1
ينسب العاملون على تأريخ الفكر الفلسفي استخدام كلمة أو مصطلح (اللوغوس) إلى فيلسوف التغير هيرقليطس (540 ــ 475 ق. م)، باعتباره القانون الكلي الذي يكمن وراء كل هذه التحولات الكونية الهائلة، بل الذي يسري في صميم هذا الوجود، ثم تطور الاستعمال على يد الفيلسوف اليهودي الاسكندري فيلون (30 ــ؟)، الذي تعالى بهذا اللوغوس ليجعله الوسيط بين الله وبين العالم، ورغم أنه عدّد الوسطاء بما جعله يمهِّد بكل وضوح للإفلا طونية الجديدة، ولكنه كان يرى أن كلمة الله هي اللوغوس الأول لانها الوسيط الأول، ثم جاء يوحنا المعمدان ليعلن أن الله هو الكلمة، وهذه الكلمة هي المسؤولة عن الخلق و الإيجاد، ومن ثم تواصل الاستعمال بصيغ متنوعة، ولكنها لا تخرج في الحقيقة عن اللجوء الى ثابت يفسر المتغير، ومن هنا كان تعريف بعضهم للوغوس هو تلك المرجعية الثابتة التي يُحال إليها، بصرف النظر تقريبا عمّا نحيل من وجود أو فكر أو حركة، وهذا التعريف يحررنا من سجن اللوغوس في قوالب جامدة، ويطلق حرية البحث في تتبع حنين الفلاسفة إلى الثابت الميتافيزي حتى وإن كانت نكهته مادية صرف، وبالتالي، يؤكد لنا أن (اللوغوس) إرث إنساني، كان قد وُلِد ولم يمت، وسوف يبقى حيا مشتعلا بنور المعرفة الانسانية وجهود العقل الإنساني وراء مرجعية يرتاح إليها في قطع سلسلة الإحالات من دون نتيجة نهائية، وهي القضية التي استفزت فيلسوف التفكيك جاك دريدا (1930 ــ 2004)، حيث أصر على تفكيك هذا اللوغوس اللعين، وتدميره إلى الابد، با عتباره النسخة الحقيقية للميتافيزياء الغربية طوال التاريخ، حيث تتسلل الى كل جهد غربي فلسفي تتحكم بمساره التفصيلي ! وقد كانت صرخة التفكيك مدوية لأنها كما يرى بعضهم أعلنت موت (الانسان) بشكل قطعي بعد أن مهدت لذلك (البنيوية) رغم اختلاف المدرستين من حيث المنهج، مستكملة بذلك مسيرة نيتشة (1844 ــ 1900)، الذي سبق وأعلن (موت الله)، وذلك ضمن مسيرة شك متوالية اجتاحت بالتدريج كل ثابت يشكل مصدر إحالة بشكل وآخر، بدا من المرجعية الكنسية، إلى مرجعية الفلسفة، إلى مرجعية العلم، إلى مرجعية العقل، فلم يبق شيء إذن سوى أن يموت الانسان موتا معنويا إلى الابد!

