ما الأهمية التي تستحقها الأحزاب، ولا سيما المركزية؟ وما الآثار الناجمة عن تضخم دورها، وتعمق صفة المركزية فيها؟
تكتسب الأحزاب عموما أهميتها من بنائها المؤسسي، وهياكلها التنظيمية، وبرامجها الفكرية والسياسية الموحدة، كل ذلك يفترض أن يرفعها إلى درجة من التأثير، تزيد عادةً عما يستطيعه الأفراد؛ لما تملكه من رؤى موحدة وآراء متجانسة، يقوم الحزبُ على رعايتها بجهود متضافرة، ونشاطات منسقة.
ولسنا هنا في معرض نقد الأحزاب من حيث الفكر والمحتوى، ولكننا بصدد التطرق إليها من زوايا شكلية؛ إذ تتضخم فعالية يعض الأحزاب، ولا سيما الأيديولوجية إلى درجة تكاد تلغي الفرد، وتطمس دوره، ولا يقتصر هذا على الأحزاب الشيوعية والاشتراكية.
منشأ ذلك هو النظامُ التراتبي، والفكرُ الموَّحد الذي يتسع نطاقه أحيانا؛ ليشمل الأفكارَ الجزئية، والمواقف التفصيلية، يُلزِم الحزبُ بها أعضاءه، أو عناصره، بحكم انضوائهم في صفوفه، وبعقوبات تنظيمية، يراها ضرورية لحفظ التوحد الفكري، والشعوري، وقد تستخدم أحيانا لقمع توجهات تخالف رؤية القيادات التاريخية، أو المؤسِّسة.
أسارع إلى القول إنها ليست دعوة إلى التبرؤ من الأحزاب، أو تجريدها من أية فضيلة، ولكنها لفتة إلى ضرورة وضعها في إطارها الصحيح، وحجمها المناسب؛ إذ ليست الأحزاب مَنْ يحتكر القدرة على التأثير الإيجابي، بل إن شخصياتٍ فكريةً، أو علمية، ربما استطاعت التأثير في الحياة العامة، والسياسية منها، دون أن تنتمي إلى حزب، أو تُعرف بهذه الصفة.
ومن أولئك المفكر العالمي إدوارد سعيد الذي بقي بحسب تعبير الدكتور برهان غليون quot;لسنوات عديدة أحد مصادر الوعي النقدى العالمي الذي هز الاعتقادات الراسخةquot; [من مقال: تحية إلى إدوارد سعيد المثقف العالمي د. برهان غليون.]
وإدوارد سعيد مَنْ قال عن نفسه، في كتابه quot;المثقف والسلطةquot;: quot;ولما كان من طبعي عدم الانخراط في أي فريق، أو الانضمام إلى أي حزب، لم أجند نفسي لخدمة أحد طول عمري.quot; وكأن المثقفين من ذوي النزعات الذاتية في التفكير أكثر عرضة لأن يضيقوا بالحزب، وهذا ما جعل الأديب الكبير إميل حبيبي يختار عنوان quot;عالم بلا أقفاصquot; للكتاب الذي نشره عام 1992م وتحدث فيها عن أسباب تركه للحزب الشيوعي، وقد قال فيه:quot; إن من الأنسب ازدياد عدد أصحاب الضمير ومبدعي القيم الإنسانية السامية الذين يختارون البقاء مستقلين وأحرار من قيود الأقفاصquot;.
ولم يبتعد عن هذا الرأي كثيرا الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف في معرض جوابه عن السؤال: quot; هل كانت فترة المد الشيوعي أو الماركسي هي العصر الذهبي للثقافة العربية وهل نحتاج إلى أيديولوجيا جديدة حتى نعيد إحياء الثقافة?
إذ قال: quot;أنا اقول بالوعي الوطني واستعادة الضمير الوطني، وهو الذي يشكل الرافعة في نهضة ثقافة جديدة. لتكن هناك أحزاب ذات منحى قومي، و لنقل أو ذات منحى ماركسي أو شيوعي، وأكرر إحياء الضمير الوطني هو من سيشكل نواة التغيير نواة العمل السياسي والثقافي في آن واحدquot;.
فهو وإن اختلف مع حبيبي في نوعية الضمير الذي يتوجب إحياؤه؛ إلا أنهما يشتركان في أن الحالة المطلوبة لا يتوقف تحقُّقها على عمل حزبي ما. [مقابلة مع صحيفة العرب اليوم- 15/7/2009]
ومن المفكرين الذين لم تتوافق طبائعُهم مع الانضواء الحزبي الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي أثر بنشاطه العلمي الجبار تأثيرا خاصا. وهو وإن انضم في أخريات حياته إلى حركة كفاية غير الحزبية، إلا أن منبع تأثيره في جهوده الذاتية.
