قال مرّة هنري كيسنجر مستشار الامن القومي الامريكي الاسبق والمعروف بمهندس السياسة الامريكية لعقود من الزمن ما معناه عن الشرق الاوسط بانه الجغرافية الصغيرة والتاريخ المحتشد، والمعنى واضح، فالشرق الاوسط منطقة جغرافية صغيرة نسبيا، ولكنها مخزن لكم هائل من الاديان والمذاهب والنحل والملل، والمعنى الباطني لتوضيح أو بيان المستشار المعروف، أن منطقة الشرق الاوسط هي منطقة تفجر دائم!
قبل أيام كان هناك حوار بين مجموعة من المهتمين بشؤون العالم الاسلامي من على أحدى القناة الفضائية، وكان موضوع الحوار هو المقارنة بين تيارين كبيرين اسلاميين في مصر، الأول هو التيار الصوفي والثاني هو التيار السلفي، وكما هو معروف هناك شبه احتراب علني تارة وخفي تارة أخرى بين التيارين، من خلال مظاهر واضحة، من اهمها مظاهر الاحتفالات بالمناسابت الدينية، وعلى رأسها الاحتفال بمولد النبي العظيم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسبطه الحسين بن علي عليه السلام، وغيرها من المناسبات الدينية، حيث يحشد الصوفيون كل قواهم لاحياء هذه المناسبات، فيما يشن السلفيون حربا شعوى على هذه الاحتفالات، باعتبارها بدعا، حيث لم يرد فيها كتاب كريم أو سنة مطهرة.
وقد اختلف المحاورون حول نهاية هذا الصراع، فمنهم من راي انتصار السلفية ومنهم من رأي انتصار الصوفية، ولكل دليله.
السلفية يتهمون المتصوفة بالتشيع، والمتصوفة اعلنوا أنهم ليسوا شيعة، وهم تبع الرواية السنية، يلتزمون بها، ولا يحيدون عنها، والصوفية يتهمون السلفية بأنهم يريدون امحاء الاثر النبوي، وإن السلفية تعبير عن غلاظة فكر ونظر وتصور!
شبه الاحتراب هذا له مثيله بكل صرا حة بين السنة والشيعة في العالم الاسلامي، ليس احترابا على شكل حرب اهلية والعياذ با لله، بل هناك شبه مواقف متشنجة، وقد عبَّر ذلك عن نفسه باشكال متعددة، من اتهامات عقدية متبادلة، وأخرى اتهامات بمحاولة السيطرة على قيادة المجتمع المسلم، وثالثة شكوك تتعلق بتفاوت الحقوق بين الطائفتين من مجتمع لآخر ومن دولة لاخرى، وقد اتهمت بعض الدول الشيعة هنا وهناك بانهم يعملون لإيران، كما أن هناك اتهامات لعبض الشيعة للسنة بأنهم مجرد أجندات سعودية، ويقع على طرفي الصراع ايران والسعودية انطلاقا من تقدير ماض بشكل تقليدي، يعتبر ايران الممثل (الرسمي والدولي) للشيعة، ويعتبر السعودية (الممثل الرسمي والدولي) للسنة.
إذن هناك شبه ا حتراب صوفي / سلفي، وشبه احتراب سني / شيعي، ولكن لم تنتهي المعادلة عند هذه الصيغتين، بل هناك شبه احتراب بين الاحزاب الدينية نفسها، كما هو الحال بين حزب التحرير وحزب الاخوان المسلمين في مناطق عديدة من العالم الاسلامي، وكم له من نظير، وهذا الاحتراب يتداخل بصورة وأخرى مع صيغ الاحترابا ت أخرى ذات صلة، وهناك الاختلافات الحادة بين التوجهات المرجعية الدينية على الصعيد الشيعي، فقد أفرزت التطورات الاخيرة في ايران والعراق وبعض مناطق الاكثرية الشيعية إن هناك التيار الخيميني ـ نسبة الى السيد الخميني رحمه الله ــ وهناك التيار السيستاني ــ نسبة الى السيستاني حفظه الله ــ وهناك تجاذب خفي تارة وعلني تارة اخرى بين ا لتيارين، على شكل صيغ بسيطة في لغة الاحتراب، ولكن ليس معلوما إنها لا تتطور إلى صيغ أكبر وا عمق وا خطر، هناك أيضا شبه التجاذب بين التيارات الطقوسية الديينة وبين نخب التيار الاسلامي، فإن النخب الاسلامية في العراق ـ مثلا ـ ليست راضية ولا ترتضي أن يكون زمام قيادة الشارع الاسلامي في العراق بيد قيادات طقوسية، شعبوية، فهي تخاف مثل هذه الظاهرة، وترى في بعض ممارسات قياداتها والعالمين عليها خطرا على نقاء العقيدة، وسطوعها ــ من وجهة نظرها بطبيعة الحال ــ ثم تخاف من أن ينفلت زمام قيادة المجتمع يدها، فقد أثبت الاسلام الطقوسي بانه ذات سطوة على الضمير ا لمسلم، خاصة الشيعي منه، والقائمون على مثل هذا التيار لا يرتاحون للنخب الاسلا مية، و (ربما) يشككون بشرعيتهم ونواياهم، ولكل من التيارين ا جندته وفكره ودليله ورجاله.
هناك كلام عن صراع أو بالاحرى تنافس في المستقبل بين تركيا والسعودية على قيادة العالم الاسلامي، أي بين الحنفية والوهابية، هناك كلام كثير عن صراع أ و تنا فس مستقبلي حاد بين تركيا وايران على قيادة هذا العالم، أي بين السنية بشكل عام وا لحنفية بشكل خاص وبين الشيعة باعتبار إن ايرا ن تمثل (رسميا ودوليا) الشيعة على حد بعض التصورات السياسية.
هذا الاحترابات والتجاذبات بين ابناء ومنتسبي المذاهب الاسلامية في العالم الاسلامي، وبين أبناء المذهب الوا حد، ليست بعيدة بطبيعة الحال عن الصراع والتنافس بين الانظمة السياسية في المنطقة، تساهم بشكل فاعل ومؤثر في إثارتها، أو تأجيجها، أو تأجيلها، أو إسكاتها، بل هناك من يرى أنها أصلا تعبير عن هذا الصراع في التحليل الاخير، كما ليست بعيدة عن تخطيط دولي (استعماري) يهدف لغايات محددة ومرسومة بدقة، فالسياسة وراء كل شيء في عالمنا المعاصر، حتى بعض مظاهر النشاطات العلمية، بل حتى التنافس الرياضي بين الفرق الرياضية، وليست بعيدة عن صراع تجار كبار على المزيد من الكسب المادي والاستحواذي، ولا بعيدة عن التنافس بين زعامات ورجالات دينية على المزيد من القوة والوجاهة، وا لقائمة تطول.
ترى ما هو مصير هذه الظاهرة المخيفة حقا؟
الجواب على هذا السؤال ليس بهذه السهولة، ولكن بودي أن اسال هنا، ترى أين هو دور المثقف المسلم والشرقي من كل هذا؟