خرج الخلاف بين أمريكا وإسرائيل إلى العلن؛ وسلكت حكومة نتنياهو مسلك التحدي لإدارة أوباما؛ فهل يخرق ذلك القاعدة المستقرة عن العلاقات الخاصة بينهما؟ وإلى أي مدى يُتوقع أن تصل الأمور بين الدولتين؟
كان إصرار حكومة نتنياهو على استمرارالاستيطان في القدس هو الذي أوصل علاقتها بإدارة اوباما إلى مرحلة المجابهة. وهو موقف يتبناه نتنياهو، واليمين الإسرائيلي الذي يقف عن يمينه؛ ولو عدل في موقفه لأضحى ائتلافه أمام خطر الانهيار.
يحتاج التنبؤ بتطورات الموقف بين أمريكا وإسرائيل إلى استحضار طبيعة العلاقة بينهما؛

فما طبيعة العلاقة بين أمريكا وإسرائيل؟
ثمة من يرى أن الولايات المتحدة لا تملك أن تعصي لإسرائيل أمرا، بل من الناس من يذهب إلى أن الأخيرة هي التي تتحكم في الأولى، وتؤثر في سياستها الخارجية تأثيرا مطلقا. ولِمَنْ يقول بذلك بعضُ الأسئلة: أليست كل منهما دولة قائمة بذاتها؟ أوليس لكل دولة رؤى وأهداف تنبع من استراتيجياتها الخاصة، ومن مصالحها الذاتية؟ هل تتطابق المصالح بين دولتين تطابقا كليا ودائما؟ ثم مَنْ يملك من القدرات والأوراق التي تطوِّع الآخر؛ الدولةُ الأولى في العالم، وذاتُ النفوذ الأعظم على المؤسسات الدولية، أم دولةٌ هاجسُها الدائم الحفاظُ على وجودها، واستبقاء السند والغطاء الأمريكي لأي تصرف مهم تنوي فعله؟!
فمهما قيل عن نفوذ اللوبي اليهودي، وجماعات الضغط الموالية لإسرائيل؛ فإننا لا نتصوره يصل إلى حد تعطيل القرار الأمريكي، وإغفال دورها العالمي، ومصالحها الخاصة التي تتطلب نوعا من العلاقات ليست إسرائيل بالضرورة، حاضرة فيها دائما، أو حتى مفيدة لها، كذلك.
وفي العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط تحتاج أمريكا إلى مراعاة مصالح، وبناء علاقات، لا تحكمها إسرائيل، قطعا، ولا يُعقل أن تتكيف، الدولةُ الأولى في العالم، وتتحجم، وَفْق النظرة الإسرائيلية الخاصة والضيقة.
هذه أسباب نظرية تُفنِّد الرأي السابق، وبعد ذلك، لا يفتقر تاريخ العلاقة بين الدولتين إلى نقاط تعارض واضحة، كما حدث التباين بينهما إبّان العدوان الثلاثي على مصر، مثلا، وكما حدث بعد مؤتمر مدريد؛ وكما يحدث هذه الأيام فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني، وكما يتضح أيضا اليوم التوتر بينهما على خلفية الموقف من الاستيطان. ومن يتتبع الحالات السابقة يجد أن إسرائيل كانت تذعن فيها للضغوط الأمريكية، ولا سيما، عندما كانت تواجه بموقف جدي وإرادة صارمة.
وهذا لا يتناقض مع ثبات العلاقة بين الدولتين، واستراتيجيتها؛ إذ لا يكفُّ رئيس أمريكي عن تأكيد حرص واشنطن على أمن إسرائيل، واستقرارها، وأوباما لا يخرج عن هذه القاعدة.
ولكن ذلك لا يعني أن لا ينشأ تناقض مع حكومة إسرائيلية يقودها اليمين المتطرف؛ بسبب إصراره على عرقلة ما تراه واشنطن مصلحة استراتيجية أميركية لا تقتصر على الوصول إلى حال من الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم فحسب، بل تتصل بضرورات الأمن القومي الأميركي بالذات، وبصورة العلاقة بين أميركا والعالمين العربي والإسلامي.

