كّنا ولم نزل بحاجة الى اوركاجينا عراقي!
مقدمة : منتصف قرن بالضبط
تحّل يوم الاثنين 14 تموز / يوليو 2008، ذكرى تاريخية كبرى في حياة العراق المعاصر وعند العراقيين جميعا.. ولا اعتقد ان أحدا من اجيال ثلاثة عاشت في القرن العشرين، لم يشهد ذلك الحدث الذي هزّ العالم كله عند طلوع الفجر.. هذه الذكرى التي أسميها بـ quot; ذكرى المنتصف العراقي quot; كونها تنتصف وسط قرن كامل.. وتنتصف الزمن العراقي المعاصر.. وتنتصف تاريخ عهدين سياسيين اولاهما ملكي وثانيهما جمهوري.. وتنتصف ثقافتين عراقيتين متباينتين.. وتنتصف بنية المجتمع العراقي تناصفا واضحا.. وتنتصف الدولة بين مؤسساتها التشريعية وبين تبدد المؤسسات، او بين دستورها الدائم وبين دستورها المؤقت! وكل عام يمر ويعبر 14 تموز / يوليو من امامنا، اتذكر مشروع اوكاجينا في التغيير، وأسأل نفسي : لماذا لم يتعّلم العراقيون من تجربة اوركاجينا التاريخية شيئا من المعاني الكبيرة التي بذرها العراقيون الاوائل للعالم كله قبل اكثر من اربعة الاف سنة؟
تجربة اوركاجينا.. من يستلهمها عبر المنتصف؟
باختصار لمن لم يسمع او يعرف اوركاجينا، فهو ملك عراقي سومري، اتخذ لكش عاصمة له، وحكم نحو المدة 2351-2342 ق م. وهو يعد اول مصلح اجتماعي في التاريخ، فلقد قام اوركاجينا الى جانب مشروعاته العمرانية وحفر القنوات والانهر، وبناء اقتصاد قوي، قام باصدار اصلاحات رفع الظلم والبؤس عن الطبقات الضعيفه في المجتمع. وساعد الناس البسطاء، وحدّ من نفوذ المتسلطين، وحمى المرأة، وأحل الحريات . وكان حاكما حريصا على الفقراء. لكن لم يدم حكمه سوى عشرة اعوام. حتى ظهرت شخصيه قويه عاتية هو لو كال زا كيزي - lugalzagesi - نحو 2350 ق. م. مستغلا ضعف - لكش ndash; فهجم عليها واحتلها و دمرها واحرق معابدها بعد ان نهب كنوزها.وقد اعتبر ذلك اثما كبيرا و ماساويا بحق مدينه لكش. محملين الهه (اوما ) مسوولية ذلك.
معنى النقطة الفاصلة
ولا احسب ان النصف الاول منه قد بدأ بالعام 1921 عندما تأسست الدولة العراقية بنظام ملكي هاشمي يقف على رأسه الملك فيصل الاول، بل ولم يبدأ ذلك quot; النصف quot; مع احتلال البريطانيين العراق للفترة 1914- 1918، انما اعود به الى العام 1908، حيث بدأت منذ هذا العام جذور العراق الحديث، وعرف العراقيون منذ الانقلاب الدستوري وعهد الاتحاد والترقي ومن خلال نخبتهم المثقفة معاني الدستور والمشروطية والصحافة وتأسيس اول كلية للحقوق ببغداد وبدء روح العصر.. ان خمسين عاما من القرن العشرين 1908 ndash; 1958، يعد نصفا مدنيا عراقيا شهد الجذور والبدايات وانطلاق التفكير والجمعيات والاحزاب والمدارس المدنية والفكر المدني.. ثم الاحتلال البريطاني وثورة العشرين، ثم الانتداب البريطاني وتأسيس الدولة العراقية الحالية ومنجزاتها واخفاقاتها انتهاء بـ 14 تموز 1958.. في حين شهد النصف الثاني من هذه الحقبة التاريخية 1958- 2008 زمنا عسكريا مع ولادة الجمهورية العراقية بمنجزاتها واخفاقاتها ايضا عبر مراحلها العسكرية الاربعة : القاسمية والعارفية والبعثية والمكوناتية الحالية! ويعيش العراق اليوم مخاضا تاريخيا صعبا بعد ان تفجرت التناقضات فيه على اليد الامريكية اذ يخضع العراق للاحتلال الامريكي.. وهو يحاول البقاء موحدا من دون التشظي الاجتماعي الهائل الذي اصابه لأول مرة.
