مقدمة: اشكاليات مجتمعات لا يعنيها الادراك
يقولون ان هذا يغرق نفسه بالتفاؤل وان ذاك يمزقه التشاؤم.. يطالبون بالاصلاح ولكنهم يتهكمون على المصلحين المحدثين.. يتبجحون باسم الواقع، ولكنهم يتعصبون للاوهام والاخيلة المضحكة.. كذلك هي قصة مجتمعاتنا التي تسير دوما من سيئ الى أسوأ، ومن يحاول انتقادها بغرض انقاذها تقوم عليه القيامة تحت حجج واهية وادعاءات سمجة لا تغني ولا تسمن ابدا.. القادة يريدون من الجميع ان يكونوا متفائلين ومصفقين وراضين غصبا عن كل البائسين والمهمشين من العقلاء النزهاء.. في حين ان المفكرين الحقيقيين لا يريدون خداع الناس، ولا يريدون ترديد الشعارات التي لا اصل لها من الصحة ابدا.. الشعاراتيون لا يرون في النكبات والمشكلات والهزائم والنكسات وكل الاخفاقات اي تراجع لا في الواقع، ولا في التاريخ، ولا حتى في المستقبل، ويتهمون كل الانداد انهم لا يرون الا سوادا، وانهم كالاضداد منهم لا يزرعون الامل.. وانهم لا يجدون اي مكاسب ولا اي تطورات! المشكلة ان لدى بعض الناس منطق رائع، وتفكير بعيد، ورؤية عميقة ولكنه باق مستتر لا يظهر مخافة ردود الفعل العنيفة.. ان واقعنا اليوم بايدي قوى لا تهتم بالعقل ولا بالمنطق ولا بالقانون ولا بالادراك.. دعوني اعالج مثل هذا quot; الموضوع quot; من خلال التساؤلات للبحث معا عن اجابات، يمكنها ان تكون ركائز اساسية للحياة في مجتمعاتنا بعيدا عن اية انحرافات. وحتى لا يتهمني البعض كوني لا اردد الايجابيات وليس لي الا العزف على السلبيات، اقول بأن الايجابيات في مجتمعاتنا رائعة، ولا يمكن ان نتخلى عنها، وهي كثيرة ومعروفة، ويكفينا مفاخرات وتمجيد فلقد شبعنا من النسيب والفخر ومديح النفس والاخر.. ومن اجل الحفاظ على ما تبقى لدينا من سجايا، فالمهم ان نقضي على كل الانحرافات التي اصابت مجتمعاتنا، والتي ربما لا يراها البعض، او انه يراها ولا يريد تعريتها.. ومن يراقب جملة من الاعمال الروائية والدرامية العربية ـ مثلا ـ سيجد تصويرا حقيقيا لعدد لا يحصى من الانحرافات الخطيرة في اغلب مجتمعاتنا..
انتقال الهيمنة.. استمرار السذاجة
ان الهيمنة على الواقع قد تبلورت بأيدي اصحاب افق ضيق، وانعدام معرفة، وتسطيح بلا اية رؤية، ولا وعي، ولا حتى أية افقية ساذجة للمشكلات، بل ولا اي قياس عادي بالمقارنة مع آخرين.. وكثيرا ما ردد الفلاسفة بعدم مقارنة المجتمعات بين التقدم والتخلف، فالفجوة لا يمكن ملؤها بالكلام الفارغ، والامنيات المعسولة، والضحك على الذقون بالشعارات البراقة. كان الكتّاب والمثقفون المجددون قبل عشرات السنين يمارسون دور النصح والامر بالمعروف والتبشير بالاخلاق العالية والتعريف بآداب المجتمع بدءا من quot; الام مدرسة اذا اعددتها.. وانتهاء quot; وانما الامم الاخلاق ما بقيت.. quot; ولما جاء جيل ما بعد الحرب الثانية تمرد ضدهم وضد المجتمع واعلن الثورة قولا لا فعلا.. وغرس اخلاقيات سياسية وقال بالنضال ضد الرجعية والامبريالية وافترستنا الاحزاب القومية واساءت لمجتمعاتنا اساءات بالغة لا يمكن وصفها فمن اولئك من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ومنهم من اساء لنفسه وللاجيال من بعده كونه عاش اكذوبة لا اصل لها من الصحة من اجل الوصول الى السلطة.. واليوم، تسلّم الدور آخرون من نوع آخر، فمنهم من يريد الاصولية ومنهم من يكّفر الاخرين واعدام وسطيتهم، ومنهم من يريد السلفية وتسفيه اي جديد، ومنهم من يعيش اوهام الاضرحة وتعذيب النفس وانتظار من سيأتي في نهاية العالم!!
