منذ بدايات شهر نوفمبر 2008، وثمة متغيرات اسرائيلية قد بدأت من اجل التعامل مع القادم من أحداث العام 2009.. إنني اعتقد، أن العام الجديد سيحمل في جوفه، المزيد من المفاجئات التاريخية، كما اعتقد، أن ثمة متغيرات أساسية ستطرأ على أوضاع منطقة الشرق الأوسط في تضاعيف العام 2009.. صحيح أن اولمرت سيغادر السلطة، وقد فشل في مرات عدة، ولكن يبدو لي اليوم شبيها بإسحق رابين كونه بدا يفكّر على نحو متغاير، وكّل منهما، فضلا عن ليفني الأخرى من مواليد إسرائيل.. كما أظن أن اولمرت يرسم طريقا جديدا لهذه المرأة التي عملت معه زمنا طويلا، وستخلفه في حكم إسرائيل!
ما سر quot;التفكير الجديدquot; الذي دعا إليه أيهود اولمرت في اجتماع مجلس وزرائه؟ ما سر التصريحات المتضاربة بين اولمرت وتسيبي ليفني؟ هل هناك ثمة صفقة سياسية جديدة كي يعلن اولمرت انه يتعين على إسرائيل أن تنسحب تقريبا من كل الضفة الغربية، وكذلك القدس الشرقية كي يتحقق السلام مع الفلسطينيين؟ ولكن دعوته جاءت مشروطة بعدة شروط تمتد إلى كل الأراضي المحتلة؟ فما معنى: أن يكون العقد، تبادل لنفس الكمية من الأراضي الإسرائيلية؟
ربما يتكلم اولمرت من عندياته قرب أوان الرحيل، ولكن ثمة خطة إستراتيجية لاسرائيل تخص المنطقة بالكامل، سواء بكيفية التعامل مع الفلسطينيين، وهم الأقرب، وعلى التماس مع إسرائيل كبعد محلي له إخفاقاته بفعل عوامل الانقسامات الفلسطينية نفسها أولا، أو بالتفاوض مع سوريا عربيا، ليس من اجل عيون العرب السوداء، بل كما قالها اولمرت من اجل ضمان إيقاف دور سوريا في دعم ميليشيا حزب الله.. وصولا إلى الهدف الإقليمي الأساسي الذي تتوجس منه إسرائيل كثيرا، والمتمثل بالتسلح الإيراني، والدفع باتجاه مهاجمة إيران، أو خلق أسباب اضمحلال دور إيران في المنطقة، ومن تلقاء نفسها لمنعها من تطوير أسلحة نووية، إذ يقول اولمرت: أن المجتمع الدولي وليس إسرائيل وحدها، يهمّه التعامل مع هذه القضية.
لا اعتقد أبدا، أن اولمرت يريد غسل الأخطاء السياسية والعسكرية والشخصية التي ارتكبها أثناء ولايته، كي يخرج نظيفا أمام شعبه والعالم والتاريخ، بل انه يعّبر عن مسائل إستراتيجية تخص وجود إسرائيل ومستقبلها، إلا إذا كان ذلك تسويقا سياسيا وإعلاميا للاندفاع باتجاه تحقيق نوايا أخرى لاسرائيل، ولكن كل الأحداث تشير إلى أن أولمرت، أو أي رئيس وزراء إسرائيلي آخر، لا يمكنه التخلي أبدا عن مبدأ الدفاع الإسرائيلي ـ كما يصفونه ـ، وان الدعوة إلى التفكير الجديد، أظنها دعوة جذرية، تأسيسا لما ينتظر المنطقة من أحداث في العام 2009، وهو تفكير لا يتوقف عند حدود اولمرت نفسه، بل انه يثير جدل خليفته المنتظرة، تسيبي ليفني، وهي محاولة لإعادة بناء تحالفات داخلية جديدة في إسرائيل.. وخصوصا على حساب انقسامات الفلسطينيين الذين يجر كل واحد منهم باتجاه معين، فإذا كان الإسرائيليون قادرين على لم شعث اختلافاتهم السياسية في مبادئ إسرائيلية واحدة يعتبرونها (وطنية وأخلاقية )، فان الفلسطينيين قد تجاوزوا باختلافاتهم السياسية، تلك المبادئ الوطنية التي جمعتهم ويا للأسف.
