
لقد اختفت نبرة الوثوقية والتبشير، لان لا وثوقية حقيقية، ولا تبشير وجد مصداقيته على الأرض،، وقد اختفت نبرة الشكوى، لان مفردات الشكوى حُسبت لصالح الدعاية الانتخابية، وليست هناك منطقة وسطى بين الوثوقوية والشكوى، فليس للسيد رئيس الوزراء سوى الصمت!
خطاب الصمت بالنسبة للسيد رئيس الوزراء لا يعني الامتناع عن الكلام، بل يعني فقدان المادة المحورية للكلام، التي تتصل بكونه رئيس حكومة، فيجب أن يقدم شيئا لشعبه، خاصة والشعب يعاني من مشاكل كبيرة، تتصل مباشرة بمصيره الحياتي بكل معنى الكلمة، ا منيا وا قتصاديا وا جتماعيا وتربويا وسياسيا!
نعم، هناك مستجّد ربما يستغله السيد رئيس الوزراء في خطابه الآتي، إنه المستجد الذي يمكن أن يتحول إلى مادة دسمة في الخطاب، ما يشاع في الشارع العراقي عن إمكان (عودة البعث والبعثيين) إلى الحكم في العراق، فقد خطب قبل أيام يطالب العراقيين أن لا يدلوا باصواتهم للبعثيين! وهو خطاب بائس جدا، بل خطاب يصب لصالح البعث والبعثيين من دون ان يشعر للاسف الشديد، ويشكل الخطاب الجديد هذا دليلا مُضافا على أن السيد رئيس الوزراء ما زال في مهد التكتيك السياسي، ولم يمهر لعبة الكلام ولا لعبة الافكار، ولكن لعل هذه النكهة من الخطاب ربما لا تصمد طويلا...
لماذا؟
ترى منْ الذي مكّن البعث والبعثيين من هذه (الامكانية) خاصة وإن الشعب العراقي له موقف صا رم تجاه البعث والبعثيين؟ ومن هو المسؤول عن زج مئات (البعثيين) في الداخلية والدفاع؟
فهل نستطيع أن نقول عن الخطاب الجديد للسيد رئيس الوزراء بانه يشكل مرحلة جديدة، وأن مرا حل أخرى تنتظره؟
ونحن ننتظر أيضا!