في هذه الأحوال العربية الملتهبة، هل ثمة شرعية للحديث عن الحوار؟ سؤالٌ قد يدِّعي الوجاهة. وهل العالم اليوم، وعالمنا العربي، ومِنْطقتنا، تُدار بالفكر أصلا؟ أم أنه قد أُقصي، لصالح المصالح، والمتحكمين بها؟
الصحيح أن السؤال عن قوة الفكرة، ونفوذ الكلمة يظل يراود، مُشكِّكا، أو مُهوِّنا من قدرة القناعات على إحداث التغيير، سلبا، أو إيجابا. وكأنه يستدعي الجدل المعتاد عن النظرية والتطبيق، والقول والممارسة.
لكن هذه الأسئلة عن قيمة الأفكار لا نجدها مطلقا في الدول التي تمارس إرادة شعوبها؛ حين تكون الفئةُ الحاكمة هي المعبرة عن فكر الأغلبية وقناعاتِها. هناك للفكر مؤسسات، كما هو معلوم، ومعاهد، تُرصد لها الأموال غير القليلة، وتخرِّج القادة وراسمي السياسات؛ ولذا لم يكن عبثا هذا الاهتمام المحموم من وسائل الإعلام في تعبئة الجماهير لصالح فكرة معينة، أو مشروع سياسي، أو اقتصادي، أو التمهيد لتغيير اجتماعي. وفي هذا الإطار يتداخل العمل على نشر الوعي، والعمل على تزييفه، وخداع الرأي العام.
أما عن العلاقة الوجودية بين الأفكار والمصالح فإنها قد لا تكون تناقضية؛ بل تعانقية تكاملية؛ إذ ليست الفكرة إلا فخَّ العمل، وليس للفكر مسوغٌ للبقاء إلا الإرشاد إلى أعلى المصالح، بأقل التكاليف.
وعلى هذا فالفكر، والحوار لغتُه، حاجةٌ ماسة ومستدامة. وهي حاجة عملية، ومطلب أساسي للتنمية الحقيقة.
الحوار في الحياة الواقعية، وفي البرامج التلفزيونية، وفي الأعمال الروائية، يضفي على المشهد حيوية وحِراكا وديناميكية، وهو يضع الفكرة في موطن التمحيص، ويكشف عن زيف الاكتمال الفكري، أو ادعاء احتكار الصواب...
والمجتمعات المحاورة، أو المتحاورة، لا تنفك تقدم الدليل تلو الدليل على حياتها وتجددها...
وكلما امتلك المحاور الرؤية الناصعة كان أقرب إلى الإيجاز، وأدنى إلى إقناع زميله...

والحوار في اللغة من إرجاع القول بين المتحاورين، ومن معانيه التجاوب.
وتكاد تكون الحالة الحوارية جزءا أصيلا في كل النشاطات الإنسانية.

هل في بلادنا حوار؟
للأسف لا يمثل الحوار بمعناه الحقيقي الذي ينتج آثاره المتوخاة ظاهرةً عربية معاصرة؛ إذ يمضي كلٌ إلى غايته، ظانا أنه الكليُّ المعرفة، والمحتكر للصواب. أو أنه لا تشغله سلامة فكرته، ولا عدالة موقفه، بقدر ما يأخذه الذودُ عن ( مصالحه) أو تحصيل المزيد منها!
في الحياة اليومية يغلب على العرب، إما الصدام، دون أن يتقبل الواحد الاستماع من الآخر. وإما النفاق، أو المجاملات والتكاذب.
في البرامج الحوارية التلفزيونية يغلب على المتحاورين الترصد والتصيد والشخصنة والمواقف الثابتة، قبل الحوار وبعده، دون أية مراجعة تذكر، أو استدراك قد يوفره الحوار.
وفي المؤسسات التعليمية الدنيا والعليا لا ترتقي العلاقة بين المدرس والطالب إلى مستوى الحوار العلمي، ولهذا أسبابُه التربوية والعلمية أيضا.
إننا نطمح إلى ترسيخ حالة من الحوار في كل الأصعدة والمستويات.
فالتعليقات في المقالات، مثلا، شكل من أشكال الحوار بين مُرْسِل هو الكاتب، ومستقبل هو القارىء، قد لا يلبث أن يغدو مرسلا والكاتبُ، القارىءُ، مستقبلا ومُعدِّلا...
في هذه الحالة يغدو الحوار آلية ارتقاء وتعديل...
-لكن السؤال: هل نحن حقا نتحاور؟ بمعنى أننا نُرْجع القولَ بالقول، والحجة بالحجة، في إطار الفكرة، والالتزام بالموضوع؟

-أغلب ما يتحقق من (حوارات) في بيئتنا العربية مشوهٌ، وضررها أكبر من نفعها، وهي حتى بين الأصدقاء، ربما سببت التنافر، خلافا لمن قال:quot; الخلافُ في الرأي، لا يُفسد للود قضيةquot;. ومن هنا تجد كثيرا من الناس ممن يحرصون على استبقاء علاقاتهم بأصدقائهم، أو زملائهم في العمل، يُؤْثرون المجاملة، ولا يصرحون بالخلاف، وفي أحوال أخرى يمدحون الرأي وقائله، في حضوره، ويُقْذعون به ذمًّا، في غيابه؛ في حالة لا تحقق إلا شعورا نفسيا، أقرب إلى التشفي، وquot; فش الغلquot;.