ولا نبالغ إن قلنا إن إفادة الإنسانية من المفكرين والمثقفين الكبار، وهم خارج الأقفاص الحزبية أعظم بكثير مما لو لم يتحرروا منها، بل إن من الضروري واللازم أن يظل أمثال هؤلاء خارج الأحزاب ؛ بما يمثلونه من قدرات توجيهية تظل أقرب إلى الاستقلالية والموضوعية والإبداع. وهم، بعد ذلك، أقدرُ على اكتساب الثقة والمقبولية العالية؛ إذا كانوا مبرئين من التعصبات الحزبية، أو سواها.

محاذير حزبية:
كلما تمثلت الجماعاتُ السياسية والفكرية معانيها الحزبيةَ والتكتلية، كانت أقرب إلى ترك آثار سلبية على المنتمين إليها، وعلى الأجواء العامة التي تنشط فيها.
وثمة خطران يتهددان الأحزاب والمنتمين إليها، الأول فكري إبداعي، والثاني نفسي تربوي.
فالأحزاب الموسومة بالمركزية والتَّدَخُلية لا يخفى ضررُها على الإبداعات الفردية لأفرادها، وإن ادعت غير ذلك؛ إذ لا جدال في أن فرص الإبداع خارج البرامج المحددة، والأفكار الجزئية، والمواقف التفصيلية التي يتخذها الحزب تكون أكبر، ومن شأن الاقتصار على ثقافة الحزب- وهذا داء قد ينجو منه بعض الحزبيين- أن يُضيِّق الأفق، ويَحُدَّ من التجدد والتفاعل الثقافي الواسع الذي تفرضه الحياة المعاصرة أكثر مما مضى.
أما الآثارُ النفسيةُ فلا أوضحَ من التعصب الذي يتعرض له الحزبيون أكثر من غيرهم، فضلا عما يُخشى عليهم من ذهاب شيء من الأنفة والإباء؛ فهم بسبب كثرة تلقيهم للتعليمات والتعميمات الحزبية تزداد فيهم أخلاق الانقياد والإذعان، فالحزب يشبه من بعض الجوانب المدرسة، وقد رفض بعض المفكرين المعاصرين مؤسسة المدرسة؛ لأنها تعود الطالب على التفكير المقولب، وتنتج نماذج علمية نمطية. ومن قديم حذر ابن خلدون في quot;المقدمةquot; من مُذْهِبات الأنفة؛ إذ قال في معرض تناوله لطرائق التعليم quot; ونجد الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مَرْباهم في التأديب والتعليم والعلوم في الصنائع والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا،... وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبةquot; وابن خلدون يفرق بين من يتلقى العلم والثقافة عن اقتناع وتفاعل ذاتي، وبين من يُحوِّل تلقيه لهما إلى صناعة وعمل آلي، وبالرغم من كون الفارق قائما بين الآثار السلبية التي تتركها طرائق التعليم التقليدية، من جهة، والآثار التي يتركها انصياع الحزبيِّ لثقافة الحزب وتعليماته ومواقفه الإلزامية، إلا أن دوام هذه الحالة من الانقياد قد تطبع الحزبيين، أمام أحزابهم بطابع الخضوع والإذعان.

وتتفاوت الأحزاب في ذلك تبعا لآليات اتخاذ القرار فيها، ومقدار المركزية التي يتصف بها الحزب؛ فالحزبان الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، مثلا، يظهران مرونة فيما يتعلق بالمواقف السياسية ولا يتمسكان بصورة عامة بشكل مشدد بإيديولوجية معينة أو مجموعة أهداف سياسية. بل إنهما أظهرا تقليديا اهتماما بالمقام الأول بالفوز بالانتخابات والسيطرة على السلطات الانتخابية للحكومة. وهذا طبيعي ما داما في إطار الفكرة الديمقراطية التي يؤمنان بها. ويترك الحزبان لأعضائهما في الكونغرس هامشا من الحرية؛ فالرئيس حين يتولى منصبه لا يستطيع الافتراض بأن أعضاء حزبه في الكونغرس سيكونون مؤيدين موالين لمبادراته المفضلة.
وإذا كان عالم السياسة الشهير quot;صمويل هنتنجتونquot; قد اشترط في الأحزاب أربعة شروط هي، التكيف، والاستقلال، والتماسك، والتشعب التنظيمي؛ فإن ثمة حاجة إلى مراعاة المرونة، والحذر من المركزية؛ حتى لا تضيق تلك الأحزاب، أو تنغلق؛ ولعل الأنفع لها، والأقرب إلى نجاحها وانفتاحها على أكبر قدر من التنوع البشري أن تكتفي بالتركيز على أفكار عامة، دون أن تجعل من أفرادها نسخا متكررة.