ماذا تملك إدارة أوباما من أوراق الضغط؟
تملك العلاقة الخاصة بإسرائيل؛ إذ ثمة اعتقاد راسخ في الأوساط السياسية والشعبية بخطورة تهديد إسرائيل لتلك العلاقة، وأما التفاف القوى اليمينية حول نتنياهو ودعمها لموقفه الرافض لوقف الاستيطان، ولا سيما في القدس ومحيطها؛ فمسألة تحتاج إلى تمحيص، واختبار قدرتها على الصمود، أمام الضغوط.
وتستطيع أمريكا- كما لا يخفى- حشد الضغوط الديبلوماسية، في المحافل الدولية، وبالتعاون مع الاتحاد الاوروبي وروسيا والمجتمع الدولي لتضييق الخناق على حكومة نتنياهو التي لا تخفي انزعاجها من تواصل الضغوط من كل جانب.
فضلا عن توجه أمريكي لتفعيل قوى أمريكية موالية لإسرائيل؛ لإقناعها، بأن الاستجابة لمتطلبات السلام أمر في مصلحة إسرائيل، مثلما هو لمصلحة أمريكا.
وقد يترافق هذا الضغط من الموالين في أمريكا مع نشاط معارض من أحزاب معارضة في إسرائيل، كحزب كاديما، أو من مؤسسات تخالف نظرة اليمين الإسرائيلي، ولا تخلو من تأثير، كـ quot; مجلس السلام والأمنquot; الذي يتكون من 1300 شخصية سياسية وعسكرية، منها عامي أيالون رئيس الشاباك الأسبق، وهو مجلس يدير حملة للتسوية السلمية على أساس مبادرة السلام العربية.
وأمريكا؛ إذ يمكنها إضفاء صفة الفتور مع الحكومة الإسرائيلية اليمينية؛ فإنها بالمقابل تتوجه بالانفتاح نحو خصوم إسرائيل، ومنهم سوريا التي قرر الرئيس الأمريكي أوباما إعادة سفير الولايات المتحدة اليها، في خطوة لن تعجب إسرائيل التي طالما سعت إلى عزل سوريا، أو معاقبتها.
وما زالت أمريكا على موقفها من الملف النووي الإيراني؛ بإبقاء باب الحوار مفتوحا، والامتناع عن إعطاء إسرائيل ضوءا أخضر، دون أن تغفل الربط بين تغيير هذا الموقف، وموافقة إسرائيل على تعديل مواقفها، والتجاوب مع استحقاقات السلام.
وكانت quot;الشرق الأوسطquot; قد نقلت تصريحا في أبريل من هذا العام لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قالت فيه: quot; بأن إسرائيل يمكن أن تخسر دعم دول عربية ضد إيران؛ إذا لم تحقق تقدما في عملية السلام مع الفلسطينيين.quot;
وإذا لم تستجب حكومة نتنياهو لهذا النوع من الضغوط فإن الإدارة الأمريكية تستطيع أن تضيف إليها التلويح بعقوبات اقتصادية، ولها في ذلك سابقة، عندما فوجئ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير بقرار الرئيس الأمريكي بوش الأب بمعاقبة إسرائيل بوقف تقديم قرض قيمته 10 مليارات من الدولارات إذا لم توقف بناء المستوطنات.
وتصدر هذه الأيام تصريحات أمريكية تلمح إلى إمكانية فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، وتحاول قيادات فيها إظهار القدرة على تحمل ذلك؛ فقد ذكر موقع صحيفة quot;معاريفquot; الإسرائيلية أن المسؤولين الأمنيين في إسرائيل يستشعرون بأن الولايات المتحدة يمكن أن تمس بالمساعدات الأمنية التي تقدمها لإسرائيل.وقال مسؤول كبير في الجيش الإسرائيلي إن quot;إسرائيل يمكنها تدبر أمورها دون الولايات المتحدة الأمريكيةquot;. وتَعزَّز هذا الشعور بعد أن سئل روبيرت فد، المتحدث باسم البيت الأبيض، من قبل أحد الصحافيين إذا كان في نية الرئيس الأمريكي باراك أوباما فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل في حال لم تذعن لطلبه بتجميد الاستيطان، فأجاب بأنه quot;من السابق لأوانه الحديث عن هذا الموضوعquot;، الأمر الذي قرأه الإسرائيليون على أنه رسالة أمريكية لهم بعدم استبعاد العقوبات.

فهل يرضخ نتنياهو؟
قد ينجرُّ الشعب الإسرائيلي في غالبية لا بأس بها وراء نتنياهو إلى حين، وقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة quot;بيوquot; للابحاث أن الإسرائيلين هم الوحيدون في العالم الذين يفضلون الرئيس بوش على أوباما. وتوصل الاستطلاع الى أن الإسرائيليين خفضوا معدلات نظرتهم الإيجابية إلى أوباما بعد خطابه في القاهرة. وربما هذا الذي يزيد من تصلب نتنياهو وتحديه للإدارة الأمريكية.
ولكن السؤال: هل يظل هؤلاء مصرين على تأييد حكومة تتسبب بعداء الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي، ولا تجلب السلام، وقد تضر بمصالحهم الاقتصادية؟
إذ قسنا الحاضر على الماضي؛ فإننا نرجح أن لا تمضي حكومة نتنياهو إلى النهاية في هذا التحدي، وفي الحكومات الإسرائيلية السابقة سوابق في ذلك، ومنها حكومته نفسه (1996-1999) إذ بلغت العلاقات مع الولايات المتحدة أدنى مستوى. وبعد ذلك وافق نتنياهو على الانسحاب من الخليل، بعد أن كانت يرفض، ثم ذهب إلى واي بلانتيشن في الولايات المتحدة عام 1998 ووافق على الانسحاب من 13% من أراضي الضفة الغربية. وها هو في فترته الحالية يحاول استرضاء أمريكا والاقتراب من متطلبات السلام؛ بإعلانه الموافقة على دولة فلسطينية، وإن وضع أمامها شروطا عسيرة، وقد كان يرفض ذلك، أيضا. وهذا ما أكدته هيلاري كلينتون في تصريح لها بعد تسلم نتنياهو زمام الحكم؛ إذ قالت عن الحكومات الإسرائيلية إنها كانت ترفض في البداية، ثم بعد فترة تُعدِّل في مواقفها؛ لذلك هي غير قلقة مما تعلنه حكومة اليمين.
ونظرا لوجود بعض التطورات التي تصب في صالح نتنياهو فإن أوراق الضغط التي تملكها إدارة أوباما لا تُعَدُّ عصا سحرية؛ وقد يُكيِّف أوباما استعمالها بما يتوافق وتنامي اليمين المتطرف، وضعف ثقة الشعب الإسرائيلي بعملية السلام؛ ما قد يدفع إدارة أوباما إلى اعتماد quot;الحكمةquot; والصبر وسياسة الخطوة خطوة في تحصيل مواقف إسرائيلية quot;متقدمةquot; وقد يترافق ذلك مع توجه للضغط على الجانب العربي لتقديم بوادر إضافية لتعزيز الثقة المزعزعة في الجانب الإسرائيلي! أو العمل الهادىء على تقوية القوى الإسرائيلية الأقرب إلى الرؤية الأمريكية.
[email protected]