نجد مجتمعاتنا وهي تنخر دواخلها نخرا، وتأكل بعضها بعضا، فلا نجد مصلحين اخلاقيين مثاليين ولا نجد مناضلين ثوريين متمردين.. بل نجد خواء من طفيليين ومقلدين ومهمشين وتكفيريين وانهزاميين وطائفيين واستنساخيين ومتعصبّين.. الخ ولم نعد نجد اي شارع وطني سياسي ناضج او ميدان ثقافي محلي رائج يضج الاول بالمعارضة الحقيقية الصلبة وشجاعة الرأي ضمن ارادة واحدة، ويمتاز الثاني بالابداعات وخلق الروائع التي تشد العالم..
اسئلة بحاجة الى اجوبة حقيقية
هل فكرنّا جميعا بنصف قرن مضى؟ ما الذي تحقق هنا وما لم يتحقق هناك؟ ما العوامل التي جعلت من شعوب هذه المنطقة بالذات تتراجع في مستوياتها، وتتخلف في تربوياتها، وتتكاثر مشكلاتها، وتطغى الاميّة على تفكيرها، ويعشش الجهل في نسيجها؟ وتتراخى في ابداعاتها وحتى في موسيقاها وطربها؟ وانها باتت تستسلم بالتالي الى مقاديرها التي لم يقل بذلك اي دين من الاديان! ما الذي جعل كل جيل يعيش هوسا معينا بكل استشرائه وطغيانه وغلوائه وتعصباته؟ ما مسؤولية دواخلنا وسلوكياتنا وممارساتنا ضد بعضنا الاخر في ان نقدم للاخر مجتمعاتنا له ليفعل بها ما يشاء؟ ما مسؤولية ذلك الترييف والزحف القروي ليس بعاداته الحسنة، بل باسوأ اخلاقياته وتبوئه السلطة في اكثر من بلد مهم من بلداننا؟ ما الذي مزق شمل مجتمعاتنا وقام بالنيل منها، وتكريس الانقسامات الحاصلة ليس السياسية حسب، بل غدت مذهبية وطائفية وجهوية وعقائدية وفكرية؟ من الذي نال من المرأة في الصميم، وهي نصف حقيقي لمجتمعاتنا؟ من الذي همشها وجعلها كائن عاطفي لا عقل له؟ او نشرها بضاعة بضة على شاشات الفضائيات؟ ام تركها متكلسة في الحجرات المظلمة؟ ام ظلمها ومنعها من ابسط حقوقها في الحياة؟ اننا ان اردنا معرفة مدى اهتزاز مجتمعاتنا، فما علينا الا ان نكشف عن نسبة الطلاقات والانفصال في المحاكم الشرعية بمجتمعاتنا!
