لا يمكن اجتراح مقاربة واقعية للتعامل الأمريكي مع أزمة الرئاسة في إيران بمعزل عن فهم الاستراتيجية التي ينتهجها أوباما تجاه العالم بعامة, والإسلامي والعربي منه بخاصة.
ولعل آخر ما كُشف عنه في هذا الصدد الاستراتيجيةُ المتعلقة بـ quot;الحرب العالمية على الإرهابquot; وهي تركز في شكل أكبر على تنظيم القاعدة, وتعتمد على جهود أوسع لإشراك العالم الإسلامي، بحسب ما أعلن جون برينان مستشار الرئيس أوباما لشؤون مكافحة الإرهاب الذي قال إن إدارة الرئيس أوباما ستبقي على مسألة حماية الشعب الأمريكي ضمن أولى أولوياتها، وإن الوقت قد حان للجوء إلى الدبلوماسية والحوار لحل المشكلات القائمة.quot;
وتَغيُّر الأولويات الأمريكية في عهد أوباما مسألةٌ لاتخفى؛ فقد أضحى الاهتمام مسلطا على المصالح والمنافع أكثر من الأفكار والقيم، وذلك لأسباب ودواع اقتنعت بها الإدارة الحالية, وتقبلتها الأمة الأمريكية؛ بيد أن هذا لا يعني تعطيل تلك القيم, وإهمالها بالكليِّة؛ فقيمٌ من مثل الحرية والديمقراطية متأصلة في العقلية الأمريكية الجمعية, وفي الوجدان؛ فلا بد أن تظل ثنائيةُ المصالح والقيم في حالة تفاعل, وتغدو الثانية أكثر فاعلية في حالات الانتهاك الصارخ, أو الملحوظ لها؛ ما يجعل الإدارة غير قادرة على تجاهلها.
وقد تراوح الموقف الأمريكي من أزمة الانتخابات الإيرانية بين مراعاة المصالح ومراعاة القيم، وقد بدت الكفة الأولى راجحةً, حين لم تختر إدارة أوباما التصعيد, أو التوظيف السياسي للأزمة, وهي في أوج اشتعالها؛ فاقتصر الموقف على تصريحات تظهر القلق الأمريكي حيال ما يحدث, ولكن في ثنايا ذلك اعترافٌ ضمني بانتخاب نجاد؛ إذ صرح أوباما بأن إدارته ستواصل سياسية مد اليد تجاه إيران بعد التشكيك والاختلاف على شرعية انتخاب الرئيس المحافظ.
وبعد أن صدَّق مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي رسميا على انتخاب نجاد رئيسا للبلاد لفترة رئاسية ثانية, وصف البيت الأبيض الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأنه الزعيم المنتخب لإيران.
وقال المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس خلال مؤتمر صحافي في البيت الأبيض في رد حول ما إذا كانت الإدارة الأميركية تعترف بشرعية الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، قال غيبس إن الإيرانيين هم من يختارون قيادتهم، مضيفا أن الرئيس أحمدي نجاد هو الرئيس المنتخب من قبل الإيرانيين.
ولكن هذا المتحدث لم يبلث أن تراجع عن ذلك الاعتراف الرسمي؛ إذ قال: quot;دعوني أصحح قليلًا ما ذكرته الثلاثاء، من أن أحمدي نجاد هو الرئيس المنتخب في إيران، لأقول إنه لا يعود لي الحكم بذلكquot;. ثم أضاف: quot;هو تمَّ تنصيبه ... تلك حقيقة ... أما ما يتعلق بنزاهة أيَّة انتخابات فهذا أمر من الواضح أن الشعب الإيراني مازال يتساءل حياله، وسنتركهم يقررون ذلكquot;.
وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أعلنت أنها: quot;معجبة باستمرار مقاومة الإصلاحيين في إيران للحصول على التغييرات التي يستحقّها الشعب الإيراني، وجدّدت عرض واشنطن لنظام طهران ببدء حوارquot;.
والظاهر أن هذا هو الذي دفع واشنطن إلى تعديل موقفها من الاعتراف إلى التوقف؛ إذ لا يليق بمثلها أن تدير ظهرها لهذا الحراك المُثابر والواسع في الشارع الإيراني, والمؤسسات المهمة في الدولة الإيرانية؛ إذ ما زال نجاد يواجه انتقادات تتزايد، ليس فقط من جانب المعارضة، ولكن أيضا من المحافظين في الحكم، حيث أدان الجانبان المعاملة القاسية للنشطاء في الاحتجاجات الأخيرة، والتي توجت بمحاكمة متلفزة لأكثر من مئة من شخصيات المعارضة البارزة.
