الحلقة الأولى
quot; أعدم.. أعدم لا تكول ما عندي وقت.. أعدمهم الليلة quot;
مطالبات جماهيرية للزعيم عبد الكريم قاسم في شوارع بغداد
الحلقة الثانية: النهايات المريرة: مصارع العراقيين:
الزعماء الملكيون والقادة القوميون والمناضلون الشيوعيون
أسس العراقيون مملكتهم في العام 1921 بظل البريطانيين وخططهم من دون سفك دماء، ولكن بعد نشوب ثورة عارمة اجتاحت العراق.. ولقد نجحوا تماما اذ حققوا كيانا سياسيا جديدا بزعامة فيصل الأول الذي انتهى ميتا على فراش سريره في مدينة برن بسويسرا عام 1933، ولكن قيل في ما بعد انه مات مسموما بزرقة إبرة..، فبكاه الناس من العراقيين والعرب بكاء مرا، وهاجت الدنيا لمصرعه وأقيمت التأبينات ونظمت القصائد وبكت النساء.. ولكن بعد مضي سنوات نسيت نهايته! وفي العام 1936، سقط أحد ابرز رجالات العراق الفريق أركان حرب جعفر العسكري، وكان واحدا من قادة جيوش الدولة العثمانية وزميلا لمصطفى كمال أتاتورك.. مات جعفر باشا مقتولا برصاص ضباط جيشه العراقيين أنفسهم، وهو الذي يعدّ المؤسس الحقيقي له، وذلك اثر انقلاب الفريق بكر صدقي.. وبعد مضي أيام، قتل هذا الأخير برفقة قائد القوة الجوية محمد علي جواد في حدائق قاعدة مطار الموصل العسكرية ومن قبل احد مراتب الجيش العراقي! وكان الحدث مؤلما أيضا بالنسبة للمجتمع العراقي، ومضت شهور حتى نسي الناس ما حدث..
قبل أن يختتم العقد الرابع بأقل من سنة كان مصرع الملك غازي الأول في العام 1939 بحادث سيّارة، قيل انه مدّبر من هذا الطرف أو ذاك.. ولم يعرف الناس حتى اليوم سر موت غازي مهما كثرت التقولات! وبكى الناس في كل مكان على غازي ولطمت النساء واهتاج العراقيون وأقيمت سرادقات العزاء العربية وكتبت المراثي ومضت الايام لينسى الناس ذكرى غازي! وقبل ان ينتهي عام 1940، قتل الوزير رستم حيدر ( لبناني الأصل ) الذي شارك بسبع وزارات على العهد الملكي.. وفي العام 1941، تفشل حركة رشيد عالي الكيلاني الشهيرة والتي اتسّمت بطابعها القومي وكانت ولم تزل مثار اهتمام تاريخي لا ينضب بين من يؤيدها من القوميين ويجعلها مدرسة عربية وبتأثير من محمد امين الحسيني مفتي فلسطين، وانطلقت من تداعياتها ثورة 23 يوليو بمصر ـ كما ذكر انور السادات في مذكراته ـ وبين من يصفها بأنها نتاج تأثير النازية بحكم ارتباطات بعض رموزها بادولف هتلر.. ولكن كان من نتائجها المحزنة ان شنق العقداء الاربعة الذين قاموا بها على اعواد المشانق وهم : صلاح الدين الصبّاغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب وكان خامسهم المحامي يونس السبعاوي.. وانشغل العراقيون بهذا الحدث المأساوي واهتاجت ( الأمة العربية ) لمصرع الشهداء القوميين العراقيين، وكيلت لزعماء العراق الحاكمين شتى التهم وكتبت ضدهم مئات المقالات واعتبر ذلك بالنسبة للقوميين في العراق ثورة حقيقية ستولد عنها ثورة قادمة، بل وبدأ خصوم النظام يستخدمون ذلك quot; الحدث quot; في الإعداد للثورة القادمة.
