يكاد يكون موقف جماعة الإخوان المسلمين المحظورة من الأقباط والمرأة هو الاعتراض الأساسي للشارع السياسي المصري على تلك الجماعة الدينية السياسية.. فهم يحرِّمون على الأقباط والمرأة الولاية العامة، أو هذا على الأقل ما يعلنون رسمياً، وربما ما خفي كان أعظم وأكثر هولاً، وأقله وجوب دفع الأقباط للجزية عن يد وهم صاغرون، وحرمانهم من الانضمام للجيش المصري.. هكذا يبدو وكأن بمجرد إصدار الأخوان لتصريح أو فتوى تعترف للأقباط والمرأة بحق الولاية العامة، أي بالتحديد حق الترشح لرئاسة الجمهورية، فإن حجر العثرة بهذا يكون قد أزيل، ولم تعد تلك الجماعة خطراً على الوطن وتحرره وتحديثه!!
الأمر بالتأكيد ليس بهذه البساطة، رغم خطورة القضية في ذاتها، ليس خطورة الحرمان من رئاسة الجمهورية، التي هي ومنذ ستة عقود حكر على العسكريين وحاشيتهم، لكن خطورة تهميش المكون القبطي في المجتمع المصري، ويقدر بحجم 15% من المصريين، وبجانبه 50% من المصريين ممثلين في المرأة.. الأمر أيضاً في حقيقته أخطر من اقتطاع أو تجاهل العمود الفقري لمعايير حقوق الإنسان، وهو المساواة التامة بين البشر بغض النظر عن الجنس والعرق والعقيدة، وبالتالي فهو أخطر من أن يتوسل أشباه العلمانيين من الليبراليين واليساريين إلى جلاوزة المحظورة، أن يجدوا لأنفسهم مخرجاً من ورطة هذه المواجهة الصريحة ضد الأقباط والمرأة، عبر تصريح أو تفسير ديني، قد يصدر عن قناعة حقيقية تخضع لمتطلبات العصر، أو يكون من قبيل التقية والكذب الحلال، ريثما يدين لهم الأمر، فيظهر ما خفي وهو أكثر من كثير.
الخطورة الحقيقية التي يشكلها فكر الإسلام السياسي، ليست في ثمار ذلك الفكر واحدة فواحدة، والتي من بينها موضوع البحث هنا، لكنه في الشجرة التي تنتج مثل هذه الثمار، والتي يتفق عليها جميع الطيف السياسي المتأسلم، بداية من قاعدة الظواهري وأسامة بن لادن، حتى الأظرف والأكثر انفتاحاً أو اعتدالاً من هؤلاء، أو من يحرصون على أن يبدوا أمامنا هكذا.. الشجرة أو العمود الفقري لذلك الفكر الذي نقصده، هو تلك الرؤية للحياة من منظور ديني أحادي، يشمل ويهيمن على كل نواحي الحياة الإنسانية، مستبعداً ليس فقط كل عقيدة دينية أخرى، بإدراج منتسبيها في عداد الكافرين وأعداء الله، ولكن أيضاً مستبعداً كل الرؤى الإنسانية التي تشكلت بموجبها سائر النشاطات الإنسانية عبر مسيرة البشرية الطويلة.. الآداب والفنون والموسيقى، حتى العلوم مثل الطب والاقتصاد، صرنا نسمع عن رغبتهم في أسلمتها هي الأخرى، وهي بالطبع لن تخرج من بطون الكتب وأجهزة المعامل والإنترنت لتشهر إسلامها، لكنها ستصاب بالعقم، حين نعالج أو نحاكم علوماً وفرضيات علمية بمقولات ووصايا دينية.. هنا بالفعل يصير الأمر مهزلة بجميع المقاييس.