لقد عبّر اولمرت لصحيفة يديعوت احرونوت، وهو ابن إسرائيل التي ولد فيها عام 1945 عن رؤيته للتفكير الجديد، بأن كلامه لم يقله أي زعيم إسرائيلي من قبل، وأضاف quot; حان الوقت لنقول هذه الأمور.. وأشار إلى أن صناع الإستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية التقليديين تحاصرهم اعتبارات لا ينفكون عنها منذ ما اسماه بحرب الاستقلال عام 1948! وانتقد أسلوب الدبابات والسيطرة على الأراضي والتلول والقمم.. معقبّا بأن quot; هذه الأشياء لا قيمة لها quot;! انه يمّهد، هنا، لتبرير صفقة من المفاوضات، وهو يعلم بأن الصراع على شبر الأرض هو أهم ما يفكر به كل الفرقاء! فهل غدا الأمن يقابل شبر الأرض؟ ثم ما الذي يجعله يعالج كل المشكلات في سلة واحدة.. عندما يشير إلى انه بدأ يعيد التفكير لما فعله على امتداد 35 سنة مضت حول القدس ومشكلتها المعقدّة؟ ويستطرد قائلا: quot;وكنت غير مستعد للنظر في واقع في كل من العمق quot;؟ انه بدأ ينظر إلى القدس نظرة لم يكن مستعدا لها لا هو نفسه ولا من سبقه.. انه بدأ ينظر إلى الفلسطينيين في الداخل نظرة جديدة، ويحسب حسابا لهم.. اخذ ينظر إلى القدس الشرقية كون معظم سكانها من العرب. صحيح، انه يعبّر عن واقع، ولكن الألم الرهيب يذبحه، عندما أتى الوقت كي يعترف بحقائق الجغرافية وانفجار الديمغرافية العربية! كي يدعو إلى حلول بالنسبة للاماكن المقدسة.
ولكن ما مصداقية ما قاله حول السلام مع الفلسطينيين، قال أولمرت : quot;إننا نواجه الحاجة لاتخاذ قرار، ولكننا ليس على استعداد لنقول لأنفسنا، نعم، هذا هو ما يتعين علينا القيام به. علينا التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، ومعنى ذلك هو في واقع الأمر، أننا سوف ننسحب من جميع الأراضي تقريبا، إن لم يكن جميع الأراضي. سنترك نسبة من هذه الأراضي في أيدينا، ولكن يجب إعطاء الفلسطينيين نسبة مماثلة، لأنه بدون ذلك لن يكون هناك سلام quot;. وفي مكان آخر من المقابلة، عند مناقشة مبادلة أراض مع الفلسطينيين، وقال إن التبادل يجب أن يكون quot;أكثر أو أقل من واحد إلى واحد.quot;
أما بصدد سوريا، فهو يشترط عليها، كما ذكر في آخر مقابلة له بالنص: quot;تغيير طبيعة علاقتها بإيران وإيقاف دعمها لحزب الله في لبنان مقابل التخلي عن الجولان quot;، وسواء كان ذلك منه تكتيكا أم إستراتيجية، فان الكرة الآن ملقاة من قبل إسرائيل على العرب كلهم، لقاء أثمان يدفعونها للوقوف ضد إيران، وهذا ما اعتقد ما يبّشر بأحداث العام 2009. وسواء قبل اليمين الإسرائيلي، أم رفض بوصفه تعريض اولمرت إسرائيل للخطر، فان ليس أمام إسرائيل إلا الحفاظ على وجودها.. أما العرب، فبعضهم يرى أن التفكير الجديد لإسرائيل يأتي متأخرا عن موعده، وكان على اولمرت، أن يبّشر به قبل اقتراب رحيله عن كرسي الحكم.
وأخيرا، إن إسرائيل، لا يمكنها أن تمنح خردلة واحدة للآخرين من دون تنازلات كبيرة، تضمن من خلالها وجودها أولا، وأمنها ثانيا، وقوتها في المنطقة ثالثا.. إن على كل من المقاومين أو المفاوضين العرب، أن يدركوا طبيعة التحولات في إسرائيل، لا السياسية حسب، بل الإستراتيجية أيضا، ويفرّقوا بين التكتيكات والاستراتيجيات التي تصنعها إسرائيل. على العرب أن يستعدوا لمواجهة أحداث 2009..

www.sayyaraljamil.com