لا نتنياهو، ولا وزير خارجيته ليبرمان، هما الشخصيتان المفضلتان للإدارة الأمريكية، ولا برنامج الحكومة التي يقودانها هو البرنامج الذي يتوافق والرؤية الأمريكية لحل النزاع في الشرق الأوسط.

ثمة حزب فاز في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة على الليكود بفارق مقعد في الكنيست هو الأقرب إلى رؤية أمريكا، المتمثلة بحل الدولتين. تحاول زعيمته ليفني التذكير بوجودها، واستعدادها لتسلم دفة الحكم في إسرائيل وقت ما يظهر للجمهور هناك، وللعالم مرواغة نتنياهو ولا مسؤوليته، وافتقاده للصدق في زعمه الموافقة على حل الدولتين، بل في صدق توجهاته السلمية بشكل عام.

يحاول نتنياهو أن لا يقع في صدام مع إدارة أوباما، وهو من أجل ذلك أظهر موافقة على دولتين لشعبين، وافق على مضض، ووضع دون تنفيذ هذا الحل شروطا تعجيزية، يعلم مسبقا، أن فلسطينيا واحدا لن يقبل بها.

أوباما لم يشأ الدخول مع حكومة اليمين الإسرائيلية في مجابهة علنية شاملة؛ فآثر التعامل البراغماتي المتحلي بالصبر، والرضا بأي quot; تنازلquot; يقدمه نتنياهو فعقَّب على خطابه في جامعة بار إيلان بأنه خطوة مهمة نحو السلام، لكن الرئيس الأمريكي ظل يبدي إصرارا على موقفه من الاستيطان، وتدور أحاديث عن حلول وسط يحاول باراك - وقد أضحى بسبب مواقف وزير الخارجية ليبرمان يتولى أهم مهامه- أن يتوصل إليها مع الإدارة الأمريكية ومبعوثها الخاص ميتشل، تتضمن الموافقة على استكمال إسرائيل البناء في الوحدات السكنية التي وصلت مراحلها النهائية، على أن تتعهد الحكومة اليمينية بالتوقف بعدها عن أية أعمال استيطانية.

وبالرغم مما ينطوي عليه هذا الائتلاف الحاكم في إسرائيل من عناصر متطرفة، ومن توجهات يمينية لا تساعد على المضي بأية حلول ممكنة إلا أن الإدارة الأمريكية وبحكم انشغالها في ملفات أكثر سخونة في نظرها وإلحاحا تحاول التعامل مع نتنياهو الذي لا يفتقر إلى بعض الوجوه الأكثر قبولا كالوزير العُمَّالي إيهود باراك. وكذلك على أمل أن ينجح رئيس الحكومة في تعزيز ائتلافه بأحزاب الوسط واليسار التي يمكنها المساهمة في التسويات المقترحة، وعلى رأسها كاديما .

ويذكر محللون إسرائيليون أن هدف نتنياهو في المائة يوم التالية سيكون ضمّ quot;كاديماquot; أو جزء منها الى الائتلاف؛ لأنه يحتاج الى تعزيز من اليسار، قبيل نشر خطة السلام الأميركية. لكن يبدو أن التصورات التي منعت ليفني من الانضمام إلى حكومة بقيادة نتنياهو، أو بمشاركته لا تزال تمنعها من إنقاذه من مأزقه الحالي الذي يمكن أن يتعمق في المستقبل، وهي تصر أن تنأى بنفسها عنه، وأن تحتفظ بحزبها بديلا نقيا لتجربة معرضة للفشل ومعرض رئيسها لاعتزال الحياة السياسية، كما أجبر على اعتزالها من قبل.

فقد أكدت زعيمة المعارضة الإسرائيلية ليفني مجددا قبل أيام رفضها الانضمام إلى حكومة بنيامين نتنياهو، معتبرة أنه ثبت صحة قرارها بهذا الخصوص لدى تأليف الحكومة قبل 100 يوم.

ونقلت صحيفة ldquo;هآرتسrdquo; العبرية عن ليفني قولها في مقابلة إذاعية ldquo;إنني لا أريد أن أتخذ قرارات سهلة تتجانس مع رغبات سياسيين معينين يجلسون في الحكومة، والأيام المائة التي مرت تثبت أننا اتخذنا القرارات الأصح وأنا أفضل إبقاء أمل لدى الإسرائيليين بأن هناك بديلاً آخر والبقاء خارج الحكومةrdquo;.