الخطير في رؤية الإخوان المسلمين من حرمان للأقباط والمرأة من حق الترشح لرئاسة الجمهورية لا يكمن في النتيجة التي توصلوا إليها، ولكن في الأساس الذي بنوا عليه فتواهم أو رؤيتهم، وهو أن رئيس الجمهورية يعد إماماً للمسلمين، وليس رئيس جمهورية في دولة حديثة، تضم بشراً يمتلكون هذا المسمى وطن، بغض النظر عما يؤمنون أو لا يؤمنون به من أديان.. يقولون أيضاً أن المهمات الموكلة إليه هي تكليفات دينية شرعية، وبالتالي ينبغي أن تتوافر فيه مواصفات الإمام الشرعية، ما لا يتوفر في قبطي أو امرأة.. هنا بالتحديد نجد أنفسنا أمام لب الورطة أو الخطيئة الكبرى، التي تهدد حاضر هذا الشعب ومستقبله، ولنحاول حصر مختلف جوانب تلك الخطيئة قدر ما نستطيع:
bull;التركيز على دور رئيس الجمهورية باعتباره إماماً، مضاد تماماً لمفهوم الرئيس أو الحاكم في دولة حديثة تحكمها مؤسسات، تؤدي أعمالها بموجب دراسات علمية سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية، فلا يكون رأس الدولة هكذا أكثر من مسؤول على انتظام عمل تلك المؤسسات، ليكون هو بدوره مسؤولاً أمام الشعب، عن مدى نجاح إدارته للدولة.. في الدولة الحديثة يكون الرأس هو أكبر موظف لدى الشعب، فيما مفهوم الإمام أو الإمامة ينتمي للفكر الأبوي البطريركي، الذي يكون فيه الحاكم وصياً على الشعب، يمكن أن يتفضل عليه بسماع مشورته غير الملزمة وفق فقه الشورى الإسلامي، لكنه في النهاية هو المسؤول الوحيد أمام الله وحده، على الالتزام بما أوكل إليه من تكليفات شرعية.. هذا ما نعرفه في عصرنا الحالي بالحكم الديكتاتوري المتدثر بالثيؤقراطية.
bull;لا تتوقف مسألة التكليفات الشرعية عند وظيفة رئيس الجمهورية أو الإمام، وإنما لابد وأن تنسحب على سائر مؤسسات الدولة وأخطرها الجيش، فالجيش هكذا لن يكون جيشاً وطنياً، تنحصر مهمته في حماية حدود مصر الوطن، وإنما سيكون جيشاً إلهياً يعمل وفق فريضة الجهاد في سبيل الله، وهي مهمة مقدسة تعني نصرة الإسلام في سائر أنحاء الكرة الأرضية، فواجبه الشرعي نصرة المسلمين في الفلبين وكشمير والشيشان وكوسوفو، وفي كل منطقة في العالم تشتعل فيها النيران تحت ستار دعاوى دينية، لتكون النتيجة النهائية لهذا الفكر والتوجه، أن تتحول مصر إلى مجرم عالمي مثل إيران وتنظيم القاعدة، أو على الأقل مجرم محلي مثل حزب الله وحماس وشباب المجاهدين في الصومال.. هذا القول أو التوقع منا ليس غريباً، فتنظيم الإخوان المسلمين تحول من جمعية دينية مصرية أنشئت عام 1928، إلى تنظيم عالمي متشابك العلاقات على مستوى العالم كله، وبالتالي فليس فيما نقول ما هو من قبيل الادعاء أو لمجرد التخويف من سيطرة الإخوان على مقدرات الشعب المصري، وإنما هذا ما يبدو جلياً من طبيعة هذا التنظيم وأيديولوجيته.
bull;يترتب على مسألة التكليفات الشرعية للحاكم، أن تكون المرجعية التي هي أساس العمل والمحاسبة معاً هي مرجعية دينية يحكمها النص المقدس، وتكون النتائج العملية الناتجة عن سياسات الحاكم هي مسألة ثانوية، فلو تحقق ماينصلح به حال الناس يكون هذا خيراً جزيلاً، وإن لم يتحقق الصالح العملي والحياتي، فإن معاناه الناس هنا تكون من أجل تحقيق الهدف الأسمى والمقدس، وهو الالتزام بالأوامر الإلهية، التي لابد وأن ينال الجميع عنها الثواب في الحياة الآخرة، لتصير وظيفة الدولة الأساسية إخال الناس إلى الجنة، وليس مجرد تنظيم وتحسين حياتهم الدنيوية، فهم يقولون علنا في شعاراتهم أنهم quot;باعوا الدنيا ليشتروا الآخرةquot;!!
bull;هكذا وبالتبعية تكون معارضة الحاكم الإمام حرابة لله ولرسوله، ويكون التذمر الشعبي والرفض لتردي الأحوال هو اعتراض على قضاء الله وقدره، وافتقاداً لفضيلة الرضى والقناعة التي هي كنز لا يفنى.. كما يكون المعارضون للحاكم من ذوي الأفكار والأيديولوجيات المخالفة إما كفاراً أو زنادقة أو مبتدعين في الدين، وتحق عليهم اللعنة على الأرض وفي السماء.