2
إن ماء طاليس (624 ــ 546 قبل المليلاد)، وذلك الذي سمّاه أنكسيمندريس (610 ــ 547) بـ (اللامتناهي)، ومن ثم هواء أنكسيمانس (588 ــ 524)، وعدد فيثاغورس (572 ــ 497)، وإله الفليسوف الاغريقي الايلي أكسانوفان (570 ــ 480)، ومبدا الذاتية وعدم التناقض اللذين سطرهما لأول مرة بارمنيدس (540 ــ؟)، كذلك ماهية الحب والكراهية كقوتين توازنان محتويات الوجود في فكر الفيلسوف أنبادوقليس (490 ــ 430)، وفي نفس المستوى جواهر ديمقريطس (470 ــ 361)، وماهيات وطبائع الفيلسوف الأيوني أنكساغوراس (500 ــ 428)، ومُثُل افلاطون (427 ــ 347)، تلك المثل التي يشكل كل العالم إنعكاسا شبحيِّا لها، وعلل ارسطو (384 ــ 322) الاربع، الصورية والمادية والفاعلية والغائية، وتلك النفس الحارّة التي تحكم العالم في الفلسفة الرو اقية، ولوغوس فيلون (30 ـ 50)، وفي السياق ذلك الينبوع الجبري الثر للعقول العشرة، أي (الاحد) في فلسفة إفلوطين (205 ــ 270) بعد الميلاد، ومن على الجهة الاخرى، الشرق، هذا العالم السحري التخيلي كما يرى فلاسفة وعلماء الأناسة الأوربية نلحظ بكل سهولة هذا السعي الحار لإكتشاف الحقيقة الثابتة، المرجع النهائي وراء هذا التغيير الكوني، السيولة الكونية المتدفقة، فكانت الكلمة، الكلمة الإلهية التي عبر عنها خير تعبير يوحنا في سفره الخالد، فهي وإنْ لم تكن لها القدرة على الخلق من العدم كما يرى الكثير من الباحثين، ولكنها مآل خلاص وارتياح، بل هي (مُعادِلة لفعل الخلق الواقعي) / دراسات في الفكر الفلسفي في الشرق القديم، طيب تزيني ص 80 / وقد بلغت الذروة في فعليتها الخلاّقة في بيان القرآن نسبة إلى الله تعالى، فكلمته فعله بالآن، والفاء في (كن فيكون) للضرورة اللغوية ليس إلاّ، ولا يشذ عن ذلك عمانوئيل كنط (1724 ــ 1804) عندما يشرِّع لنا (الشيء بذاته) فهو نهاية المطالف للشيء، عصي عن الإدراك ولكنّه يشكل العتبة النهائية في تسلسل أي محاولة للتعرِّف على الشيء، الموجود، وقبله كان لوغوس ديكارت (1596 ــ 1650) تلك المعادلة التي قلبت المسيرة الفلسفية ودشنت لها بداية تاريخ يسمى بـ (الفلسفة الحديثة)، أقصد تلك المعادلة التي أعتبرها تتعالى على كل شك (أنا أفكر فأنا إذن موجود)، وهل يسلم سبينوزا (1632 ــ 1677)، من هذه السنة عندما يقترح الضرورة المطلقة في نظامه الفلسفي ليبثها في الكون بأسره، فلا يحدث في شي ء قط، إلاّ كما ينبغي له أن يحدث؟! وهل يمكن أن نستثني شبنهاور (1788 ــ 1860)، وهو الذي سن لوغوس (الإرادة العمياء) متسيِّدا على الوجود الامر الذي نستبعد معها كل عقلانية وكل غائية، وهل يتناهى النسيان إلى برغسون (1859 ــ 1941)، الذي هام بتيار الحياة الزاخر الجارف المتدفق بالحيوية والعطاء وبالاخص الحياة النفسية / التطور الخالق /، فهل الحياة إلاّ الإله، أو هي مرجعيتنا لفهم صيرورة الوجود وتحولاته وتجلياته؟ وفيما يكافح هوسيرل (1859 ــ 1938) من أجل استعادة (الماهية) لكرامتها بعد أن تبددت في ضوء الفكر الفلسفي الحديث أو المعاصر، أمضى مرجعية جديدة تتجاوز التجربة والمباديء الفطرية الاولى، إذ يجب أن نعود القهقرى، قبل الاحكام، قبل النظريات، قبل البديهات، قبل الافكار، ترى أي شيء هذا يا إلهي؟ أنه وكما يسيمه (المجري الحيوي الخالص)، إنّه (موطن التجربة المعاشة، لنرى ما يحتويه ذلك المجال من رؤية مباشرة حدسية، وما يمثل فيه من ماهيات) / مع الفيلسوف، الفندي، بيروت سنة 1980 ص 210 /
تلك هي قصة (اللوغوس)، إنها إرث إنساني ثر، تارة هو قانون يحكم العالم، وأخرى على بذور أُولى ينبثق منها التخلُّق الكوني الهائل، وثالثة غاية يتجه نحوها العالم جبرا وحبا وشوقا، ورابعة معادلة فكرية تنتهي عندها كل المعادلات الفكرية، وهكذا (الله، كلمة، منطق، جوهر، بذور أولى...)، مرة ينتمي إلى الانطولجيا واخرى الى الابستمولجيا، فإننا ننظر إلى تلك المرجعية التي تتسم بالثبات والشمولية، المرجعية التي تنتهي عندها الحركة، المسيرة الكونية، الفكرية، مباينة للطبيعة أو محايثة، ذات العقل أو من إفر ازاته، على مستوى الكون أو المعرفة.