- هذا الحوار المشوه، بشكله الحاضر، إفراز من إفرازات الثقافة العربية السائدة، ومُنْتَج من منتجات الشخصية العربية المُلَفَّقة التي من أبرز آفاتها:

-العدوانية: وهي جزء مُكوِّن في الشخصية العربية، والنفسُ الإنسانية منطويةٌ عليها. كذلك، ولكنا لا نعمم كما فعل المتنبي :

والظلمُ من شِيم النفوس فإنْ تجدْ ذا عِفَّة فلِعلةٍ لا يظلمُ

-وهي مع ذلك تتسم بالخضوع: للنظم الحاكمة، حين ينطلق المثقف، مثلا، من منطلقات النظم بدلا من توسيع الآفاق بالانطلاق من رؤيته الثقافية التي تثري، ولربما وفرت للسياسي خياراتٍ أخرى.
-الانغلاق والتعصب: فيَعْمَى المتعصبُ عن رؤية الحق الذي مع غيره، ويزدري كل من خالفه.
-اللاموضوعية والشخصنة: وهذا من تضخم الذات، ونقصان الشعور بالمسؤولية.
-الاستعراض المسرحي والاستظهار.. بالأساليب الخطابية والبلاغة السطحية المشوهة؛ بعيدا عن الفكرة والمضمون...quot; خذوهم بالصوت لا يغلبوكمquot;

والنتيجة المترتبة عن الحوارات غير البريئة من تلك العيوب:
-أن يضحي الجدلُ والحوار عقيما. وربما، كما أسلفت، ضارا.
-وهذه الحوارات المتسمة باللاجدوى؛ من حيث النتائج، توهم بالحوار، ولا حوار؛ إذ نحن نسمع، ولا نستمع، ففي أثناء تكلم الطرف الأول ينهمك الطرفُ الثاني في تحضير الجواب، أو الشغب عليه بما يشتته، أو يربكه، أو يستفزه!

بَدَهيات في الحوار:
كثير منا يَعُدُّ التراجع عن الرأي سُبَّةً، وعيبا، وإذا اضطر إليه، بعد محاورات مباشرة، أو غير مباشرة؛ فإنه يلجأ إلى التأويل؛ مدعيا أنه لم يقصد ما فهمه الناس! وهذا مظهر من مظاهر ثقافتنا السائدة؛ إذ تفترض في المتحدث العصمة، وهي بذلك تحبذ النفاق والمراوغة، على التصريح بالخطأ، وهي بسبب ذلك تخسر مرتين، أو مرات؛ إذ تحرم صاحب الفكرة من النظر الجاد في أسباب الخطأ، وتحرم المجتمع من تجنب ذلك الخطأ، كما- ولعل هذا هو الأهم- تحرم المجتمع من الوضوح والشفافية والصدق.
وهنا نتساءل، أيهما الأهم الأشخاص والمقامات، أم الأفكار؟
ثم؛ لماذا نتواطأ مع ثقافة المجتمع التي لا تتحمل من المفكر، أو العالم، أو المثقف خطأ؛ حتى تُسقطَه، أو تشكك فيه، وفي الأخير؛ من أين اكتسب الجهدُ البشري هذه الحق المطلق؟

لماذا ينعدم الحوار بين مكونات المجتمع العربي؟
البعد السياسي:
يعاني العالم العربي انقساما عميقا، في مكوناته الفكرية والمذهبية، وفي ولاءاته السياسية، تلك التناقضات تتمظهر في أشكال من النزاعات المسلحة، كما في اليمن، مشكلة الحوثيين، مثلا، وفي نوايا تتصاعد بالانقسام، والانشطار، كما في اليمن أيضا، الحراك الجنوبي، والسودان، مطالبة الجنوبيين بالانفصال، مثلا. وفي تراجع معاني التوافق والعيش المشترك كما في لبنان، وفي انقسام الرؤية السياسية كما في فلسطين، مثلا، ومع أن هذه الحالة الخلافية تجعل من الحوار أكثر إلحاحا إلا أنها في الوقت نفسه تجعله أبعد منالا نظرا لاتساع الهوة والاختلاف العميق في المرجعيات الفكرية، بل وفي تعريف كل شريحة لنفسها، تعريفات تخرج في كثير من الأحيان عن الاهتمام بوحدة المصير، أو الانتماء.

والظاهر أن العامل السياسي المحكوم بالاقتصادي وإفرازات العولمة قد أصبح الأكثر طغيانا، وأن تراجع القواسم المشتركة بين المكونات التي تعيش في العالم العربي قد أحدث إرباكا وأحوج إلى إعادة تعريف، تتصدى لأسئلة مفترق الطرق... عن الالتئام أو الانشطار...

لا أمل في انبثاق أي حوار جِدّي ما لم يُسلِّم الجميع بحل الخلافات بالطرق السلمية والنضال السياسي الذي لا يستقوي بجهات أجنبية لا تَبْرَأ من أجندات خاصة، ولا تفهم طبيعة المنطقة كما يفهمها أهلها.

ومع عدم التقليل من قيمة العامل السياسي فإن الحوار قبل ذلك مُنْتَج تربوي وثقافي. الحوار لغة الفكر، وصدى الشخصية، والحوار كاللغة لا ينفك عن البيئة والأوضاع...

إن الارتقاء بحالة الحوار لا يتحقق إلا بالارتقاء بالمستوى الفكري والثقافي والتربوي للناس، وهذا ِصْنوُ النهوض، بل هو النهوض بذاته.
[email protected]