فيمكن أن يفهم هذا التعديل في الموقف الأمريكي من وجهين: وجه قِيَمي، يستند إلى مراعاة الديمقراطية والانتخابات النزيهة التي يرضى عنه الشعب طوعا, والثاني مصلحي سياسي، يتطلب الاستمرار في الإمساك بزمام المبادرة، بعدم التخلي عن أصوات وقوى إيرانية تمثل ثقلا لا يمكن الاستهانة به, ويمكن أن يتغلب لدرجة انتزاع الحكم, ولو بعد حين, من التيار المحافظ الذي يعتبر نجاد من متشدديه.
وعلى الصعيد الأمريكي نفسه ثمة انتقادات موجهة للبيت الأبيض بسبب موقفه الذي يرونه دون المستوى تجاه أزمة انتخابات إيران.
الذرائع التي تستعملها إدارة أوباما:
لا ترى الإدارة الأمريكية نفسها متحمسة لتأييد تيار الإصلاحيين؛ لأسباب منها ما يعود إليها, ومنها ما ينعكس على الإصلاحيين أنفسهم, فمن جهتها ساوت إدارة أوباما بين المرشحين نجاد وموسوي لكونهما يؤيدان البرنامج النووي. ورأت أن تتعامل مع إيران ككيان.
وقد كانت الطريقة الراديكالية والتهجمية التي تعاملت بها إدارة بوش الابن على مدار ثمانية أعوام مكنت نجاد وإيرانه من الظهور بمظهر الند القوي لـ quot;لغطرسة الأمريكيةquot;, وأفادها في مد نفوذها الإقليمي على نطاق المنطقة العربية والإسلامية..., ولأن أوباما- كما يبدو- يبدو أكثر ميلا إلى خلق حالة أقرب على التوازن في المنطقة، ولكونه يتباين وعقلية إدارة سلفه؛ فقد تجنب تقوية نجاد الذي ما زال يولي للدور الإيراني الخارجي مكانة كبيرة بالكف عن التهجم الشديد عليه, أو التصعيد المفضي للتصادم معه.
ومن جهة أخرى, لا تحتاج إلى إثبات, فإن أمريكا مضطرة إلى استبقاء خيوط متصلة مع إيران, أيا كان حكامها؛ لضرورات التعاون في quot; حربها على الإرهاب, والقاعدة وطالبانquot; كما تستبقيها لاستدامة quot;الاستقرارquot; الذي ما زال هشا في العراق, أو لتسويات ما زالت عالقة, كما هي قضية الأكراد, وغيرها.
ومن ناحية الانعكاسات على الساحة الإيرانية اختارت إدارة أوباما أن تظل على الحياد، بدلا من تأييد فريق على آخر؛ لكي لا يؤدي انحيازها وتأييدها لجناح الإصلاحيين إلى نتائج سلبية عليهم.
لكن خبراء أمريكيين رأوا موقف هذه الإدارة يتلخص في تقديم المصالح والنظرة الاستراتيجية على الديمقراطية, واحتمالات التزوير, كما يتقدم أيضا على الملف النووي.
ُيذكر أن علي أكبر ولاياتي, وزير الخارجية الإيراني الأسبق الذي يعمل كبير مستشاري خامنئي: أثنى على أوباما بعد الانتخابات لبقائه هادئا بشأنها. وقال ولاياتي أيضا:quot; تَقْبَلُ أمريكا إيران نووية, ولكن لا تستيطع بريطانيا وفرنسا تحمل إيران نوويةquot; [الشرق الأوسط نقلا عن نيويورك تايمز]
فللأسباب الآنفة الذكر, وحتى لا تميل إدارة أوباما نحو المصالح ميلا يزيد من الأصوات المنتقدة في أمريكا, والعالم, ولا سيما, وقد شهد, وربما يشهد, تحركاتٍ واحتجاجات واسعة على تصرفات التيار المحافظ في إيران, وتعامله مع تداعيات الأزمة؛ ما قد يعرِّض صدقية أمريكا للتساؤل المحرج، اختارت إدارة أوباما التريث والانتظار, محاولةً التوازن بين معيارين مهمين وفاعلين, من غير أن يعني ذلك قطيعة مع إيران (نجاد وخامنئي), أو حتى تصعيدا وتوظيفا سياسيا للأزمة؛ لأن الاضطراب والفوضى هي آخر ما تريده أمريكا في هذه الفترة الحساسة, وفي هذه المنطقة التي تعاني استقرارا هشا.
[email protected]
التعليقات