لا يكاد يستفيق الفلسطينيون من طامَّة، إلا وتقذفهم إسرائيل بأدهى، وأشد، طَرَقاتٌ على مستويات متراكبة، وذات أهداف متنوعة... مبتغاها الأخير إفقادُ الفلسطينيين، وغيرهم، حتى من القوى الدولية، والإقليمية، فرصةَ التركيز على قضية الاحتلال، وإبراز بشاعته؛ تمهيدا لمحاصرته، وكَنْسه.

وإسرائيل، ذاتُ البرامج الاحتلالية، المتعالية الوتيرة، في غضون تلك الدوامة، والدوامات، تمضي في إنجاز مشاريعها الاحتلالية، وتستغل إمساكها بمجريات الواقع الفلسطيني؛ لصرف الأذهان، عن جذر المشكلة، إلى معالجة تداعياتها التي لا تنتهي، وتفتعل قضايا جديدة للتفاوض، والجدل.

لكن هذه الأعمال التي تبدو إلهائية، وتمويهية، هي في الوقت عينه، جزء من برامجها البعيدة المدى، وخطوة على طريق مشروعها الأخير.

وآخر تلك المُقْلِقات، المُشغلات، قضيةُ ترحيل آلاف الفلسطينيين، عن الضفة الغربية، إلى قطاع غزة، والأردن، ممن تعتبرهم إسرائيل، مقيمين فيها، بصفة غير قانونية، وقد تعمَّد القرار الإسرائيلي الغموض؛ إمعانا في الإقلاق، والبلبلة، فهذا القلق لا يساور المستهدفين به، وهم عشرات الآلاف، ولكنه يشغل الفلسطينيين جميعا، ويذكرهم بهشاشة الاتفاقات الموقعة، مع إسرائيل التي بدت في هذا القرار، متجاهلةً للاتفاقات التي تنص على وحدة الأراضي الفلسطينية المحتلة، والترابط بينها.

لكن ما دلالاتُه القريبة؟

بما أنه يستهدف الوجود الفلسطيني في الضفة، فهو يعكس رغبةً في التخلص من أكبر قدر ممكن من الكثافة السكانية فيها، ومن المعلوم، والواضح، بالعيان، أن الاحتلال يفرض واقعا استيطانيا مكثفا، يحيط بالمدن الفلسطينية، بل يخنقها، ويسيطر على الأراضي الحيوية في الضفة الغربية، وأحواض المياه فيها، فضلا عن الطرق الالتفافية الواسعة التي تترك التجمعات السكانية، أشبه بالمعازل.

هذا القانون، وقد أصبح ساريا منذ laquo;13 نيسان- أبريلraquo; الجاري، يحرج السلطة الفلسطينية، ويتجاوزها، بالتأكيد، وهو في الوقت نفسه، يمكن أن يؤشر إلى ما يمكن لإسرائيل أن تفعله، وتُفاقمَه من إجراءات، أو أوضاع أحادية، في حال مضت السلطة، كما يعلن رئيس وزرائها سلام فياض، نحو إعلان الدولة الفلسطينية في أواخر العام القادم، 2011م.

هذا القرار ينتقص على نحو أوضح، وأكثر استفزازا من هيبة السلطة؛ لأنه يعطي الجيش الإسرائيلي المجال لمواصلة التوغل في الأراضي الفلسطينية الخاضعة للسيطرة الأمنية الفلسطينية، بحجة البحث عن laquo; مخالفينraquo;.

فما دلالاتُه الأَبْعد؟

أمَّا أن قرار الإبعاد الجديد خطوة على طريق مشاريع إسرائيل، ولا سيما اليمين؛ فإنك قد تستشعر ذلك من ردة الفعل الأردنية الرسمية التي تأتي في ظل علاقات ثنائية أبعد ما تكون عن الدفء؛ إذ استدعت وزارة الخارجية الأردنية، السفير الإسرائيلي في عمان وسلمته مذكرة احتجاج شديدة اللهجة من الحكومة حول القرار.

وليس هذا الاحتجاج، بالطبع، من باب رفع العتب، بقدر ما يعكس تخوفا أردنيا حقيقيا من أفكار مستقرة في أدبيات الليكود، وزعيمه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الحالي الذي يرى في كتابه:laquo; مكان تحت الشمسraquo; أن الدولة الفلسطينية قائمة، فعليا، في الأردن، ويقول: laquo; إنهم (يعني منظمة التحرير الفلسطينية، ومعظم الدول العربية) يطالبون بحقوق وطنية على المناطق؛ أي إقامة دولة عربية أخرى، ونظام حكم عربي آخر، وجيش عربي آخر؛ إنهم لا يكتفون بوجود دولة فلسطينية شرق الأردن؛ التي تسيطر على معظم أراضي (أرض إسرائيل) وفيها أغلبية فلسطينية حاسمةraquo; ص:205.

وقد أقر محللون إسرائيليون بالعلاقة بين القرار وتنمية القناعة بسعي إسرائيل إلى الطرد الجماعي، إذ جاء في مقال لأسرة تحرير laquo;هآرتسraquo;: laquo;تطبيق الأمر العسكري الجديد من شأنه ليس فقط أن يشعل ناراً جديدة في (المناطق) بل من شأنه أن يوفر للعالم دليلاً خالداً على أن هدف إسرائيل هو الطرد الجماعي للفلسطينيين من الضفة الغربية. وبينما يمكن لكل يهودي أن يسكن أينما يشاء في إسرائيل أو في (المناطق)، تسعى إسرائيل إلى منع الفلسطينيين حتى من الحق الأدنى بالسكن في الضفة وفي قطاع غزة حسب اختياره. على رئيس الوزراء ووزير الدفاع أن يسحبا فوراً الأمر العسكري، قبل لحظة من أن يشعر الجيش الإسرائيلي أنه حر في بدء عملية الطرد.raquo;

وما المآلات؟
لا شك أن مثل هذه الإجراءات الإسرائيلية تعمل على الإجهاز على ما تبقى من آمال في جدوى العملية السياسية، ولا سيما في ظل اليمين الحاكم، ويغلق الآفاق، ويهدد بفتح الخيارات، ما لم تكبح هذه الحكومة، أمريكيا، إن لم يكن، على المستوى الرسمي، فعلى المستويات الشعبية.

والمتوقع أن تزيد إسرائيل من مثل هذه الوقائع التي تعاكس المساعي الدولية، والأمريكية، كلما لمستْ اقترابا من laquo; استحقاق الدولة الفلسطينيةraquo; وخشيت من أن تفقد زمام المبادرة، أو أن تُدفع نحو حلول، لا ترتضيها.
[email protected]