الحلقة الأولى

إنّ مسألة الجزية ليست سائبة هكذا، فهي تسقط، بل لا معنى لها في حال السلم وهو الأصل في العلاقات الدولية في الفقه الإ سلامي، وفي حال المعاهدة على السلم، وليس لها مصداق إذا لم تكن هناك حكومة إسلامية لها سيادة حقيقية على المجتمع، ومن هنا كانت حكماً نادر الوقوع، وسوف نعرض الى رأي آخر في اية الجزية هذه عندما نتناول قراءة آيات السيف في الفصل المخصّص لذلك.
ولكن لابد ان نشير الى مجموعة نقاط مهمة في مجال الجزية، تهدف الى تصحيح الكثير من المفاهيم والتصورات ا لتي أثيرت حول هذا الموضوع.
أولا: إنَّ نظام الجزية ليس نظاماً إسلاميِّاً صرف، بل هو نظام عالمي، وردت نصوصه في الإنجيل، فقد نقل الكتاب المقدس قول المسيح عليه السلام لسمعان وقد جاء فيه (ماذا تظن يا سمعان؟ ممَّن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب، قال له يسوع: فإذا البنون أحراارا) / متى 17 / 24 _ 25، وفي يشوع 16 / 10 (فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم الى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية)، وجبايتها وعشَّارها، وقراءة في تضاعيفها الشرعية الاسلامية سوف تكشف عن بساطتها الواضحة، سواء على صعيد الكم أو الكيف، كما انّها توازي تكليفاً وضعه الاسلام في رقبة كل مسلم مستطيع ماليا، وتلك هي الزكاة.
ثانياً: إنَّ مصطلح (الذمَّة) ليس فيه ما يشين أو ينقص من كرا مة أو قيمة كما هو شائع في الوسط العام، فـ(الذميون) هم أهل الكتاب، وهم ذميون بمعنى في ذمّة المسلمين، أي في عهدتهم حماية ورعايةً وحباً وإخلاصاً، وبالتالي هو مصطلح تواصلي على اساس ايجابي، جوهره التواصل المسؤول، فقد فسِّرت الذمة بالعهد والضمان والعقد، فهي مسؤولية ثقيلة، وهي ذمّة ربانية، يجب الوفاء بها.
ثالثاً: ندرج هنا بعض الإ حكام الشرعية التي أجترحها بعض الفقهاء في خصوص اهل الكتاب، ونذكر ذلك على وجه المثل والاختصار.
bull;في رأي ابن حزم (من كان في الذمَّة وجاء أهل الحرب الى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع وا لسلا ح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمّة الله تعالى، وذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إ همال لعقد الذمَّة) ـ الفروق 3 / 14 ــ 15 ــ
bull;في تفسير القرطبي (الذمِّي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، فكلاهما صار من أهل دار الاسلام، وهذا يدلُّ على انَّ مال الذمي قد ساوى مال الإسلام، والذي يحقِّقُ ذلك أن المسلم يُقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدلُّ على أنَّ مال الذمي ساوى مال المسلم، فدلَّ على مساواته لدمه، إذ المال إنِّما يحرم بحرمة مالكه) ــ القرطبي
bull;وفي فقه إبن النجار (يجب على الإمام حفظ أهل الذمَّة ومنع من يؤذيهم، وفكُّ أسرهم، ودفع من قصدهم بالأذى) ــ مطالب أُولي النهي 2 / 602 ــ
bull;وفي فقه النووي (ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم نفساً ومالاً، ودفع أهل الحرب عنهم) ــ المغني 9 / 290 ــ
bull;وفي فقه الماوردي (ويلتزم الامام ببذل حقين: أحدهما الكفُّ عنهم، والثاني: ا لحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ أمنين، وبالحماية محروسين) ــ الأحكام السلطانية 143 ــ
bull;ولا يجوز التعرّض لكنائس اهل الذمة، ولا منعهم من شرب وإكل ما يريدون حتى وإن كان مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
bull;وفي وسائل الشيعة (... عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا أُخذت الجزية من أهل الكتاب فليس على أموالهم ومواشيهم شيئ بعدها) ـ 15 / 153 ــ
bull;أن الجزية هذه لم تتحدّد، وأكثر الفقهاء على أنّه قدر طاقتهم وأستطاعتهم، ففي رواية عن الإمام الصادق أن الجزية يقدرها الأما م على قد (ما يطيقون).
والأن ننتقل إلى تضاعيف الآية لنتساءل عن معنى (عن يد)؟
هناك أكثر من تصور في هذا المجال، أهمها: ــ
الاول: اليد بمعنى الجارحة، وبذلك يكون المعنى من يدهم الى يدكم، أي نفي الواسطة! وهو رأي لا أتصوره يتمتَّع بقوة ومتانة، معنى ساذج بسيط، لا ينطوي على الكثيرمن البلاغة والرصانة.
الثاني: اليد بمعنى النعمة والقدرة، وبذلك يكون المعنى أنهم يعطونها عن قدرة ومكنة، وهذا ينسجم مع الأحكام الشرعية التي تستوجب الكفاءة والقدرة على دفع الجزية، حيث العوز المادي أو الإقتصادي أو الطبيعي يحول دون أخذ الجزية كما هو مفصَّل في الفقه.
