لا يمكن الجزم بأن فلسطين لم تعد ذات شأن بالنسبة للعرب، اليوم، ولكن المتاهات التي دخلت فيها القضية جعلت الكثيرين يعزفون عن متابعتها، وملاحقة تطوراتها.
وهذا لا يعني أنها لا تمر في أخطر مراحلها، وهي على وشك التآكل والاندثار.

طبعا لن نرهق القارىء في تعداد مظاهر تلك المخاطر، ولكن أبرز ما يقلق، تلك الحالة التي وصل إليها الصراع مع إسرائيل؛ إذ هي في أشد حالاتها الاحتلالية، والدلائل على ذلك كثيرة، فيما الفلسطينيون والعرب، في أسوأ حالات الحَيْرة، وافتقاد الحيلة، ولا خيارات حقيقيةً يعلنونها، أو يلوحوِّن بها.

ومن اللافت، والمستغرب، حقا، أن يكون هذا العزوف، مشتركا بين العرب، خارج فلسطين، والفلسطينيين، داخلها.

فما أسباب العزوف؟
ليس من الأسباب، أو من الأسباب القوية، على الأقل، تفوقُ إسرائيل، وقدرتها على فرض مشاريعها؛ لماذا؟ لأن القضية الفلسطينية قضيةٌ عادلة، يعرف ذلك، البعيد، والقريب، والاحتلال الإسرائيلي ظاهرُ العنصرية، والتطرف. فلو استمر النضال ضده، ولو دون تكافؤ، عشرات السنين؛ فإن ذلك، وحده, لا يضعف من مناصرة القضية الفلسطينية؛ بل إن المتوقع أن يزيدها.
إذن؛ ما العوامل التي تقف وراء انشغال كثير من العرب، عن متابعة القضية الفلسطينية؟
وقبل أن نذكر بعض ما نتوقعه من أسباب؛ لا بد أن نتذكر أن العرب تراجعت اهتماماتهم بالشؤون السياسية، كلها، وليس القضية الفلسطينية، وحدها، ولذلك أسباب تمتد إلى تراكمات من الخيبة، بالزعامات الكبرى، التي أشبعتهم شعارات عن الوحدة، والتحرر من الاستعمار، والنهوض، دون أن يتحقق من ذلك شيء. أما تلك العوامل التي خففت من وهج القضية الفلسطينية؛ فلعل أبرزها الآتي:

أولا: شواغل العرب:
يعزو البعض أسبابَ ذلك إلى انشغال العرب بقضايا وتحديات جديدة، كالاقتصادية، والاجتماعية، والنزاعات الداخلية، وهذا صحيح؛ إذ كيف يُتوقع من العراقي, مثلا، الذي يعيش وطنه حالة ضبابية، واصطراعا سياسيا، وفكريا، يربك مساره، ويشلُّ تبلوره، وتقدمه، أن يكون على نفس القدر من المتابعة للشأن الفلسطيني؟! وليس بعيدا عنه اليمنيُّ، المبتلى, هو الآخر، بحروب داخلية، وتردٍّ معيشي، منهك، ولا يعزب عن هذا المناخ، المواطن المصري، أو اللبناني، أو غيرهم. فثمة أوطان غير فلسطين تعيش حالة من البحث والسؤال، عن المصير، إن لم يكن السياسي, فالمجتمعي، والمعيشي.

ثانيا: تقادم الزمن على الاحتلال والصراع:
لقد مر على نشوء إسرائيل، على أنقاض فلسطين، وشعبها، ما يزيد عن الستين عاما، خاض العرب فيها حروبا، غالبيتُها خاسرة، وكانت تلك الخسائر يُحتال عليها، بالألفاظ، والأسماء الملطِّفة؛ حتى تعمقت حالة الخداع؛ فحالت دون البحث الجدي عن أسباب الهزيمة.

وفي جولات هذا الصراع، مئات المرات من خيبات الأمل؛ والثورات الشعبية المجهضة، ففي كل مرة كانت تقع فيها، مواجهة، أو ترتكب إسرائيل، مجزرة، يُستثار الناس، من الخليج إلى المحيط، وحتى أطراف العالم الإسلامي الكبير، ثم لا تلبث تلك المشاعرُ المتأججة، أن تُجهض، أو يتم التنفيس عنها؛ ليعود الناس، سيرتهم الأولى، ولا نقول، وكأنَّ شيئا لم يكن؛ لأن ذلك كان يختزن في ذاكرتهم إحساسا باللاجدوى، سيرا على فكرة تلك القصة الشعبية التي تحكي حكاية راعٍ، كان كلما استوحش، أو انتابه الخوف، بسبب بعده عن قريته، أو اقتراب الغروب، صاح بأعلى صوته، طالبا النجدة، من ذئب، لا وجود، له؛ وفي كل مرة يهب الناس؛ فيصادفونه كاذبا؛ فيرجعون، وبعد تكرار كذبات الراعي؛ هاجم الذئبُ فعلا، الغنم، والراعي؛ فاستنجد، هذه المرة، بحق، لكن أحدا لم يصدِّقه.

ثالثا: طريقة إدارة الفلسطينيين للصراع:
قادت منظمة التحرير هذا الصراع، بعد أن كان أدير، أيام الانتداب، وقبل النكبة، من رجالات وعائلات، وفصائل ثورية، ولم تنجح المنظمة، ولا فصائلُها في تقريب العرب من القضية وفلسطين، بقدر ما عكست صورة منفرة؛ إما بسبب صراعات فصائلها الداخلية، وانقسامهم في الولاءات السياسية، وإما بسبب دخولها في صراعات جانبية، باستدراج، أو بغيره، كما كان في الأردن، وكما كان في لبنان؛ إذ تورط الفلسطينيون في حرب مع الأردن، ممثلا بدولته، وجيشه، وكذلك، في لبنان، لم ينجحوا في البقاء على مسافة من الصراعات الطائفية الداخلية.