ان 14 تموز تناصف العام 1958 نفسه. وانها تستمد اهميتها من عوامل عديدة ربما لم يلتفت اليها أحد حتى اليوم، اذ لم يزل كل العراقيين ينقسمون حتى اليوم في تقييم هذا quot; الحدث quot;، وسيبقى كل العراقيين ضمن هذا الانقسام لخمسين سنة قادمة على اقل تقدير، وذلك بسبب غرابة الحدث، وثقله، وقوته، وتراجيدية فصوله، مقارنة باحداث مشابهة اخرى في الشرق الاوسط.
يوم عراقي قائظ
ان 14 تموز 1958 هو يوم استثنائي في حياة العراق والمنطقة جمعاء، ليس لكونه مجرد مصطلح للتعبير المختلف عليه عند العراقيين : انقلاب ام ثورة.. بل لكونه ظاهرة تاريخية بحد ذاتها، نقلت العراق من تاريخ معين عرفه كل العالم الى تاريخ من نوع آخر لم يعرفه بعد حتى ابناؤه.. وان هذا اليوم المشهود لم يقتصر على مجرد اعدام عائلة مالكة في مجزرة رهيبة وتغيير نظام سياسي الى نظام سياسي آخر افتتح فمه بشلال دم، وسحل الاجداث بالحبال، بل كان بداية حقيقية لتغيير تاريخي جذري في البنية الاجتماعية العراقية نفسها وكل ما عبّر عنها في النصف الاول من المئوية مقارنة بما عّبر عنها ابان النصف الثاني منها.. ان يوم 14 تموز 1958 هو يوم عراقي حقيقي، اذ انه حدث تاريخي صنعه العراقيون وعبّروا فيه عن طبيعتهم باقصى درجات العنفوان، ولم يسهم في صنعه على الارض غير العراقيين..
من مملكة الاعيان الى جمهورية المكونات
استطيع ان اختزل التغيير بانتقال العراق من زمن النخبة العليا الى زمن الجماهير الشعبية.. من زمن المؤسسات الى زمن اللامؤسسات.. من زمن الاعيان والشيوخ والبيكات والباشوات الى زمن الثكنات والاوكار والشوارع والمليشيات بدءا بالمقاومة الشعبية وانتقالا للحرس القومي، ووصولا للجيش الشعبي، وانتهاء بمرتزقة الاحزاب والاوليغاريات! ومن زمن المشروعات المدنية الى زمن حكم العسكر والانقلابات.. ان من غرائب بعض العراقيين انك تجدهم يلعنون نوري السعيد صباح مساء طوال هذا الزمن المرير، كونه الرجعي الاستعماري والخائن والعميل صاحب المعاهدات والاحلاف الاستعمارية، وهم الذين يصفقون اليوم للاتفاقية العراقية ـ الامريكية مع فارق الزمان، وفارق المكان، وفارق المفاوضين العراقيين. ان من عمل على بناء الدولة ضمن مشروع الدولة العراقية المدنية الموحدة، لا نجد من مثله اليوم كي ينجح في اعادة بناء الدولة على اسس مدنية، واذا كان العراقيون الاوائل قد انتصروا بولادة وطن، وولادة دولة، وولادة مجتمع موّحد بالرغم من كل انقساماته الاولى على يد البريطانيين، فان العراقيين الاواخر قد فشلوا في اعادة بناء الدولة التي تفككت مؤسساتها على ايدي الامريكيين الذين ساهموا في ولادة جمهورية المكونات القومية والطائفية والاقلياتية!