الثالث: ان يكون المعنى انّهم يعطون الجزية عن يد مؤاتية، وليس هناك ما يؤيد هذا المنحى، بل في هذا الموقف نصادف نوعاً من التحميل اللغوي الذي لا داع له على إلاطلاق.
الرابع: ان يعطوها عن يد متسلِّطة عليهم، وهو بعيد غاية البعد.
وآخيرا نريد ان نعرف معنى (وهم صاغرون)، حيث نقرأ في الميزان (أن المراد بصغارهم خضوعهم للسنّة الإسلامية لا إهانتهم والسخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية، فإنَّ هذا مِمَّا لا يحتمله السكينة و الوقار الإسلامي، وإن ذكر بعض المفسرين)، وفي الحقيقة هذا يتناسب بالتمام مع نظرة القرأن الى الإنسان بشكل عام، كما أنَّه يتناسب بالتمام مع ما ورد عن الرسول في حق أهل الكتاب، بل ذلك لا يتناسب مع تسميتهم بـ (أهل الكتاب)، فإن هذا من باب التوقير والإجلال والإحترام، حيث نسبهم الى دين، ولم ينسبهم الى مدينة، أو عشيرة، أو نبي، أوعادة، أو مرحلة زمنيَّة، وعن رسول الله (من آذى ذميَّاًَ آذاني ومن آذني آذى الله)، ومن هنا يقول الفقيه الكبير القرافي (أن عقد الذمَّة يوجب لهم حقوقا علينا لأنَّهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمَّتنا وذمة الله، وذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن أعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيّع ذمَّة الله، وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمَّة الاسلام) ــ الفروق 3،14 ــ
إنَّ الذي أخلص له من كل ذلك، ما ذكره ا لسيد زفزاف، من أن الجزية قبال الإعفاء من الخدمة العسكرية، وهي بمثابة عقد ينتهي إذا شارك الأخوة الذميون في الخدمة العسكرية لا أكثر ولا ا قل، وفي ذلك فتى بعض العلماء الكبار، وليس هناك اي دلالة على الإقصاء، بل هم من لجّة المجتمع، أحباب و اصدقاء ومشاركون، فإن القاعدة الجوهرية هنا أو القاعدة الإساسية هي المشاركة بثلاث مقتربات، الإنسانية والوطنية والإجتماعية، وهذه جملة شواهد سريعة على ما نقول: ــ
1: لقد أباح الاسلام مؤاكلتهم ومصاهرتهم ومعاشرتهم بلحاظ الشراكة الإنسانية الجامعة (اليوم أُحلَّ لكم الطيِّبات وطعامُ الذين أُوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حلُّ لهم). وفي تصوري انّ هذه الحليَّة تنبع من الإيمان بالتواصل الإنساني باعتباره القاعدة الأساسية في المجتمع، بدليل الحليَّة المتبادلة، وليس إنطلاقاً من ضرورات إ قتصادية باردة، فإنَّ المؤاكلة المشتركة تعبر عن إندماج إنساني وتكامل إجتماعي، تعبِّر عن روح مشتركة، تعبِّر عن تبادل الثقة النفسية والروحية، كذلك المصاهرة (اليوم أُحلَّ لكم من الطيِّبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حلُّ لكم وطعامكم حلُّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمُحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم...)، فهي دليل الثقة المتبادلة، ودليل على إرساء مفهوم التواصل باعتباره قاعدة المجتمع.
2: تسميتهم بـ (أهل) الكتاب ملاحظة دقيقة، تؤكِّد على قاسم مشترك، هذا القاسم المشترك يتعدّى الحدود المادية الجافّة، فهناك قاسم مشترك هو الدين السماوي، فالنصارى واليهود أصحاب كتاب، وبالتالي هناك رابط روحي متين، وبالتالي هناك تواصل روحي بين المسملين وأهل الكتاب، فكلا هما يؤمن بالغيب، والنبوة، والثواب والعقاب، هناك خيوط متينة تجمع بين الطرفين.
3: التعامل معهم على أساس البر كقيمة إنسانية جميلة تحمل في ذاتها جمالها، ليس لعرض خارجي، ولا لمصلحة إقتصادية أو سياسية، وإنتهاج القسط معادلة جوهريَّة في التفاهم والتواصل والمشاركة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين) ـ الممتحنة 8 ــ فهذه الآية الرائعة تؤسّس لمفهوم كبير، ذلك ان السلام الإ جتماعي قاعدة أصيلة، والخلاف العقدي والديني لا يعني الحرب الإجتماعية أو العقوبة الأجتماعية، السلام الإجتماعي هدف سام، هدف كل أبناء المجتمع، وهم وسيلته أيضا، حقا هنا نلتقي بقاعدة ذهبية، وأشدُّ ما يؤلمني ان نتناول هذه الآيات باسلوب أخلاقي عادي، ولا ننفذ الى جوهر المطلوب من الآية الكريمة.
