ليس الثقافة شأناً نخبويّاً كما يزعم البعض أو يتقصّده بغرَضٍ مُبيّت وظالم، إنّها موجودة في كلّ مكانٍ حيث يوجد الإنسان، ومنظورٌ إليها كعنصر حيويّ من عناصر حياتنا التي تشمل إيقاع النشاط الإنساني بأكمله، وإلّا لما كانت لها هذه العلاقة العضوية الخصيبة حيناً، والحادّة المتوتِّرة حيناً آخر ـ لكنَّها ضرورية في كلّ الأحوال ـ مع مجموع آليّات هذا النشاط وتمظهراته في التاريخ، واللغة، والمجتمع والسياسة.
وإذا اقتصرنا على علاقة الثقافة بالسياسة، وهي العلاقة الحبلى بأدوات الصراع المجتمعي، وجدنا أنّها علاقة جدليّة، أي أنَّ كلّاً منهما يفترض الآخر، فلا غنى له عنه في تدبير أخلاقيات الوجود البشري، بلا تبعية ومتعاليات. لكن هناك توجُّهاً عامّاً ينزع إلى تهميش الثقافة الجادّة وتغييبها في حياة المجتمع وفضائه العمومي من جهة، وإلى استبدالها بأنماطٍ ثقافويّة مبتذلة تُحسب عليها، ليس من السياسة هذا النزوع، بل من السياسويّين الذي يخشون من سياسات الفعل الثقافي وما يمكن أن يخلقه من قدرة على الرفض والاحتجاج والنقد، ويحمله من مبادرات بالحركة والتغيير والتنمية. ومن المؤسف، أنّ هذا التوجُّه يحدث الآن في المغرب، وبأدوات تجميليّة أخفى من السابق وأدهى.
إنّنا اليوم في مفترق طرق حقيقي، وقد تركنا سياسة السياسويّين تفعل فينا ما تشاء بدون رقيب، وذلك نتيجة عاملين حاسمين: العامل الأول هو غياب قواعد الديمقراطية ومصادرة الحريات، فيما يتجلى العامل الثاني في تسخير أدوات الثقافة في خدمة ولاءات السلطة التي أتلفَتْها عن ميدانها الحقيقي وأفرغَتْها من محتواها الثقافي النقدي والإنساني، سواء كانت سلطة الدولة أو الحزب أو سلطة الدُّوكْسا. لقد سبّب كل ذلك في اختلال العلاقة بين الثقافي والسياسي، وبالنتيجة في معاناة المثقفين المغاربة خلال العقود الأربعة الأخيرة من أصحاب القرار الذين اعتمدوا على قوى تقليدية لا ترى في الثقافة مدلولها المعرفي والنقدي، بل تبريراً لسياساتها الفاشلة. ومن ثمّة ظلت العلاقة بينهما غير متكافئة، وبقدر الأهمية ذاتها. وهكذا كانت الثقافة في المغرب تُزاح عن مكانها الرمزي بقوّة البطش والحيلة، فلم يكتب لها أن تضطلع بدورها الطبيعي والحاسم في إنجاح الإصلاحات الكبرى التي عرفها المغرب، وفي فتح أوراش الحوار الكبرى، مع الذات والذاكرة والتاريخ والمستقبل.
لا نعرف بالذّات حجم خسارات وأعطاب الممكن المغربي يوميّاً، حيث يتمُّ احتقار الثقافة وتصوير أهلها كأُناسٍ تافهين لا عمل لهم. ما نعرفه، حقًّ المعرفة، أنّ الثقافة ما فتئت تُدحر و يُطوَّح بها، بشكل تدريجي، خارج اهتمامات الناس، وخارج الصراع بأوسع معانيه. ولهذا نفهم اليوم لماذا المغاربة لا يتداولون في حياتهم اليومية، المادّية والرمزيّة، الأشكال الجادّة والحيويّة والخطيرة للثقافة كما تتجلّى في الشعر والمسرح والأدب السردي والعجائبي والفنون التشكيلية والبصرية والمعرفة النقدية، ولماذا يُعادون الحوار والنقد الذّاتي، ويبخّسون الذوق والجمال والمواطنة إلى هذا الحدّ، باستمرار.
لنقُلْ هناك خوْفٌ ممّا هو ثقافي، يُساهم فيه ويُشيعه قطاعٌ من المثقّفين أنفسهم، أولئك الذين تخلّوا عن مشاريعهم في الفعل والتغيير، وانكفأوا على ذواتهم، متواطئين ومتلذّذين ببرق السلطة الخُلّب، وعمائها الآنيّ. وهو ما يوحي بأنّ هناك أزمةُ في الجسد الثقافي، واختلالاً في أدوات تحليله للواقع المغربي، الذي يُوهم بأنّ كلَّ شيءٍ يتغيَّر. لكنّنا لا نُدافع، بشكل سمج، عن استقلال المثقّف. إنّ عمله العقلاني الملتزم بالسياسة وفيها داخل حزْبٍ أو هيئةٍ بدون أن يكون ذيْلاً لأحدهما، يكسب رؤيته للأشياء عمقاً ونفاذَ ذهْنٍ ورأْيٍ يحتاجهما دائماً، لأجل تفكيك آليّات السلطة وفضح ممارساتها، والإصغاء لهموم عصره ومجتمعه، حارصاً على ثرائه المعرفي وتجديد أدوات ثقافته وقيمها الحيّة. وهو، بهذا الانخراط، يقطع الطريق على أدعياء السياسة الذين اتّخذوها سلعة للارتزاق، ويناضل من أجل تخليق الحياة السياسية التي لن تقوم إلا على قاعدة الثقافة في تعدُّدها واختلافها، ويبقي الباب مفتوحاً للمساءلة والنقد لوقف التدهور وإعادة الاعتبار للثقافة فعلاً وممارسة.
يوجد المثقف المغربي اليوم في وضعية تأمُّل هي وليدة مخاض من التحوُّلات والأسئلة، وأظنُّ أنَّه يجب أن يُبادر عبر اختيارات فعليّة وممكنة لها علاقة بإعادة بعث مظاهر الحياة والنهوض بمجالاتها الحيوية، بلا تردُّد وخوف. فقد باتت حاجة المغرب ماسّةً إلى سياسيّين ومُثقّفين مستنيرين يجمعهم حبُّ بلدهم الذي يواجه تحدّيات ومخاطر كبرى، ويعملون على الرقيّ به بين الأمم العظيمة، وإلّا فإنّهم يكونون قد عرَّضوه لكلّ وبالٍ وشرٍّ مستطير، وتخلّوا عن مسؤولياتهم التاريخية اتُّجاهه.
ليت شعري يُبصرون، إنّه على الأبواب: ذلك الظلام الذي يعتمل في الصدور، والظلام الذي يغتنم صمت المجهول: ليت شعري.
شاعر من المغرب
[email protected]
التعليقات