رابعا: الانقسام الفلسطيني:
بعد أن laquo;تحررتraquo; مدن في الضفة وغزة باتفاقات أوسلو، صار بالإمكان أن تنشأ في تلك المدنlaquo;سلطة فلسطينيةraquo; ولما أنشئت تلك السلطة، واستمرت، بالدعم الدولي، والعربي الرسمي، أعواما؛ راقت الفكرة، لحركة حماس laquo;المقاومةraquo; فاستهوتها الحكومةُ والوزارات؛ فخاضت الانتخابات التشريعية في 2006م؛ ففازت بها فوزا ساحقا. وهنا وقع الصدام بين حركةٍ ما زالت تخوض صراع داخليا بينlaquo; الواقعية السياسيةraquo; وlaquo; المقاومةraquo; وبين حركة فتح التي حسمت خياراتها في هذه المرحلة، واختارت الانخراط في العملية التفاوضية، والالتزام باستحقاقاتها.

ولكن حماس، وهي تمر في حالة من التحول، أربكت الفلسطينيين، وأربكت نفسها, وها هي الآن تقدم الدلائل على تشبثها، بالأرجل، والأيدي، بسلطتها العظمى في قطاع غزة، حتى بلغ بها الأمر ndash; في آخر سلوكاتها- أن تمارس نفس الدور الذي تمارسه السلطة في رام، من قمع، بذريعةlaquo;تنفيذ للقانونraquo;؛ ضد مخالفيها، في النهج المقاوم، أو حتى المخالفين لها، في إطار المرجعية الدينية نفسها، وآخر تلك التجليات قمعها لفعاليات حزب التحرير laquo;الإسلاميraquo; الذي لا يتوسل العنف، أو يستخدم السلاح، بكل شدة، وبطش، وباستخدام العصيِّ والهروات، والرصاص الحي، والجميع يستغرب من المدى الذي وصلت إليه حركة حماس، في سبيل حفاظها على laquo;هيبتهاraquo; وlaquo; العدالةraquo; ومن قبل كانت قمعت الجماعات الإسلامية المسلحة، كما تقوم بسجن مقاتلي الجهاد الإسلامي، كلما خرجوا عن الخط العريض الذي تخطُّه.

هذه الحالة الفلسطينية الداخلية الأقرب إلى اللوحة السوريالية باتت لا تشجع الكثيرين من العرب على التعويل، والمتابعة.

خامسا: عقم المفاوضات:
المفاوض الفلسطيني، اليوم، في انتظار الضغوط الأمريكية على حكومة نتنياهو. فيما هي متوَّقعةٌ عليه؛ ليقبل بالعودة إلى المفاوضات المباشرة، قبل أن تنتهي المهلة التي حددتها حكومة نتنياهو لتجميد الاستيطان في الضفة الغربية، وإذا لم تنجح تلك الضغوط المرجوَّة على نتنياهو؛ فإن الفلسطينيين يهددون باللجوء إلى مجلس الأمن؛ لاستصدار قرار بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولكن laquo;الفيتوraquo; الأمريكي, لا ضمانة، لحجبه، وحينها؛ فما الخيار؟ سيظهر للعالم أن الولايات المتحدة وسيط غير نزيه!

ومع المفاوضات يدفع المعولون على التفاوض بالنضال السلمي, ضد الاحتلال، رديفا، ووسيلة للتذكير ببشاعة الاحتلال، عالميا؛ فما تأثير هذا النضال؟ وهو الأقرب إلى الرمزية، منه إلى الضغط المؤرِّق؛ فهل يقوى على دحر الاحتلال, وإعلان الدولة؛ فيما لو تساقط الخيارُ الأول المتمثل باللجوء إلى مجلس الأمن؟!

وهنا ينهض تهديد، يستبطن قدرا من اليأس بكل مشروع السلطة، والتفاوض، يتمثل في حل السلطة، هذا التهديد، يستيقظ، كلما تنبَّه الفلسطينيون إلى واقع الطرف الآخر، والمفاوضات التي بدأت منذ ثمانية عشر عاما، ولم تسفر عن أي حل منجز، حتى بدا خيارا أقرب إلى العبثية، وهو ما يمنع محمود عباس من استئناف المفاوضات المباشرة؛ إذ كيف يقبل التفاوض، دون أية مرجعيات، بل مع اشتراطات تعجيزية، كالاحتفاظ بالأغوار، والمستوطنات الكبرى؟ وكيف يقبل بالتفاوض مع نتنياهو الذي لا يوافق على العودة بالمفاوضات إلى النقطة التي وصلت إليها، مع حكومة أولمرت التي سبقته؟

وما دام أن المسئولين العرب، والجامعة العربية، لا تخفي إحباطها من عملية السلام، في ظل حكومة نتنياهو، وما دام أن الشعب الإسرائيلي، وجماعات الضغط اليهودي، هي التي تمد رئيس الوزراء الإسرائيلي بتلك القوة والمكانة التي اضطرت الرئيس الأمريكي أوباما إلى التراجع عن فتوره مع نتنياهو إلى حفاوة الاستقبال؛ فإن هذا التعاطي العربي, والفلسطيني، مع القضية الفلسطينية، سيوفر مزيدا من الفرص لمشاريع اليمين في إسرائيل؛ ما يفتح الباب أمام خيارات مختلفة، قد لا تقف عند مجرد الاهتمام السلبي، أو اللامبالاة؛ فهل نعيد النظر، ونخرج من الانتظار؟!
[email protected].