وبنفس الوقت، استخدم الشيوعيون العراقيون إعدام زعيمهم مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد عام 1949، ورفاقه حجة تاريخية في الوقوف ضد حكام العراق وقت ذاك متمثلا ذلك بالضد من الأمير عبد الاله (وكان وصيّا على العرش) وضد رئيس وزراء العراق المخضرم نوري السعيد الذي عدّ الشيوعيين في مقدمة أعدائه، وكان ذلك أحد ابرز أخطائه القاتلة.. وإذا كانت ذكرى شنق العقداء الأربعة وصاحبهم المدني قد ترسّخت في ضمائر القوميين لمرحلة تاريخية طويلة، فأن ذكرى شنق مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي قد ترسّخت في ضمائر الشيوعيين لمرحلة تاريخية أطول، إذ لم تزل حية لدى أي شيوعي عراقي.. ومن الفوارق، إن العرب لم يذكروا من الشهداء إلا العقداء الأربعة الذين أطلق عليهم بـ quot; المربّع الذهبي quot;، من دون أي ذكر لنهايات الآخرين من العراقيين.
نهايات تراجيدية ومأساوية لا معنى لها
في فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958، استيقظ العراقيون والعالم كله على اخطر حدث تاريخي غّير مسار العراق والمنطقة كلها نحو طريق آخر، إذ قام انقلاب عسكري ثوري بالاتفاق مع أحزاب مدنية، أطاح بالنظام الملكي وأعقبته مباشرة ثورة جماهيرية صاخبة سجلت فيه نهايات حكام العراق بأبشع الوسائل.. ذهب ضحية ذلك الحدث على مدى يومين كل أعضاء الأسرة المالكة، نسوة ورجالا وعلى رأسها كل من الملك فيصل الثاني وخاله وولي عهده الأمير عبد الاله، وقتل رئيس وزراء العراق الشهير نوري السعيد وغيره، وكانت نهاية مؤلمة اشمئز منها العالم كله، إذ سحلت جثة عبد الاله في شوارع بغداد وقطعت أوصالها شر تقطيع.. وهكذا جرى لنوري السعيد إذ سحلت جثته ومثّل بها وديست عظامها بالسيارات المارة! ولم تجد لها قبرا! وقتل صباح بن نوري السعيد وسحلت جثته مع سحل أناس آخرين، منهم أبرياء قتلوا على الشبهة! وانقسم الناس إزاء الحدث، إذ أنني اعتقد أن هناك من بكى فيصل الثاني الملك الشاب الذي لم يكمل الثالثة والعشرين ربيعا.. بل ويقال ان هناك من بكى عبد الاله ونوري من العشائر والعوائل العراقية القديمة.. ولكن الناس في عمومهم غلب عليهم الفرح وابتهجوا، وتشّفى آخرون ورقص الراقصون، وغنّى المغنون، وراحت إذاعة صوت العرب تتشفّى بتعليقات جارحة وكتبت مجلة (آخر ساعة) ابتهاجات العرب، بل ووصل مستوى التشّفى حتى لدى زعماء عرب في خطابات جماهيرية وبما حدث لزعماء العراق القدماء! لقد كانت نهاية تاريخية مفجعة ما كان لها أن تكون بحق زعماء مهما كانت أخطاؤهم جسيمة، إلا أن قدرهم كزعماء عراقيين اكبر من أن يجلسوا في قفص اتهام كي يحاكموا على ما اقترفوه بحق العراق! ولكن تأملوا بنهايات الزعماء العراقيين.. ومن سوء حظ العراقيين أنهم ينقسمون إزاء هكذا نهايات ويفتحوا الباب أمام غيرهم ليتدخل في شؤونهم!
