أرسلت إلي سيدة فاضلة من كندا رسالةً أرسلها إليها بدوره صهيوني مدافع عن كيان الاحتلال وقد تضمنت الرسالة مشاهد لافتتاح مركز تسوق في غزة بحضور وزيرين، وأبرزت الصور كميات البضائع المتكدسة والناس وهم يتسوقون، كما أظهرت صور أخرى عربات الموز والتفاح، وصور ثالثة أبرزت المصطافين على شاطئ البحر، وقد اعتبر هذا الصهيوني الصور دليلاً دامغاً على عدم وجود حصار في غزة، وأن الفلسطينيين يمارسون التضليل الإعلامي على العالم..
ولأن المعركة الإعلامية في غاية الخطورة والأهمية إذ أنها هي التي تشكل الرأي العام العالمي مع أو ضد أي قضية، فإنه لا بد من التصدي للأكاذيب التي يحاول الاحتلال أن يسوقها، وعدم الاستهانة بخطورة الشبهات التي يثيرها الاحتلال مهما بدت لنا تافهةً ولا تستحق الرد، وألا نفترض بأن شعوب العالم تفهم قضيتنا كما نفهمها وأنه لا حاجة لإتعاب أنفسنا في شرحها لهم فالخبر ليس كالمعاينة، ولا أخطر على قضية عادلة من محام فاشل، وحين نغفل عن المعركة الإعلامية خاصة في الدول الديمقراطية التي يؤثر فيها رأي الشعوب على قرارات الحكام، ونترك الساحة فارغةً لماكينة الاحتلال الإعلامية لبث الدعاية المضللة فليس مستغرباً أن ينجح الاحتلال ومناصروه في تضليل تلك الشعوب وقلب الحقائق، وحينها علينا ألا نلوم تلك الشعوب حين تساند الاحتلال ولا تنصرنا
انطلاقاً من هذه القناعات فقد قررت الرد على تلك الرسالة الصهيونية، ومقارعة الشبهة بالحجة البينة، وأن نلقي ما في يميننا من حقائق بينة حتى تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر.
رددت على الرسالة بالقول ما دامت غزة بدون حصار كما يزعم مروجو هذه الصور ففي أي سياق نضع التصريحات المتتالية للمسئولين الصهاينة بأنهم لن يرفعوا الحصار عن قطاع غزة، وكيف نفهم قائمة الممنوعات التي نشرها الجيش بتاريخ (6-7-2010) وتضم ما يزيد على 3000 سلعة ممنوعة من الدخول إلى غزة ضمن ما أسماها إجراءات تخفيف الحصار
وهنا لاحظوا أن مجرد تسمية تخفيف الحصار هي اعتراف مباشر بوجود حصار، ولاحظوا أيضاً أن هذه المواد الثلاثة الآلاف الممنوعة هي بعد التخفيف فكيف بما قبل التخفيف.
إن مشكلة غزة ليست في المواد الغذائية بالدرجة الأولى، ولا شك أن الأوضاع الآن من هذه الزاوية هي أفضل مما كانت عليه قبل عامين مثلاً، وسبب هذا التحسن ليس ما يدخله الاحتلال من بضائع بل هو راجع إلى ما أبدعه الفلسطينيون من فكرة الأنفاق التي لم تكن تخطر إطلاقاً على بال من فرضوا الحصار.واعتماد الفلسطينيين الأساسي الآن هو على البضائع التي تدخل من الأنفاق.
لكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،
ويمكن أن نلمس الضرر الأكبر للحصار في جوانب أخرى غير الطعام والشراب، مثلاً في نقص المعدات الطبية وفي نقص مواد البناء، وفي سجن مليون ونصف مليون إنسان وعدم السماح لهم بحرية التنقل.
ما يمارسه الاحتلال تجاه غزة يمكن وصفه بأنه إماتة بطيئة لها، هو لا يمانع إذا اشتد الضغط الإعلامي والسياسي عليه أن يمرر بضع مئات من شاحنات الموز والتفاح والعصائر والألبان والكاتشاب إليها، ولكنه يسعى جاهداً لئلا تقف غزة على قدميها، وأن تظل في حالة عوز وافتقار دائم إليه ليعطيها متى يشاء ويمنع عنها متى يشاء..
الاحتلال يسعى إلى إبقاء غزة سوقاً استهلاكيةً لمنتجاته، فهو مستفيد اقتصادياً من إدخال الأصناف التي يسمح بها والتي يخطئ البعض حين يسميها مساعدات بينما الحقيقة أنها تباع لأهل غزة بأغلى من ثمنها الطبيعي، وفي المقابل هو يقاوم أي محاولة فلسطينية للتحرر من هذه الحالة حتى لا تصبح منتجةً، وذلك حتى يقايض كل شاحنة تدخل إلى غزة بثمن سياسي..