عوامل اساسية
مع احترامي لكل كليشيهات ما رددناه منذ ان كّنا تلاميذ في المدارس من اسباب قيام ثورة تموز، ولكن مع مرور الزمن، ومضي عجلة التاريخ ستبدل الناس قناعاتها ليس باهمية الحدث وقيمته التاريخية، بل بما نسج حوله من اسباب ومبررات لا معنى لها. لقد كان النظام الملكي في العراق يعيش ازمة سياسية داخلية متفاقمة بعيدا عن اية مشروعات من نوع آخر كان ينفذها باستراتيجية قوية وبعيدة المدى، ولكن الرعيل السياسي القديم بقي منغلقا على نفسه من دون ان يشرك القوى الجديدة الصاعدة ليس في الحكم، بل حتى في منحها فرصا جديدة في الحياة.. ولقد ادخل النظام الملكي نفسه في نفق لم يستطع الخروج منه، اذ بدا للعالم انه يمشي على عكس الاتجاه الذي كانت عليه مصر، وقد نجح الرئيس جمال عبد الناصر بتسديد ضربة قوية للعراق في انتصاره المؤقت بالوحدة العربية مع سوريا.. وبالوقت الذي كان العالم الثالث يسعى ضمن حركات التحرر من الاستعمار، راح نوري السعيد ليجعل بغداد مركزا قويا لحلف دولي سمي باسمها، فوصم بالاستعماري! وبالوقت الذي كان العراق الملكي منفصل السلطات وللقضاء حرمته واستقلاليته، وقد بدأ بمشروعات جبارة في تحديث البنية التحتية للعراق من خلال مجلس الاعمار في الري والبزل والطرق والسدود والمدارس والصحة والمستشفيات والجسور والخدمات والصناعات وافتتاح الجامعات.. الخ فانه لم يلتفت ابدا الى اوضاع البائسين العراقيين في صرايف حول بغداد، ولا الى معالجة الريف، وتطوير اوضاع الفلاح، والحد من نفوذ شيوخ العشائر، ناهيكم عن التنكيل بقوى اليسار والشيوعيين العراقيين بالذات الذين وقفوا بالمرصاد ضد كل اجراءات ذلك العهد. ولقد خسر العراق جيرانه العرب بتحالفه القوي مع ايران وتركيا من اجل حسابات اقليمية هو ادرى بها من غيره، وادراكه للخصوصيات العراقية التي لم يفهمها العراقيون عهد ذاك.. ولم ينفعه الاتحاد الهاشمي الذي بناه مع الاردن، وبالرغم من هشاشته الا انه بدأ ينظر اليه كونه يشكل مصدر خطر مستقبلا ضد اسرائيل. لقد انهى العهد الملكي نفسه بنفسه، ولكنه لم يكن يتوقع ان تكون الضربة بتلك القسوة التي لا يستحقها والتوحش الذي صنعته همجية اذاعة بغداد! كم كّنا يوم 14 تموز 1958 بحاجة الى مشروع سلمي ومتحضر في التغيير كمشروع اوركاجينا؟ كم كنّا بحاجة الى مثله طوال خمسين سنة منذ العام 1958 حتى اليوم؟
التساؤلات عن دور حلفاء بغداد
وربما كانت هناك اصابع دولية او اقليمية او عربية محركة لطبيعة الحدث، اذ ثمة حقيقة واضحة تقول لنا بعد استنطاق بعض الوثائق السياسية الخاصة، ان ليس هناك حدث كبير في منطقة الشرق الاوسط لم تقف من ورائه قوى دولية وخصوصا عندما بدأ مشروع روزفلت يسعى لافراغ دويلات الشرق الاوسط من النفوذ البريطاني، وسياسة املاء الفراغ من قبل الامريكان.. وتشير بعض التقديرات الى ان كلا من البريطانيين والامريكيين كانوا يعرفون بكل ما يجري قبل الحدث واثناء ذلك اليوم.. فان صح هذا quot; التقدير quot; من خلال استنطاق بعض الوثائق المخفية التي ينتظرها العديد من المؤرخين بفارغ الصبر، وخصوصا عن دائرة التسجيلات البريطانية، فسينقل ذلك تفكير العراقيين في رؤيتهم التاريخية وليس السياسية، والعقلانية وليس العاطفية الى طبيعة الحدث نفسه.. وسواء صح هذا quot; التقدير quot; اليوم او غدا، فان السؤال الذي يسبق كل التقديرات يقول : هل من المعقول ان يدخل الجيش العراقي بغداد للاطاحة بالنظام الملكي وهو واسطة العقد في الشرق الاوسط، وله اكبر واوثق الروابط بينه وبين الغرب، وان كلا من السفارتين البريطانية والامريكية يقع في قلب بغداد، وهل من المعقول ان لا تعرفان اي شيئ عما يحدث؟
التفكير التاريخي بديلا
انني اكتب هذا ليس من باب انتزاع عراقية صورة 14 تموز سياسيا ووطنيا، اذ بدا الزعيم عبد الكريم قاسم في مقدمة الزعماء الوطنيين العراقيين، وكان نظيفا ويحب شعبه الى درجة كبرى، ويكفي انه انتهى نهاية مأساوية عام 1963 هو ايضا.. ولكنه سؤال ينبغي ان يسأله كل عراقي واع ومدرك ومشبّع بالثقافة التاريخية، وليس اولئك الذين ارتضوا بالغلو والممانعة بعيدا عن الوسطية والاعتدال، او اولئك الذين تقلبوا ذات اليمين وذات الشمال، او اولئك الذين لم يعترفوا بأية لغة الا لغة الحبال.. انني لم أسأل هذا quot; السؤال quot; المباشر، الا بعد مرور خمسين سنة على الحدث.. وعليه، فان ذكرى المنتصف نريدها تاريخية بحتة بعد خمسين سنة اعقبتها بعيدا عن جعلها ذكرى سياسية مجردة من كل الموضوع! ان ذكرى المنتصف ينبغي ان نبعدها عن اختلاف العراقيين بين محتفلين بها الى كارهين لها! ان ذكرى المنتصف تدعو كل العراقيين اليوم ومستقبلا ان ينظروا اليها نظرة المتعلم من رمزها سواء كانت صفحتها ايجابية عند البعض ام سلبية عند البعض الاخر.. ان 14 تموز 1958 ليست مجرد عملية جراحية في سياسة العراق، وليست مجرد عملية اصلاحية كالتي عرفها العراقيون منذ ايام اوركاجينا السومري.. انها بركان هائل في حياة العراق المعاصر.. كانت تداعياتها ونتائجها وآثارها قد اصابت كل البنية العراقية، ولم تسلم منها حتى السايكلوجيا العراقية نفسها. انني واثق انها علامة تاريخية فارقة ستبقى تثير الجدل لازمان طوال!
بعيدا عن ثنائية التضاد
ان ذكرى المنتصف تثار اليوم من اجل ان تكون معلما وتجربة يمكن الاستفادة من منجزاتها او من تناقضاتها.. من ايجابياتها او سلبياتها.. ان ذكرى المنتصف لا يمكن ان يحتكرها أبدا حزب معين، او جماعة معينة، او خندق معين، او تيار معين.. انها قد اصبحت في عداد تاريخ العراق المعاصر، وهو تاريخ صنعه العراقيون جميعا بدمائهم ونضالاتهم وحركاتهم وافكارهم وابداعاتهم وقراراتهم.. او بانقلاباتهم وانتفاضاتهم ومسيراتهم واضراباتهم وحروبهم.. او رسموه واصدروه بقرارات ومراسيم وقوانين حكام العراق المعاصرين الذين عرفناهم جميعا في القرن العشرين، وقارنا بين قدراتهم وكفاءاتهم جميعا.. صنعوه بكل ايجابياتهم وسلبياتهم.. فهل باستطاعة العراقيين اليوم التأمل بذكرى المنتصف 14 تموز والاستفادة منها، بدل البقاء والتبتّل في مهجعه والتهجد في معبده ليل نهار! او لعن ذلك الفجر الاسود ـ كما يصفه البعض من خصومه الالداء ـ؟ هل يمكننا ان ننتقل قليلا من الذات الى الموضوع في معرفة قيمة الحدث، ليس كما نظر اليها الاباء قبل خمسين سنة، بل كيف يمكن ان ينظر اليها جيل اليوم بكل حيادية وموضوعية.. استعدادا لكيفية تلقيها واستيعابها عند الاجيال القادمة.
حجم الظاهرة التاريخية
ليكن معلوما لدى كل العراقيين ان 14 تموز 1958 هي علامة فاصلة في تاريخ العراق الذي قسمته الى قسمين اثنين.. وهذا يتطلب من اي مؤرخ ان ينتقل من ترديد الاحداث، وتكرار ما تلقن على امتداد خمسين سنة من عوامل واسباب.. ليرى حجم هذه quot; الظاهرة quot; التي لم تكتف بقصم ظهر الملكية العراقية وابادتها وتسميتها بـ quot; العهد المباد quot;، بل انها لم نزل نعيش تداعياتها حتى يومنا هذا.. وهنا، فان العراقيين كلهم، بحاجة ماسة الى قراءة ثانية لهذه quot; الظاهرة quot;.. كما جرى بعد مرور خمسين سنة على الثورة الفرنسية في 14 تموز 1889، علما بأن الفارق كبير بين الحدثين التاريخيين الفرنسي والعراقي برغم تطابق ذكرى ذلك اليوم.
كيف باستطاعتنا ان نخرج من اثواب الماضي التي يعدها البعض على اتم روعة ويعدها الاخرون خرقا مهلهلة؟ كيف باستطاعتنا ان ندع الناس تفكر من تلقاء ذاتها، بدل ابقاء المكررات السياسية تدور في عجلة مكسّرة بعد خمسين سنة من ذاك الحدث المرير؟ كيف لنا الوصول الى هوامش الحقيقة لا الحقيقة كلها، الا بالخروج عن اطواق ذلك الماضي الذي غادرنا بكل حلوه ومره؟ كيف نجعل من هذه الاجيال الجديدة والقادمة تخرج من حلبة الصراع بين العراقيين الذين لا تجدهم الا مجتمعين في معبد الماضي واحدهما يطعن بالبعض.. هم يرتطمون بعضهم بعضا، هم يدخلون ويخرجون من التاريخ وحرابهم بايديهم.. وقد افتقدوا روح قبول الاخر والرأي المخالف والفكر المخالف مذ افتقدوا مؤسساتهم المدنية!
المنتصف : ساعة امتحان عصيبة!
ان هذا quot; المنتصف quot; علامة تاريخية فارقة في طريقنا.. اين قادنا المنتصف بعد ساعات الامتحان العصيبة؟ هل حقق المنتصف امتصاص الغضب بين ابناء القبيلة؟ هل خلق ميثاقا جديدا نحو الانطلاق؟ وهل الانطلاق كان سليما منذ اللحظات الاولى؟ لعل من اكثر ما يقّض مضاجع العراقيين اليوم ان تجد حصيلة ما كنت تسعى من اجله يقابل بواقع لا تمتلك ارادتك فيه كالبيت الذي ابتلي بعصيان الابناء على والدهم، بل يستخدمون السوط ضده فيشبعونه جلدا سنة بعد أخرى بلا اي تعّقل وبلا منحه اي فرصة كي يقول كلمته! انك في جعلك هذا المنتصف مجرد معادلة بين الخير والشر او بين الجمال والبشاعة.. فلقد جعلت نفسك مهزوما ومنبوذا وطريدا على امتداد الزمن من كل الاجيال القادمة التي ستنفصل يوما بعد آخر عن واقعنا في القرن العشرين، وتتعلق برموز وارقام وحقائق ومعلومات لتحاكمها بعقلانية وحيادية ووسطية.. لا يهمها جدا التعاطف مع اي طرف من طرفي المعادلة. وستسأل وتبحث عن اجابات حقيقية : هل يتغير الشعب العراقي بتغير حكامه ام بتغير موضوعاته؟ ان مجرد التدقيق في اسماء العراقيين مثلا ممن ولدوا في القرن العشرين، سنلحظ ظاهرة فريدة متسائلين : لماذا كان هذا الحجم الهائل من اسماء فيصل وعبد الاله ونوري على ايام العهد الملكي؟ ولماذا كان ذلك الحجم الهائل من اسماء عبد الكريم وقاسم وجمال وعبد الناصر في مرحلة تالية.. وهلم جرا الى حيث اسم صدام؟ فهل المسألة غارقة بمثل هذا الحجم من التناقضات؟ هل يتعلق العراقيون بكل قادتهم عاطفيا الى حد النخاع، فيرفعون سيارة ملكهم على اكتاف! ويجدون صورة زعيمهم على القمر! ويبكون بكاء الصعب على نهاية المشير! ويجعلون من القائد الضرورة نبيا مرسلا، لا يطيب لهم الا اهدائه الاغاني والاشعار الشعبية والرقص امامه!
المنتصف بين زمنيين متخاصمين
لا اريد ان يتنازل الخصمان عن مضاربتهما حول عظمة هذا المنتصف او بشاعته، ولكنني اطلب ان ينفسح المجال امام كل العراقيين ليدركوا كيف كانوا عند ذاك المنتصف، واين وصل بهم الحال؟ ليدركوا ان العراق الوطن كان ولم يزل يباع ويشرى في نفس اسواق البورصة السياسية الدولية والاقليمية.. ليدركوا ان العراق لا يبنى بالشعارات واليافطات والاحتفالات.. بل يبنى بالمشروعات والعلاقات ومنجزات التقدم والخدمات.. ليدركوا ان المشروع الوطني العراقي لا يمكن ان يحتكره طرف واحد لا يتحدث الا باسم الجميع وهو لا يملك مشروعا في الاصل، او انه لم يزل يعلن عن مشروع ميّت.. ليدركوا ان التحولات الاجتماعية نحو الافضل لا تأتي من فراغ! ليدركوا ان لا تقدم في اي مجتمع من دون دولة حقيقية تخدمه.. دولة مدنية لها مؤسساتها الدستورية الدائمة والفاعلة! ليدركوا ان بنيان الدولة والنظام السياسي لا يمكنهما ان يقوما ابدا في مجتمع تتشظى فيه الانقسامات! ليدركوا ان الثقافة الهمجية لا تورّث الا الاسقام والمواجع والالام! ليدركوا قيمة الحياة بين زمنين متناصفين، وان المنتصف لم يكن شكلا من اشكال المقامرة! ليدركوا ان صياغته ساهمت فيها ظروف ذلك الزمن الذي كان مشبعا بالشعارات والحركات التحررية والنضالات وحرب الاذاعات الباردة ومبررات الانقلابات العسكرية..