الاعدام : شنقا حتى الموت ورميا بالرصاص
في العام 1959، صدرت أحكام عدة بالإعدام بحق العديد من رجالات العهد الملكي، ولكن عبد الكريم قاسم لم يوّقع إلا على إعدام بعض المسؤولين المدنيين بتأثير من الحزب الشيوعي العراقي، فصعد المشنقة سعيد قزاز، وهو رجل عراقي قوي الشخصية والإرادة، كردي صلب من مدينة السليمانية، وكان يشغل منصب وزير داخلية النظام الملكي عند سقوطه، إذ اتهم باتهامات إطلاق النار على المتظاهرين وبممارسات قام بها جراء منصبه في مناطق عدة من العراق.. صعد المشنقة وهو يردد : (سأصعد إلى المشنقة وأرى تحت أقدامي أناس لا تستحق الحياة!) وشنق معه بعض المسؤولين المدنيين في سجن بغداد المركزي من دون أن يذكرهم احد، واعدم أيضا رميا بالرصاص العديد من الضباط العسكريين العراقيين الذين حوكموا بتهمة الخيانة العظمى لقائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، وذلك في ساحة أم الطبول.. وفي الوقت الذي حزن البعض على المشنوقين والمعدومين ومن أبرزهم : الزعيم ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ومحمود شهاب وفاضل الشكرة وعشرات غيرهم.. وكانت نهاياتهم قد جرت اثر محاكمات عسكرية في محكمة الشعب على أعقاب فشل أحداث الموصل ومحاولة عبد الوهاب الشواف الانقلابية في الموصل والتي ذهب ضحيتها المئات، وفي مقدمتهم الشواف نفسه الذي قتل وسحل في الشوارع وفشل حركته القومية بعد مصرع الزعيم الشيوعي كامل قزانجي بأيدي القوميين، فكان أن استبيحت الموصل على مدى أيام وجرى فيها القتل والسحل والنهب على مدى أيام منذ 8 آذار / مارس 1959.. كان البعض الآخر يفرح ويتشفّى على نهاياتهم، ولقد أعقبت تلك الحركة موجة اغتيالات واسعة في مدينة الموصل، سبّبت هجرة الآلاف المؤلفة من أهلها إلى بغداد.. وأرجو أن لا ينسى كل العراقيين اليوم من كان يحّرض على القتل.. من كان يهتف بشعارات مرعبة تستخدم فيها الحبال.. من كان يحّرض على الشنق.. صدى المذيع الشهير احمد سعيد يلعلع في إذاعة صوت العرب يلعن المشنوقين من الخونة الملكيين، ثم انقلب عبد الناصر على عبد الكريم قاسم، وبدأ يهاجمه ويهاجم الشيوعيين، ويجعل الضباط القوميين العراقيين من الشهداء الأبرار والصديقين.
والعراقيون كانوا وما زالوا منشغلين بانقساماتهم السياسية، بل وبأحداث القتل والسحل لهذا أو ذاك من العراقيين في هذه المدينة أو تلك، في العاصمة بغداد التي كانت ولما تزل منقسمة على نفسها بين أحياء قومية وأحياء شيوعية! السؤال: هل حدث أي نضوج سياسي إزاء هذه quot; الظاهرة quot; المقيتة لإدانتها تماما، وإدانة كل من كان بلا وعي وهو يطلق شعار (اعدم.. لا تكول ما عندي وكت.. أعدمهم الليلة) و (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) ليس بتقديم اعتذاره للتاريخ، ولكن ليعترف أن ما حدث كان من الأخطاء الكبيرة.. ولا أنسى وأنا يافع في صباي كنت اختلس بعض الزمن لأقرأ في كتاب عنوانه (نضال وحبال) قام بتأليفه احد الأساتذة الجامعيين العراقيين واسمه شاكر مصطفى سليم.. وفيه أوصاف مؤلمة لا يمكن تصديقها لما كان قد حدث في العراق من مجازر بحق الإنسان! يقول الشاعر الشهير محمد مهدي الجواهري من قصيدة شهيرة له آنذاك:
شعب تفنن في انتزاع حقوقه
بحباله مـن رأس كل مغامر
وإذا الحبال تمكنت مـن ثائر
طرحته وانتقلت laquo;لصيدraquo; آخر
وماذا بعد؟
واليوم أحاول أن اخلص إلى نتيجة مؤرخ منصف بالقول أن التناقضات العراقية سواء الطبقية أو بين مستويات المجتمع قد ولّدت احقادا لا مثيل لها.. واذا كانت تلك الاحقاد والضغائن والثارات تبدو مختفية حينا، لكنها سرعان ما تتفجر براكين غضب بوجه كل المسؤولين في كل من الدولة والمجتمع.. ناهيكم عمّا تولّده من الانقسامات السياسية التي مبعثها تشظيات اجتماعية جد متنافرة، وأيضا التحريض الإعلامي والسياسي من أطراف عربية.. كله كان ولم يزل حتى يومنا هذا، يؤجج مشاعر العراقيين وعواطفهم إلى الدرجة التي يصبحون يتناسون فيها أية ضرورات وطنية هي اكبر كثيرا من شعارات لا تتحقق.. كلها كانت وراء تلك الاحترابات والمشانق والقتل.. ولا ننسى أن الزعيم قاسم نفسه قد تعّرض للقتل في قلب بغداد بشارع الرشيد ومن قبل شباب بعثيين كان احدهم يسمى بـ صدام حسين التكريتي! وقد حوكم بعضهم، ليصدر عفو الزعيم عنهم في يوم الابتهاج.
انتهت الحلقة الثانية بانتظار الحلقة الثالثة والاخيرة عن أربعين سنة من التصفيات وتداعياتها اليوم..
www.sayyaraljamil.com