وقد شككت بقدرة نتنياهو على التعامل مع الولايات المتحدة، ووصفت المائة يوم التي مضت منذ تأليف حكومة نتنياهو بأنها ldquo;أياما سيئة للدولة فهذه حكومة بدون طريق وتحاول البقاء وهي لا تواجه الأزمة الاقتصادية وتحاول البحث عن طريقة للامتناع عن الوصول إلى صراع شديد مع الولايات المتحدةrdquo;. وقالت إن ldquo;نتنياهو لم يتبن تماما مبدأ الدولتين وإنما تبنى الحديث في الموضوع فقط من أجل إرضاء جهات معينةrdquo;.
وهي بهذا الموقف تثبت مبدأيتها، وإصرارها على مشروع الدولتين، وتستعيد موقفا صرحت به عشية رفضها الائتلاف مع نتنياهو، وقد قالت حينها:quot; إن مبدأ دولتين للشعبين ليس مجرد شعار فارغ، إنما هو الطريق الوحيد التي يمكن لإسرائيل أن تبقى يهودية وديمقراطية. هذه مسألة جوهرية... والوحدة لا تعني الجلوس في الحكومة فقط، إنما شراكة في الطريقquot;.
وقد ردت، حينها، على موفاز الرجل الثاني في جزبها الذي انتقد رفضها عرض نتنياهو دون مفاوضات بالقول:quot; لا معنى لحكومة كل هدفها الحفاظ على وجودها، بل يجب أن يكون هناك برنامج يوحدها، وخاصة برنامج متفق عليه فيه على الحل ( مع الفلسطينيين). وقالت ليفني:quot; إن هناك أعضاء كنيست من كاديما يطالبون بأن تنوصل إلى حل وسط مع الليكود، ولكن يجب تذكيرهم بأنا انفصلنا عن الليكود لهذا السبب السياسيquot;.
ولا تكتفي زعيمة المعارضة ليفني اليوم بتأكيد رفضها الانضمام إلى الحكومة؛ بل إنها تهاجمها، فيما يقوم حزبها بنشاط دعائي ضدها؛ إذ قاموا بتوزيع ملصقات تقول ldquo;مائة من الأيام وصفر من الأفعالrdquo;.

ومع ذلك لا يبدو نتنياهو في الوقت الحاضر في أحرج ظروفه؛ فهو ما زال يحاول الإمساك بالعصا من الوسط؛ بأن لا يغضب الولايات المتحدة، ولا يغضب شركاءه في الائتلاف من اليمين المتطرف، ولكن التقديرات تشير إلى أنه لم يفعل ما يكفي كي يصلح العلاقات مع الولايات المتحدة، ولم يفلح في استخدام موافقته على الدولة الفلسطينية من أجل تعزيز التنسيق مع أوباما والادارة. ولا يتوقع له أن يفلح في ذلك إذا ظل ممتنعا عن تجميد الاستيطان تجميدا تاما كما تطلب إدارة أوباما، وإن هو وافق فإنه سيغدو مهددا من أحزاب يمينية تدعمه وتأتلف معه. ومن هنا تظهر حاجته الماسة إلى أحزاب من المعارضة، ولكن الظاهر أن ليفني تراهن على فشله.

يسعى نتنياهو لتلافي الصدام مع الولايات المتحدة لكنه لا يحرص على ذلك بأي ثمن، ولا يتوقع أن يذهب معها إلى مدى بعيد، أو إلى المدى المطلوب. ويدعوه إلى هذا الموقف عدة اعتبارات، منها اعتبارت أيديولوجية ومعتقدات سياسية عن أرض quot;إسرائيل الكاملةquot;، وميل قديم إلى مشروع الوطن البديل، ونظرة حزبه إلى الاستيطان وتهويد القدس. فأيديولوجية الليكود ترى أن الضفة الغربية والقدس الشرقية تقعان في قلب أراضي إسرائيل التوارتية؛ لذلك تستمر الحكومة الحالية في ابتلاع الأرض الفلسطينية. ومن تلك الاعتبارات تصوره عن الولايات المتحدة في الوقت الراهن؛ إذ لا يَتَوقع منها تفرغا لهذا النزاع بسبب الأعباء والأولويات التي تشغلها، وتَعُوقها عن ذلك.

وربما يعول على عنصر المراوغة والمماطلة، وإظهار الرفض في ثوب الموافقة، وهو ما ينجيه من الضغط الأمريكي الشديد، ويستبقي له دعما مطلقا من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة التي تحاول إدارة أوباما- وفق ما نقلت quot;الشرق الأوسطquot; تجنيدها للضغط على نتنياهو كي ينسجم معها، أو على الأقل لا يخرب عليها.

وثمة سبب لا يقل عن تلك السابقات ولعله الأكثر تأثيرا على تموضعه السياسي مع الأميركيين. ذاك هو الدعم الشعبي؛ فقد استمد القوة من استطلاع لـ quot;جيروساليم بوستquot; قبل ثلاثة اسابيع، اظهر أن 6 في المائة من اليهود في إسرائيل فقط يعتقدون بأن ادارة اوباما مؤيدة لإسرائيل. وفي مثل هذا الوضع لا يدفع نتنياهو ثمناً سياسياً جراء الخلاف مع اوباما، بل يعتبر وطنياً يدافع عن الدولة في وجه الضغوط المعادية.
فنتنياهو يبذل مساعيه لتلافي الصدام مع الإدارة الأمريكية، ولكنه يدرك أنها ليست مضمونة النتائج، ولا سيما مع عدم وجود بوادر من الأحزاب المعارضة إلى الاستجابة لدعوته لها بالانضمام إلى حكومته، وقد قالت صحيفة quot;هآرتسquot; الإسرائيلية في عددها الصادر بتاريخ التاسع من الشهر الجاري إن رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتننياهو يعتقد أن الإدارة الأميركية تريد خلعه من الحكم. وأضافت ان الاتصال بين نتنياهو والبيت الأبيض متقطع، وان ردة فعل الإدارة الأميركية على quot;خطاب بار إيلانquot; خيبت آماله.
كما ذكرت صحيفة laquo;يديعوت أحرونوتraquo; أن نتنياهو عبر في الأيام الماضية عن laquo;شكوك كبيرة حيال قدرة الإدارة الأميركية على دفع دول عربية مثل السعودية لتنفيذ خطوات تطبيع تجاه إسرائيل في مقابل تجميد الاستيطانraquo;. ورأى أن هذه الخطة الأميركية laquo;ليست قابلة للتنفيذ، ومن هنا أستنتج أن الإدارة تسير باتجاه الصدام معهraquo;.
وثمة أوساط إعلامية تتماهى مع آراء ليفني التي تشكك في قبول نتنياهو لحل الدولتين،فقد بثت الشبكة الثانية الخاصة مقابلة مع بنزيون نتانياهو والد رئيس الوزراء قال فيها إن ابنه لا يؤيد في الحقيقة قيام دولة فلسطينية. وقال هذا المؤرخ البالغ من العمر مئة عام quot;قال لي إنه حين قبل بدولة فلسطينية ، إنما فعل ذلك بدون أن يؤمن به. لقد وضع شروطا لن يقبلها الفلسطينيون أبداquot;. الأمر الذي أثار غضب أنصار نتنياهو وحاولوا التشكيك برصانة تلك الأقوال، ودقتها، ولاموا الشبكة التي أجرت معه المقابلة وهو البالغ المئة من عمره.
ولعل التنامي الراهن لقوى اليمين المتطرف، والأحزاب المتدينة هو المعضلة الأصعب التي تواجه قوى اليسار الإسرائيلي، وأمريكا كذلك، في دولة ديمقراطية يتحكم شعبها إلى حد ما بنوعية زعمائه، والبرامج السياسية التي تحكمه، وتحدد مصيره.

والأرجح أن أمريكا لا تميل إلى الضغوط القاسية بقدر ما تستخدم الديبلوماسية منها والإعلامية؛ لإقناع الشعب الإسرائيلي بأن الحلول التي تطرحها إدارة أوباما هي لصالح إسرائيل، كما هي لصالح أمريكا أيضا. وأن نتنياهو- في حال أصر على مواقفه- ليس هو الرجل المناسب أو القادر على المضي به إلى تلك الحلول؛ حتى ينضج الوضع الداخلي في إسرائيل؛ فيتجه نحو القوى الأكثر اقترابا من الرؤية الأمريكية، ولا يوجد من الأحزاب الإسرائيلية من يتمثل تلك الرؤية مثلُ كاديما بزعامة ليفني، فحزبها يتبنى حل الدولتين، ويلتزم بالسير على خارطة الطريق، فهو بمؤازرة من حزب العمل، وغيره ، يظل الأقرب إلى إنجاز تسوية سلمية شاملة، عندما تنضج الظروف لذلك، وعندما تتخفف أمريكا من انشغالاتها الدولية الأكثر سخونة وإلحاحا.

[email protected]