كل فيلسوف يؤسس لـ (لوغوس)، كل مدرسة فلسفية هذا ديدنها، حتى السفسطائية لها لوغوسها الحاكم، والجدلية رغم أنها فلسفة الحركة، ولكن اعتمادها حصرا قانون الجدل كمرجعية نهائية في الفكر والطبيعة إنما تؤسس لـ (لوغوس) نهائي.
يقول أرثر لفجري: (يسعى العقل ا لبشري وراء موضوع أو موضوعات تأمليَّة شتّى ثابتة ونهائية ومتماسكة قائمة بذاتها ومعللة لذاتها...) / سلسلة الوجود الكبرى، آرثر لفجري ترجمة ماجد فخري ص 71 /، وقد كانت (البِنية) التي أطلق عليها الكاتب المصري الخالد ابراهيم زكريا (صاحبة الجلالة)، دخلت الأدب لتحدثنا عن عقلانية الجوهر الذي يكمن في النص الأدبي، ودخلت العلوم الاجتماعية ـ وهي ليست علوما بالعرف البنيوي ــ لتكشف لنا عن النموذج المفارق، نموذجها بطبيعة الحال، ومن ثم كانت هناك البنيوية الرياضية، واللغوية، والسايكولجية، وهكذا، وهي في لحمتها تعني تلك القوانين التي تحكم الظاهرة، الشي ء، الفكرة، القصيدة، اللوحة، المفهوم، الطقوس، العقائد، الاساطير، الكائن الرياضي... تحكمها من داخلها، نسق ثابت، هناك يكمن، في الاعماق، نسق من العناصر، وفق مبدا أو قاعدة الكل متقدم على الجزء، مستعيرة ذلك من الجشطالت النفسي، وبصرف النظر عن التفاصيل، كان هناك إله جديد يفرض نفسه، تلك هي (البِنية)، كانت لوغوس النصف الثاني من القرن العشرين.

3

هل تمكن دريدا من تحطيم هذا اللوغوس؟
يبدو أن الأمر مشكوك به، فهو عندما اعلن المعنى المؤجل، وقضى على كل ما يمكن أن نقبض عليه بسرعة خاطفة، وزجنا في متاهات البحث عمّا لا نجده إلى أبد الآبدين، حيث يرقص الدال رقصة الشيطان الذي يلوح لك من بعيد بأن الحل (هنا)، لكن (هنا) سرعان ما تكون (هناك)، وهكذا دواليك، إنما يحيل النص ـ باعتباره من أهم مواد العمل الدريدي ــ إلى مجرّد (إمكان )، ولكن هل هو (إمكان منطقي)؟ أم هو (إمكان واقعي)؟ ومهما كانت النكهة، نعود مرّة أخرى الى حاضنة الميتافيزيك، لأن الامكان بأي مفهوم كان هو مفهوم متعال، مفارِق، يشكل الجامع المشترك لكل هذه الاحالات المتوالية بدون توقف، ينطبق عقليا عليها انطباق المفهوم على الماصدق في لغة المنطق الارسطي، ومهما يكن فإن دريدا يعيش في ضميرنا نحن العرب، ليس لانه بن جلدتنا الابوية، ولكن لأنه كان إنسانا.