وأسأل واعيد السؤال: من الذي زرع الكراهية والاحقاد في مجتمعاتنا بعد قرابة مائة سنة على ما سمي بالنهضة او التأسيس او التجديد؟ من الذي دفع بالانقلابات العسكرية لتنّكل بمجتمعاتنا شر تنكيل؟ من الذي مكّن الاحزاب العقائدية ضمن رياح الحرب الباردة في مجتمعاتنا لتتلوها الاحزاب المذهبية والطائفية بعد كل هياج عام 1979؟ وكلها سلسلة من المحن التي صفق لها الناس وما زالوا من دون اي دراية بخفايا ما هو اعظم! من الذي جعل الناس تهرب وتهاجر من مجتمعاتنا الى عوالم اخرى في اوروبا وامريكا، وهم يحملون كل ترسبات مجتمعاتهم وانقساماتهم؟ بل وتزداد الهجرة والهروب سنة بعد اخرى خلاصا من اهتراء الاوضاع؟ هل كان البطش نافعا؟ هل كانت القسوة مفيدة؟ هل كان الصراع من احدهم او من نخبتهم او ضباط احرارهم لانقاذ البلاد والعباد..؟؟ ام كان الكل يسعى الى السلطة بأي ثمن كان؟ من قدّم المواطنة على الزعامة؟ والحريات على الطغيان؟ والانتاج على الاستهلاك؟ وقد قيل quot; لا يخلد الزعيم إلا بثلاث: تجرد عن الهوى , ولذة في الحرمان , وترفع عن الحقد quot;. فهل يعقل الزعماء حتى يخلدون؟
ذروة التشكيل بين الانطلاق والانسحاق
قبل خمسين سنة من اليوم، وبالرغم من كل المثالب وعوامل التأخر وهيمنة التخلف، يذكر ابناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الاساليب التي تربى عليها المجتمع.. لم يكن بعد قد اخترعت الثنائيات الايديولوجية.. لم يعرف الناس ثنائية الرجعي والتقدمي ولا ثنائية اليمين واليسار.. ولا الرأسمالي والاشتراكي.. ولا ثنائية القومي والاممي، ولا ثنائية الوطني والديني.. الخ لم تكن مجتمعاتنا تعرف قوى التكفير ولا بطش المليشيات ولا دوامات العنف المسلح.. لم تكن مجتمعاتنا تخشى سلطة عصابات المافيات ولا عصابات التهريب ولا اعمال التفخيخ ولا السلب ولا النهب ولا التفخيخ ولا الخطف ولا الاغتصاب.. لم تعرف الارهاب السياسي ولا الديني ولا الطائفي.. كانت هناك دوائر امنية بسيطة.. ولكن لم تكن الناس تخاف التنكيل من الدوائر الخاصة؟ صحيح ان ثمة تقاليد وعادات سيئة كانت تسود في مجتمعاتنا قبل عشرات السنين، ولكن لم ينجح المجتمع بكل نخبه وزعاماته وحكوماته واحزابة ونقاباته من القضاء على السيئ.. ابدا، بل ازدادت الاوضاع سوءا! كان الامن سائدا والاستقرار متوفرا.. اي بمعنى: لم يكن هناك دول تعيش في دول! لم يكن الناس يهرولون بجنون الى حيث لا يعرفون.. لم يكن البطش يلاحقك ولم يكن الاختلاس والاعتداء على المال العام امرا عاديا، بل يعتبر الاختلاس جريمة.. لم تكن زراعة الافيون موجودة، ولم يكن الناس بحشاشين في المقاهي وفي المدارس وعلى قارعة الطريق.. ربما كانت هناك كابريهات ومسارح ودور دعارة.. لكنها كلها في حماية الشرطة والدولة.. كانت مجتمعاتنا متماسكة اكثر بكثير من اليوم، وكانت المحبة سائدة حتى وان كان الغاطس من الكراهية والاحقاد لا يظهر الا لمما ولاسباب قاهرة.. فما الذي فّجر المكبوت من الاحقاد فجأة؟ اين كان كل هذا المكبوت الهائل من الاحقاد والبغضاء؟ ان تيارات متناحرة تأكل مجتمعاتنا اليوم اكلا كالنار في الهشيم..