bull;تقتضي هذه الرؤية أيضاً أن يكون موقفنا من شعوب العالم تعاوناً أو صداقة وعداء على أساس المرجعية الدينية التي هي أساس نهجنا الداخلي.. يتبدى هذا جلياً الآن في موقف التحريض والعداء الأبدي مع إسرائيل والغرب، والذي يستحيل في ظله وضع نهاية لمأساة الشعب الفلسطيني، كما لابد وأن يؤدي عموماً إلى تعويق ما نصبو إليه من نمو وتطور، مرتبط في عالم اليوم بالمصالح المتشابكة للشعوب.. ففيما تسعى الشعوب للتعاون لتحقيق المصالح المادية البحتة، سعياً لتحقيق الرفاهية ومحاربة الفقر والجهل والمرض والعناية بالبيئة وحقوق الإنسان، نكون نحن منشغلون بتصنيف هذه الدول إلى دار سلام ودار حرب، والشعوب إلى مؤمنة وكافرة.
هكذا نكون بمشروع الإخوان المسلمين قد خرجنا عن السياق العالمي، وصرنا غير مؤهلين لغير إدارة حروب عبثية مع العالم المتحضر، كتلك التي يقودها الآن تنظيم القاعدة وسائر ما يتفرع عن أيديولجيا الإسلام السياسي من تنظيمات.. من الواضح أنه لا يفيد هنا تسول تفسيرات متسامحة تجاه الأقباط أو المرأة أو ما شابه من قضايا مثل الآداب والفنون والموسيقى، لأن الإشكالية هي في جذر أيديولوجية الجماعة المحظورة وجزعها، وليس في تهذيب بعض فروع بالغة الشذوذ أو الغرابة فيها.
فهل لدى الوطنيين المصريين من الليبراليين واليساريين الذين يحجون إلى المرشد العام للجماعة المحظورة بعض الوقت ليتأملوا ويتدبروا المصير الذي يمكن أن يدفعوا أنفسهم والوطن كله إليه، أم هم منشغلون بذواتهم، وبألاعيب سياسية حمقاء وبيلة النتائج، متسترين بادعاء رغبتهم في ضم مكون وطني لا ينبغي تجاهله، وهم في الحقيقة يتعلقون بأذياله، في بحر الشارع المصري الذي يدير لهم ظهره، سواء لبؤس توجهاتهم وشعاراتهم، أو لقصورهم وعجزهم وعزوفهم عن العمل الجماهيري الجاد والمخلص للوطن؟!!
لا يمكن أن يستقر النظام الحاكم بسياسة مهادنة الإخوان والمزايدة عليهم، كما لن يقوى الشارع السياسي المصري والمعارضة بقبول الإخوان أو التحالف معهم.. فالتعامل مع هذه الجماعة وهي في موقف قوة، لن يدفعها أبداً للتقدم باتجاه عصرنة رؤاها المتخلفة والظلامية، بل سيجعلها تستشعر قوتها النسبية، وتمعن فيما هي فيه منذ ثلاثة أرباع قرن حتى الآن.. فالطريق الوحيد للتعامل مع هذه الجماعة هو التطبيق الصارم للقانون عليها، باعتبارها تنظيم محظور، ثم نزول الحزب الوطني للشارع المصري لاكتساب جماهيرية حقيقية، وليس جماهيرية المنتفعين والمتسلقين وموظفي جهاز الدولة البيروقراطي.. كما لابد أن تخرج المعارضة من المكاتب المكيفة، وتتخلى عن إدمان التصريحات النارية والوقوف أمام كاميرات الفضائيات، لكي تحتك بالشارع المصري، ليس لكي تدفعه لتبني رؤاها وشعاراتها العبيطة أو الحمقاء، ولكن لكي تستشعر نبض الشارع الحقيقي، بالتوازي مع محاولة زرع قيم الحداثة والحرية، لتزيح بها الموروث الثقافي والاجتماعي الذي أدى بنا إلى ما نحن فيه الآن من ترد.. بعد هذا وربما وجب أن يتوازى معه جزئياً بعد أن نقطع شوطاً في تهيئة الأرض المصرية، يمكننا التفكير في تعديل وتغيير النظام السياسي، لكي يتواءم مع الواقع الجديد، أما الآن فإن نظامنا السياسي مناسب تماماً للواقع المتردي عند القاعدة الشعبية، فهو الممثل الجيد والحقيقي لتخلفها المشين.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات