فضلت أن أكتب بعد بضعة أيام من خطاب أوباما في القاهرة لعرض ما أراه أساسياً في هذا الخطاب بعيداً قدر الامكان عن الضجة الاعلامية التي أحدثها. فمنذ حملته الانتخابية شدد المرشح للرئاسة الأمريكية، باراك أوباما، على ضرورة التغيير في وضع السياسات لربطها أكثر بالمجتمع وشرائحه المتضررة بالخصوص، وعلى المستوى العالمي أكد على ضرورة استخدام أكبر للوسائل الدبلوماسية وتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم. وإذا كان صحيحاً القول بأن وضع السياسة في هذا البلد وغيره من البلدان الديمقراطية لا يتم فقط بالخطابات والتصريحات الرئاسية فالصحيح أيضاً أنه بعد مرحلة جورج بوش التي واجهت فيها القيادات الأمريكية تحديات الارهاب العالمي، لا سيما بعد ضربة 11 سبتمبر 2001، وما فرضته من إجراءات، يشكل البرنامج المطروح من قبل أوباما وفوزه في الانتخابات مرحلة جديدة. فالرئيس عنصر أساسي في النظام السياسي الأمريكي ويمثل واجهة البلد وقد تبنى باراك أوباما ومعه (أو خلفه) القيادات السياسية والعسكرية والاقتصادية في هذه المرحلة استراتيجية قائمة أكثر على الوسائل الدبلوماسية وعلى استثارة ذكاء المصالحة عند الأطراف المقابلة وعلى محاولة إقناع أكثر جدية للشعوب الأخرى وحكوماتها، خصوصاً في العالم العربي والاسلامي لأن هذا الارهاب ينطلق من بلدان عربية ومسلمة ويغطي جرائمه زوراً وبهتاناً بمسميات إسلامية وبشعارات تستغل الآلام والجراحات المتراكمة في هذه البلدان طوال القرن العشرين. ولا تنفي هذه النظرة وجود عناصر أساسية مشتركة تمثل ثوابت ديناميكية (وليست جامدة) للسياسية الخارجية الأمريكية.

وفي هذا السياق، اتسم الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي في القاهرة بخطورته لتعرضه بوضوح لنقاط بالغة الأهمية كرؤيته لعلاقة متوازنة مع العالم الاسلامي قائمة على احترام دور الحضارة الإسلامية في تثبيت القيم الإنسانية (التي أكد علبها الدين الاسلامي) وفي تقدم المسيرة العالمية وكذلك تأكيده على حل الدولتين لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وإحلال السلام العادل في منطقة الشرق الأوسط وحق إيران كبقية الدول في تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية (دون العسكرية) ورؤيته كشريك وليس كراع لدولة العراق وحكومته المنتخبة وما ينتظره من العمليات العسكرية الحالية في أفغانستان للقضاء على عدو مشترك. ولكن دعوته العالم الإسلامي إلى المشاركة مع شعوب الأرض الأخرى في quot;إعادة صنع العالمquot; شكلت في رأيي أهم ما تضمنه هذا الخطاب، وذلك لاستناد هذه الدعوة على ضرورة مشاركة جميع الشعوب في صنع المستقبل وتخليها عن سلوك التشبث بالماضي الذي لمح أوباما إلى نقاطه السلبية (أي ما تخلله من اعتداءات على الشعوب الضعيفة). وهنا تكمن فعلاً عقدة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية حيث لا زال الكثير منا يشدد على جرائم الغرب الاستعماري في الماضي على طريقة النظر الى الوراء أثناء السير دون اعتبار حقيقي في تفكيرهم لمستجدات العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين مع استفادتهم منها واستخدامهم لمنجزاتها! يقابلهم قلة من المثقفين الليبراليين الذين يصورون الغرب وكأنه مجتمع مثالي في تقدمه وثقافته وليس علينا الا تطبيق نموذجه ويمكن وصفهم بالسطحيين لتمييزهم عن بقية الليبراليين، وهم يساهمون في توسيع الفجوة بين شعوبنا والنهج الليبرالي الموجودة أسسه في ترائنا رغم اختلاطها بآثار الثقافة الاستبدادية والقبلية. إن واجب المثقفين والمتخصصين المساهمة في عمل تشخيص حقيقي لمشاكلنا المستعصية وتقديم صورة موضوعية عن قوة الغرب وحقيقة عالم اليوم ومتطلباته، وقد تعرض لذلك أوباما على طريقته بذكر أربع نقاط رئيسية أخرى، غير التي ذكرتها آنفاً، وتستحق التعليق عليها لارتباطها بصنع العالم الحالي ومصيره مستقبلاً:

-الديمقراطية: يتشبث البعض بالمصطلحات لمعارضة الديمقراطية إلا أن مفهومها واضح فالمشاركة الشعبية في اختيار المسؤولين وإمكانية محاسبتهم في إطار دولة القانون وفصل السلطات وموقع الفرد وحرية الرأي واحترام الحكام لشعوبهم كل ذلك يمكن تحقيقه بالتدرج للتوصل إلى تحقيق المشاركة والتنمية والاستقرار السياسي القائم على توظيف الطاقات وتجديد الحياة وإسعاد الجميع وبالتالي تقوية المجتمع بحكامه ومحكوميه. هذا هو جوهر الموضوع وهو مطلوب عقلاً وشرعاً ودون استيراد الوصفات الأجنبية بل بالاستفادة من تجارب الشعوب المتقدمة في هذا المضمار.

-حرية الإنسان في اختيار ديانته والتزامه باحترام شعائر مختلف الأديان، وتشكل هذه الحرية مطلباً أساسياً للجميع ومن المؤسف أن بعض المسلمين يستفيد من هذه الحرية ويبالغ في ذلك عندما يعيش في بلدان الغرب الديمقراطي وينكرها على غيره في بلاده مقدماً بذلك مثلاً على ازدواجية العقلية والسلوك وافتقاد الحد الأدنى من التماسك الفكري.

-حق المرأة في التعليم وفي الارتقاء الاجتماعي، وهنا أيضاً يحتج البعض بالاسلام لتبرير سلوكياتهم الاجتماعية الموروثة متجنين بذلك على الدين والمجتمع في ذات الوقت لأن الدين براء من ممارساتهم كما أن تجميد حقوق المرأة يؤدي إلى تعطيل نصف المجتمع وحتى النصف الرجالي لا يسلم من آثار هذا التحجيم لثقافة المرأة ودورها الاجتماعي، فالمرأة أم الرجل أو شريكة حياته تحيط به وتؤثر عليه كثيراً.

-العولمة: تفرض علينا العولمة مواجهة تحدياتها بالكف عن استهلاك التكنولوجيا الغربية في الميادين المختلفة دون التفكير بمغزى نطورها وأن نستبدل هذا السلوك الطفيلي والمتخوف، في آن واحد، بالتقدم بجرأة وفاعلية نحو بناء مجتمعاتنا من خلال التنمية الثقافية (تحرير طاقات المجتمع) وتطوير برامج التعليم والتدريب ونقل التكنولوجيا وتشجيع الابتكار والتجديد وإلا فان العولمة، بزخم اتصالاتها وتأثيراتها الثقافية والإعلامية المتطورة دائماً، ستبتلع ما تبقى من شبابنا ولن ينفعنا التنديد بالعولمة ومظاهرها كما لم تنفعنا الشعارات في مواجهة تحديات الفترات السابقة.

صحيح أن تأكيد أوباما على هذه النقاط أمر مدروس ويهدف إلى تحقيق المصالح الأمريكية في سياق الواقع الدولي الحالي وتحدياته الخطيرة ولكن هل يبرر ذلك رفض اليد الممدودة ورفض التفاعل مع الآخر، حتى لو كانت المبادرة مفيدة لنا أيضاً بل وتشكل فرصة تاريخية للعرب والمسلمين؟ والمؤسف أن البعض يبرر تنديداته المشككة بأنه ينتظر الأفعال لا مجرد التصريحات دون بذل أي جهد من طرفه في الاتجاه المطلوب بل يقوم بكل ما من شأنه عرقلة هذا المبادرة، إنه يريد تنازل الآخر وحسب ولكن لمصلحة من ياترى ؟ علماً بأن لا أوباما ولا غيره يدعي أنه نبي مرسل ومسنود من قبل الخالق ليحقق المعجزات. فليس المطلوب إذن أكثر من تضافر جهود الجميع بوعي وطني وذكاء تصالحي مع الحرص الضروري من قبل جميع الأطراف لتحقيق السلام العادل ولدفع بلداننا على طريق التنمية الحقيقية في مختلف المجالات.