الوعي والعقل: ضرورتان لمجتمعاتنا
هناك من يبقى يردد ان مجتمعاتنا بحاجة الى ثقافة، ولكنني اخالفه ذلك انها بحاجة الى تربويات واسلوب حياة وسلوك وتصرفات مع الذات والاخر، وان مجتمعاتنا بحاجة الى من يزرع الوعي والتمدن فيها.. مطلوب من كل الوعاة والعقلاء زرع كلمة طيبة وفكرة رائعة ونص مبدع وحكمة مفيدة.. مطلوب من كل من يكتب ويخطب ويصرح ويتكلم ويحاضر وله من يسمعه ان يعالج بكل مودة ومحبة اي فكرة سمحة او مثلا كريما او ضرورة مهمة يعتقد انها تصنع الازدهار.. قال عبد الله بن المقفع: quot; أكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تسمعون quot;. على المجتمع نفسه ان يفكّر قليلا قبل ان يقول كلمته او يصنع قراره.. يفكر بعقله لا بعاطفته.. ويتأمل مقارنا بين التشيؤات والشعارات.. عليه ان يفكر بالمصلحة العامة قبل مصالحه الشخصية.. عليه ان يكون مثلا حيا للجميع.. عليه ان يتوقف عن هذيانه وثرثرته ضد الاخرين.. عليه ان يحترم ارادة الاخر ومقول قول الاخر.. عليه ان يحاججه بالفكرة مقابل الفكرة ولا يستخدم الشتيمة والتجريحات وهي من الاساليب الرائجة اليوم مذاعة باسم الحريات والديمقراطية.. عليه ان يدقق المعلومات قبل ان يعيد تكرارها.. عليه ان يكون صريحا في ما يؤمن به.. عليه ان يبّدل سلوكياته المنحرفة ان وجدت والتي تربّى عليها منذ خمسين سنة! عليه ان يخلص نفسه وكل من يريده من اية فوضى تكتسحه.. عليه ان يخفف من تعصباته وتطرفه تجاه من يخالفه.. عليه ان يحترم عقل الاخرين ان كانوا فعلا يمتلكون العقل.. عليه ان لا يتخندق سياسيا، فليس ثمة ما هو صحيح دوما او خطأ دوما.. ان الحياة نسبية، ونسبية الحياة تفرض على الانسان ان يكون حياديا في معرفة الاصلح بعيدا عن استخدام اللغة المشينة او التحدث مع الاخرين بأنوف يابسة.. وقد كنت اعجب منذ صغري بمن يقول: quot; لا تسعد الأمة إلا بثلاث: حاكم عادل , وعالم ناصح , وعامل مخلص!
كنت في حوار قبل ايام مع اعز الاصدقاء وهو طبيب، سألته: الا تعتقد ان مجتمعات مثل العراق ومصر خصوصا تجد هناك منذ خمسين سنة تبلور طبقة اجتماعية صغيرة فيها ـ بشكل عام ـ لها سلوكياتها الخاصة والمتصفة دوما بالجشع والانعزالية والفوقية والاستعلائية الفارغة متمثلة بالاطباء، فهم يرون انفسهم فوق البشر، ويحّسون بأنهم ارقى من كل الناس، علما بأن ليس لهم الا جيوبهم وانعدام انسانيتهم واغلبيتهم لم تعرف قراءة كتاب واحد في الحياة.. في مجتمعات متقدمة، يحاسب الطبيب (كالاخرين) ان أساء التصرف مع مرضاه. أجاب صديقي بصحة ما اقول! فكيف يعالج طبيبنا مرضانا وهو عليل؟
مجتمعاتنا تنقسم على نفسها