4: الدعوة إلى التعارف الفكري والروحي والإجتماعي، وهي دعوة مشتقة من دعوة القرآن الكريم العامّة إلى ذلك، فقد قال الله تعالى (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وإنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا...)، وفي تصوري أنّ هذه الآية ليست في صدد الأخبار عن حكمة التعدد القومي والقبيلي على سبيل العفوية، أقصد أن الآية لا تريد الإخبار بان هذا التعدّد يقود الى التعارف بمفرده، على سنة الطبيعة القاهرة، بدون إرادة مسبقة، وعزم على ذلك، ومن دون تخطيط وعمل ومبادرة، ومن هنا تشكل الآية دعوة صريحة الى التغلغل الإ جتماعي المتبادل، الى التعارف الواسع النطاق، التعارف الفكري والروحي والإجتاعي، وهذا الفهم للاسف الشديد مفقود لجوهر الاية، حيث أقتصر الفهم على كون ذلك من آيات الله تعالى، أوأن الأية جاءت لحذف كل إمتياز عنصري أو لغوي أو مذهبي، ولم تخرج التصورات الموجودة عن إ طار هذه التوجُّهات البسيطة الأخلاقية.
5: الدعوة الى محاورة الأخوة من (أهل الكتاب) بـ (التي هي أحسن)، وليس من شك أن الحوار بهذه الصيغة، او بهذه العقليِّة ظاهرة لحقيقةٍ أعمق، فليس هناك معنى للحوار بـ (التي هي أحسن) إذا لم يتوفّر مسبقاً إحترام للرأي الآخر، بل ما لم يكن هناك أقرار مسبق بأصالة هذه القاعدة، هناك إ حترام للعقول والأفكار وحملتها، هذا هو جوهر الجدال بـ (التي هي أحسن)، و(أحسن)، هنا قد لا تشير الى قوّة الدليل، و رصانة العارضة و البرهان، بل هي تشير الى أخلا قيَّة الحوار، أي الاحترام المتبادل، و الاستماع، وعدم الاستهزاء، ومراعاة المقام الروحي للاخر، بل هنا نقطة في غاية الدقة و الروعة و الشفافية، مفادها ان المسلم ينبغي عليه ان يفتش عن الطريق الأ سلم فكريّاً و إخلاقيَّاً وذوقيِّاً قبل الشروع في جدال (الآخر)، فإن (الأحسن) ليس خياراً بين خيارين، بل هو المطلوب، وليس هو بالضرورة بيّن في مملكة الحس الجاهز، ومن هنا ينبغي سبر الواقع لاشتقاق وإستنباط (الاحسن) قبل التورُّط في هذا الجدال.
أن النص ليس ظاهراً وحسب، بل هو بحر من الدلالات، وهو سيل من الا فكار و التصورات التي تكمن في باطنه، وتتواراى في أخاديد كلماته وحروفه والعلاقة بينهما. ونحن نعلم ان الكتاب الكريم حرَّم السب تحريماً مطلقا، وحرم التجديف بحقوق وشرف الناس وسمعتهم، مهما كان دينهم، ومهما كانت لغتهم، والسب ظاهرة بارزة في حوار المتخلفين وا لطغاة وا لاميين، وهذا يضيف جمالا آخر الى جمال الاسلام في معالجة قضايا الخلاف.
6: وفي هذا الإ طار تندرج نقطة مهمة، ذلك أن المسلم ليس من حقه محاسبة الناس على إ خلاقهم وإنتمائاتهم الدينية، فذلك من أختصاص العدالة الالهية في اليوم الآ خر (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) ـ الحج 68، 69 ــ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحقيقة ليس أمراً في جوهره البعيد بل هو مجرّد دعوة، بدليل متوقفة على إستجابة الأخر، فإذا لم تُضمَنْ أستجابة المقابل لا يجب، بل قد يكون حراماً في بعض الاحيان، كذلك النهي عن المنكر، لا يعدو ان يكون دعوة سلبية، ولكن الناس فهموا ذلك عنفاً وإرهابا للاسف الشديد، ومن وراء ذلك دعاة إرهاب وقتل.
7: والقرأن يدعو اهل الكتاب الى الحوار الحر، الحوار القائم على الدليل والإقتناع الفكري (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) وفي الحقيقة مثل هذه الدعوات تنطوي على بعد إنساني رشيق، فإنها تُمضي الحوار باعتباره جوهر العقل، او ان الحوار طاقة هائلة يمكن ان توصل الى الحقيقة الموضوعية، وهنا يبلور القرآن الكريم الحوار كحقيقة مجرّدة بحد ذاتها، يمكن ان تكون محل نقاش وتنظير، والحوار رديف الحرية، أو الحرية شرط الحوار، وبهذا يخلق القرأن جوَّأً ساخناً بالفكر. على ان الحوار يرسي قاعدة لحمتها الانفتاح، فليس هناك إنغلاق نفسي على الاخر، بل هناك إ نفتاح حي متحرِّك، وهذا يمكن يتجدّد ويتخلّق باستمرار (قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم...).