هل استوعبنا الدرس؟
ان ذكرى منتصف تاريخ العراق المعاصر ستبقى قوية ومؤثرة ليس بحجم من يصفق لها او من هو ساخط عليها.. بل لأنها فعلا القاسم غير المشترك في تاريخ شعب ودولة.. وانها فعلا كانت ولم تزل مثيرة للتطرف والغلو في اضفاء العراقيين لما يحبون او يكرهون من هذا العهد او ذاك بلا اي حيادية ونقد او منهج او حوار.. بلا عشق، وبلا اي جنون، بلا اية خصومة، بلا اي شتيمة، بلا اي شماتة، بلا اي سخط، بلا اي كره واحقاد.. بلا اي تمجيد وتهالك.. ان المستقبل يبنيه ابناء اليوم، ولم تنفع مع ابناء اليوم شعارات ذلك الزمن الماضي، ولم تنفع مع ابناء اليوم مبررات ذلك الزمن الواهي.. ان ابناء اليوم ما عادوا سذجا يستعدون للتصفيق، والرقص في الشوارع، وتكرار المعوذات السياسية، وترديد المقولات الايديولوجية.. ما عادت عبارات الماضي ومصطلحاته صالحة للاستهلاك الوطني في اية سوق سياسية اليوم.. لا اقول تراجعوا عن مواقفكم، ولكنني اقول بأن تعيدوا التفكير في ما انتم تصنعون.. وان تعترفوا بالاخطاء التي حصلت جهارا نهارا.. واقول بأن تتعلموا من تجارب التاريخ، والتخلص من المطلقات، ومن عبادة الاشخاص : جلالة سيدنا، ودولة الباشا، والزعيم الاوحد، والرئيس المؤمن ابو الثورات الثلاث، والرئيس المهيب، والقائد الضرورة.. الخ واذا كان زعماء العراق قد قبلوها، فان التاريخ قد رفضها بعد ان رفض احدهم الاخر تباعا، وساهم واحدهم في الانقضاض على الاخر سراعا. فهل يبقى العراقيون يتهالكون من دون اي مساحة لاعادة الاعتبار لكل من ساهم فعلا في بناء العراق..؟
واخيرا : متى يكون ميثاق اوركاجينا معلما للعراقيين؟
اننا فعلا بحاجة الى نبذ اي عهر سياسي يؤجج المشاعر،ويثير العواطف. ان علينا ان نتعلم من صلب ميثاق اوركاجينا كيف يمكننا بناء التحولات لنشارك العالم حضارته وتحولاته المعاصرة.. ولا يمكننا انجاز ذلك من دون اي تفكير علمي متوازن لا يضفي صفة المدينة الفاضلة على اي عهد عراقي مضى، بل يعيدنا الى رسم المنتج الوطني التاريخي لكل زمن او لكل عهد.. واذا كانت حاجة العراق الى منتصف بين زمنين اثنين، والى اي نوع من التغيير الاجتماعي والاصلاح السياسي من اجل ان يجد العراق فرصه في الحياة، فان ما حدث يثير الحزن والالم على بلاد نكبت ليس على ايدي ابنائها وزعمائها واحزابها وضباط جيشها حسب، بل كانت ضحية في سوق نخاسة دولية واقليمية وعربية! رحم الله الجميع، فلكلّ من العراقيين اجتهاده، ولكل منهم خطئه وصوابه.. ان العراق يدخل اليوم مئوية زمنية من نوع آخر، فهل استوعبنا درس المنتصف لنخوض غمار المستقبل؟
التعليقات