ان مجتمعاتنا اليوم منقسمة على نفسها على اشد ما يكون الانقسام، وهي تعيش اكذوبات الوحدات الوطنية والاتفاقات السياسية.. ان الانسان ليعجب من مجتمعات اخرى في العالم تجد الالوان فيها متباينة كثيرا والثقافات فيها متنوعة وهي مجتمعات حديثة وليست قديمة كمجتمعاتنا، ولكن تجد الجميع يعيشون علاقات مثلى بين المجتمع والدولة.. وانهم ينتمون الى علم واحد وكيان واحد.. ان مجتمعاتنا القديمة التي عاشت في تواريخ متعددة جملة هائلة من الثقافات والمنتجات والاساليب الحضارية تجدها اليوم تعيش الفوضى بأسوأ حالاتها، وسط بؤس معيشي وسكني وخدماتي.. وفي ثنايا مدن بائسة كانت في يوم من الايام قبلة العالم.. او في قرى اشد بؤسا حتى من العصور الوسطى! ما الذي يجعل مجتمعاتنا بائسة ومحبطة؟ ما الذي يجعل حتى جالياتنا في الغرب متهمة وذليلة؟ ما الذي يجعل من اوطان فيها من الثروات الطبيعية والبشرية في نهاية سلم العالم؟ ما الذي يجعل مجتمعاتنا متدنية في مستوياتها التربوية والتعليمية والانتاجية؟ ما الذي جعل من مجتمعاتنا فانتازيا مضحكة للبؤس والشقاء؟ ما الذي يجعل مجتمعاتنا تعيش حتى اليوم في قهر وفقر وفي جهل مطبق والامراض مسيطرة عليها؟ علمونا عندما كنا اطفالا بأن الفقر والجهل والمرض من صنع الاستعمار.. طيب، وبكل بساطة وعفوية: هل الاستعمار لم يزل موجودا؟ ام ان حكامنا هم السبب؟ واذا ادّعى الحكام عكس ما يذاع عنهم.. فمن هو المسؤول يا ترى؟
المشكلة تكمن في مواجهة التحديات
ان المشكلة اليوم ليست كما كان يطمح ابناء الجيل السابق عندما كانوا يتوقعون ان تقفز مجتمعاتنا لتصبح متقدمة بحرق المراحل الاقطاعية والرأسمالية او بقفزة نوعية ليقال لها كوني فتكون، او بطفرة قومية كأن نبقى نعبد رائدا قوميا او بطل الامة.. ان العقلاء ليسوا كذلك.. ان اقصى ما يريده ويطمح اليه هؤلاء ان يتوقف هذا التراجع المخيف في مجتمعاتنا كي نحافظ على استقرار مجتمعاتنا ونحقق عيشة كريمة لكل الناس، وان نجد وظائف واعمال منتجة وممتعة للملايين من ابنائنا وبناتنا، وان تكون الدولة في خدمة مجتمعاتها لا العكس كما حدث ويحدث في اغلب اوطاننا الكسيحة.. وان تتحقق هوامش من الحريات من اجل علاقة متكافئة بين الدولة والمجتمع.. وان لا تخدع الجماهير بصناديق اقتراع حزبية او سلطوية او دينية او طائفية.. وان يكون اعلامنا محايدا، وان تكون مدارسنا وجامعاتنا قوية في مناهجها وكوادرها.. على المجتمع ان يعرف ماذا يريد.. على المجتمع ان يرتفع عن اساليبه.
المشكلة هل من السهولة التخلي عن الانتماءات لصالح انتماء واحد! وهل هذا الانتماء الواحد سيكون للوطن.. للدولة.. للنظام الحاكم.. للحزب.. للدين.. للطائفة.. للعشيرة والقبيلة.. للمدينة او القرية.. للسلطة او للدكتاتور الخ لمن يكون انتماؤك؟ من ستكون هويتك؟ لا تقل بثنائية الاشياء تهربا من اي تزمت او تعصب او تلازم. كن جريئا وقل لي هويتك.. ساقول لك ماذا تفعل لا لتتخلص مما انت عليه، بل لاجعلك تفّكر في ما انت عليه.. ان العقلاء اليوم هم في الصفوف الخلفية.. ان الانحراف يتصدر الحياة في مجتمعاتنا! ان من يسعى اليوم ليكون في الصفوف الامامية من السياسيين لابد ان يمارس كل السلوكيات المنحرفة ـ مع كل الاسف ـ! ان من يريد جمع المال واكتناز الذهب، عليه ان يتبع كل الطرق غير السليمة كي يغدو طفيليا لا تهمه لا القيم ولا اية اعتبارات! وأجد ان السياسات العولمية التي تبشر بها امريكا تسلك نفس الاساليب والسلوكيات المازوشية من اجل الكسب مهما كانت الوسائل والوسائط..