ومن هذا المنطلق فليس هناك وجه إحسان في سماح الاحتلال بإدخال أصناف الفواكه إلى غزة، وهو يمنع إدخال المواد اللازمة ليزرع الفلسطينيون بأنفسهم ويحصدوا. وبينما يسمح بإدخال بضعة أطنان من المواد الاستهلاكية الجاهزة كلما اشتدت وتيرة المطالبات الدولية فإنه يرفض بشدة السماح بإعادة تشغيل المصانع لينتج الناس بأنفسهم، ويعتبر آلات المصانع خطراً أمنياً عليه، بل إنه يقوم بقصف ما تبقى من مصانع حتى يجهض أي محاولة للنهوض والاعتماد على الذات..
وإذا كان المثل الصيني يقول أعطني سنارةً ولا تعطني سمكةً، فإن كيان الاحتلال يمنع وفق مخطط استراتيجي -وليس لمجرد قرارات وقتية- إدخال السنارة إلى غزة، بينما يلقي لأهلها بين الحين والآخر سمكةً أو نصف سمكة لا تسد جوعتهم حتى إذا طعموها دون أن تسد رمقهم مدوا إليه يد التسول مرةً أخرى، أو هكذا يريد منهم أن يفعلوا..
في حصار غزة هناك قصة مأساة قائمة بذاتها لمواد البناء التي يضعها الاحتلال على رأس قائمة الممنوعات، وما يدريك لعل الفلسطينيين بعبقريتهم قد توصلوا إلى طريقة يستخدموا فيها هذه المواد في صناعة أسلحة فتاكة؟
هل تذكرون الحرب المدمرة التي شنت على غزة قبل عام وثمانية أشهر، وهل لا تزالون تستحضرون مشاهد آلاف البيوت والمساجد والمؤسسات التي دمرت على رءوس ساكنيها؟
إذا كنت من خارج غزة فأضف إلى معلوماتك أن ركام المباني المدمرة لا يزال على حاله لم يتزحزح من مكانه طوال هذه الفترة بسبب نقص معدات إزالته، ولا تزال عشرات آلاف الأسر كل هذه الوقت الطويل في انتظار مشاريع إعادة الإعمار الموعودة يسكنون بالإيجار أو عند أقاربهم.
إن غزة أيها الكاتب الصهيوني لا تشكو من نقص الموز والتفاح والكاتشاب، ومقياس الحياة ليس هو وفرة الطعام والشراب وحسب، فهذه أمور يشترك فيها الإنسان مع البهائم أكرمكم الله..لكن غزة تبحث عن الحياة الإنسانية الكريمة، إنها تبحث عن الحرية والكرامة والاستقلال، إن مشكلتنا الأساسية معكم حتى قبل الحصار هي في الاحتلال والتهجير والقتل، إن جذر المسألة هي أنكم أخرجتمونا من ديارنا بغير حق وأتيتم بالغرباء من وراء البحار ليسكنوا في ديارنا، وشردتم عشرة ملايين إنسان في أصقاع الأرض منذ اثنين وستين عاماً..إن المشكلة هي أنكم قتلتم النساء والأطفال عن سبق إصرار، وأنكم لا تزالون تختطفون ثمانية آلاف إنسان، بعضهم مضى عليه في عتمة السجن أكثر من ثلث قرن، أي قبل أن يولد جلعادكم الذي أقمتم الدنيا من أجله ولم تقعدوها.
إن العار الذي لحق بكم لن تزيله كل شاحنات الألبان والعصائر التي تضللون بها العالم..
لكن أكثر ما أثار استغرابي في رسالة الصهيوني أنه استدل على عدم وجود مشكلة في غزة بارتفاع معدلات القراءة والكتابة فيها، وحين قرأت هذه العبارة ضحكت من أعماق قلبي، إذ هل المطلوب من أهل غزة حتى يثبتوا للعالم مأساتهم أن يسلموا رقابهم لسيف اليأس، ما ذنبنا إذا كان الله قد من علينا بعزيمة نواجه بها ظروف القهر والإحباط وننتصر على لأواء الحياة،، إن هذه شهادة تحسب لنا لا علينا ولا نرى فيها إلا مفخرةً تستحق أن تروى في التاريخ، وهي دليل صبر وصمود وإبداع.

- كاتب من فلسطين
[email protected]