اوساخ السياسيين وابداعات المثقفين
ما كانت مجتمعاتنا لتصيبها كل هذه الاوبئة لولا عقم سياسات الدولة، وعقم التجديد في القوانين، وعقم وجود الانسان المناسب في المكان المناسب.. وانشغال الجميع بالقضايا السياسية على حساب تطوير الهيئة الاجتماعية.. ان من يسعى اليوم ليكون في الصدارة الطفيلية بامتلاك القوة من خلال المال او السلطة.. عليه ان يمارس كل الاساليب القذرة! ومهما بلغ انحراف المثقفين، وهم يتصدرون المشهد الادبي والاعلامي والثقافي.. فهم لا تأثير لهم، اذ ان مجتمعاتنا لا تقرأ اصلا، وان قرأت، فهي لا تعرف ما الذي قرأته.. كنت قبل عقود من زمن القرن العشرين تستمتع بالقصائد وتنتظر كل جديد الشعراء.. كنت تتعلم على ايدي مربين ومعلمين اكفاء تحترم كلمتهم، وتنتبه الى افكارهم.. كنت في مجتمع متراص بين نخبه وفئاته وجماهيره يعبر عن نفسه في شارع سياسي او منتدى ادبي او اروقة جامعية او صالات فنية.. الخ كنت تجد الناس تسعى الى مهنها وحرفها كي تبدع في منتجها دون التعويل على بضاعة مستوردة من هنا او هناك.. كنت تنتظر ساعة صدور الصحيفة الفلانية لتقرأ ما يكتبه هذا وما يبدعه ذاك.. كنت تستشيط غضبا ان لم يعجبك قول سياسي او تصريح حزب لتعّبر بأي وسيلة عن رأيك وفي مساحة حتى وان كانت على الهوامش والارصفة.. كنا نصطف صباحا في باحات مدارسنا لنذبح حناجرنا باناشيدنا الوطنية لا في تمجيد حزب او طائفة او رئيس.. كنا في فرقة الكشافة المدرسية نرفع علم البلاد صباح كل خميس ونحن نحييه باصابعنا الثلاث، فهو اهم رمز لنا.. كان مدير المدرسة يتفقد ويفتش اظافيرنا وشعر رؤوسنا ونظافة هندامنا.. كانت معونة الشتاء تسدي للفقراء من التلاميذ والطلبة البسة صوفية.. كان الدوام مقدسا للجميع، ولم يكن هناك من الاطفال من يبيع السكائر على قارعة طريق في حين كان شباب الماضي يقضي اوقاته في المكتبات العامة او مشاهدة فيلم او صحبة صديق او عمل شيئ.. لقد تبدلت الحياة تبدلا كاملا وانقلبت المجتمعات رأسا على عقب..
ماذا نفعل؟ هل من مشروع حضاري؟
وأخيرا، فان مجتمعاتنا تغالي في استهلاكياتها وتفتقر في منتجاتها كلما امتد بها الزمن نحو الامام.. انها بحاجة الى ان تنتج لتعيش، ولكنها غدت تعيش لتأكل وتستهلك فقط.. ان البشاعة لا يمكن تخيلها ان بقيت مجتمعاتنا على حالها اليوم.. وعلينا ان نفكر بما ستؤول اليها بعد خمسين سنة. انها تقود نفسها الى التهلكة ليست لأنها لم تلاحق العصر، بل لأنها لم تخلق المحفزات لها لكي تعتمد على نفسها في اساسيات الحياة.. ان من ابرز مهام استعادة مجتمعاتنا لانشطتها وفعالياتها، محاولة بناء جيل جديد ليس كما كان في زمن مضى، بل خلق الثقة بينه وبين مجتمعه.. وان توفر الدولة كل مستلزمات التجديد الاجتماعي وتطوير الاليات والمحفزات، وان يجد الانسان نفسه معززا ومكرما وله عيشه الكريم.. اننا باختصار بحاجة الى ثورة اجتماعية كبرى تقوم على ركائز واصلاحات وتجديدات.. رفقة ثورة تربوية وتعليمية وثورة في تبديل واصلاح القوانين التي لم تعد تصلح للحياة اليوم. ان هذا quot; المشروع quot; ان لم تستطع اي دولة من دولنا القيام به، فليكن مشروعا ثنائيا او اقليميا او قوميا من اجل صناعة جديدة للتاريخ. فهل نحن فاعلون؟ انني اشك في ذلك!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه