ثالثا : افكار ومعالجات

لماذا لا يعترفون باخطائهم؟؟

معنى الانقسام بين العراقيين (1ـ2)
هل اعترف العراقيون كل العراقيين بما اصاب غيرهم من العراقيين عبر خمسين سنة مضت من الاهوال والتشريد والتهجير والاعدامات؟ ان الاعتراف بالاخطاء التاريخية امر لا مفّر منه امام كل العراقيين.. هل خرج علينا عراقي واحد في اي يوم من الايام واعترف باخطائه، بل وجناياته بحق العراق والعراقيين.. ( ولا اقصد بذلك اولئك الذين اظهرهم النظام السابق على شاشات تلفزيون بغداد ليعترفوا بجرائم ومؤامرات واتصالات مع الاجنبي ولم يكن لها اساس من الصحة ) ام يركب الجميع رؤوسهم ويمعنون في الخطأ والجريمة؟؟ لقد تكلمت تلفونيا قبل اشهر مع احد القادة العراقيين القوميين وقبل ايام من وفاته ـ رحمه الله ـ في لندن، وانا بصدد البحث في مرحلة تاريخية معينة. سألته : هل تعتبر محاولاتك الانقلابية في عقد الستينيات الماضي اخطاء لابد من الاعتراف بها؟ اجابني بسرعة وبلا تفكير قائلا : انها ليست اخطاء ابدا، ولو قدر لي ورجعت اليوم الى العراق لكنت اخطط واقود الانقلابات نفسها من جديد! ان الاصرار على الخطأ وعدم الاعتراف به يقود الى الكارثة، فالخطأ يولد جملة اخطاء وبانتشار عنقودي لا يمكن القضاء عليه وتصويب المسار التاريخي بسهولة ابدا.. وهذا ما حدث في العراق الذي انتهى لما عليه وضعه اليوم ! لقد كنت آمل من كل العراقيين الذين ارتكبوا اخطاء متنوعة، او انهم ارتكبوها ولم يعد يعتبرونها اخطاء اليوم.. الخروج على العالم باسلوب جديد ونهج جديد وخلق جديد.. ولكن هذا لم يحدث ابدا. ومن يقرأ كتابي الموسوم quot; الازمنة المرعبة quot; الذي نشرته على حلقات في هذا الموقع ومنذ زمن بعيد وهو يتضمّن ادانة واسعة لكل ما فعله النظام السابق بحق العراقيين، سيقول ان الضرورة باتت ماسة للاعتذار من المجتمع العراقي الذي يتفكك اليوم، وان ابقاء مجتمعنا على لحمته وسداه اهم بكثير من الصراع على السلطة والقوة مهما كانت الاثمان! اما من يعتقد بأن الازمنة المرعبة قد انتهت يوم 9 نيسان / ابريل 2003، فهو واهم على اشد ما يكون الوهم، اذ انها لم تزل وستبقى مستمرة بكل سعيرها ولظاها..
كنت آمل ان يعترف كل من زاول أي خطأ بحق العراق والعراقيين ان يقدّم اعتذاره لا لأحد معين، بل للتاريخ.. وعندما اقول ( كل العراقيين )، انما اعني فعلا جميعهم، فمن مصائب العراقيين انهم يتهمون بعضهم بعضا وهم يمارسون اخطاء شنيعة من دون ان يتراجعوا عنها ابدا. ومن مصائب العراقيين انهم يخونوا بعضهم بعضا منذ خمسين سنة ولم نسمع عن اي منهم قد ظهر واعترف بخيانته سواء من خلال رجال السلطة العليا بخيانة احدهم للاخر.. او ما جرى من اتصالات لرجال دولة ووزراء مع دول وحكومات اخرى.. او ما جرى في مؤسسة الجيش التي ازدحمت بالمؤامرات والدسائس والخونة او الاحزاب وما ادراك ما حدث فيها من خيانات.. او ما حدث في جبهات سياسية عندما تقع خيانات لا حصر لها.. ان الخيانة ليست مصطلحا غريبا عن العراقيين، فلقد الفوا سماعه على مر العهود السياسية، فكل عهد يتهم من سبقه بالخيانة او من يعارضه بالخيانة من دون اي محددات لتهمة الخيانة العادية والخيانة العظمى.. بل وكثيرا ما اطلقت التهمة على كل من يخرج على النظام السياسي او رئيسه في حين يقصد من المصطلح خيانة الوطن.

شقاقات حتى العظم
على الرغم من العواطف الساخنة وتبادل المشاعر المزيفة.. او اخذ العزة العراقية بالاثم.. وازدواجية المعايير وتبديل المواقف والمداهنات الكاذبة وتجميل الاخر نفاقا، الا ان الشقاقات والاختلافات بين الكثير من السياسيين العراقيين ليست على الاساليب والرؤى ووجهات النظر العامة، بل على مجرد الكراسي والمناصب والمال والقوة.. كما انها اعمق من ذلك بكثير، انها اليوم تطال القيم العراقية ذاتها انها تضرب النفوس والمشاعر.. انها لا تقبل العقلاء ولا الاذكياء ولا النزهاء ولا العلماء.. بل تهمشهم وتبعدهم كونهم اقوى منهجا وحجة وخطابا وتفكيرا! انها quot; استفزازية تخرق عظامنا quot; ـ كما وصفها احد العراقيين العقلاء ـ وانها تصيب اعز ما يمتلكه اغلب العراقيين من رواسخ وثوابت ومعتقدات.. انها اليوم تنهك المجتمع بعد ان وجدت الدولة نفسها لا تستطيع السيطرة على شارع معين واحد.. انها اليوم تمس صلب الجوهر الوطني الذي يجمع الهيئة الاجتماعية العراقية كلها على اهداف موحدة.. انها اليوم تتصل بحالة انقسام فاضح على اسس لا يمكن تصريفها واقعيا.. وستزداد الحالة شراسة وبشاعة كلما يقترب موعد الانتخابات العامة عام 2009، بحيث ستشكل دكتاتورية من نوع ما تقضي على كل العراقيين الاقوياء بتهمة العلمنة والحداثة والاستقلالية..
انها اليوم لا تنطلق من ارادة كل العراقيين، بل تنطلق من اهواء ونزعات في الضد للعراق نفسه.. انها اليوم لا يجمعها رباط واحد، بل تجدها بصورة متحللة ومفككة ومنهارة.. وتعّبر عنها مسمّيات والقاب وصفات وتنابز بالاسماء وباسلوب المفاسقات والتهميش والاقصاءات والنفخات الكاذبة والاستعراضات الداعرة والازدواجيات القاتلة.. والمواقف المتخندقة.. انني اعتبرها مشكلة اجيال القرن العشرين، اذ انني اعتقد انه لو سمح لاجيال اليوم التعبير عن حرياتهم الحقيقية وطبائعهم القيمية، فستكون على غير ما الفناه في الماضي. ان شواهد عديدة تؤكد لي ذلك، فالنزعة العراقية ( = نزعة حب العراق ) اكاد اجدها مغروسة في الاعماق لدى اغلب العراقيين من جماهير البلاد وعباد العراق.. ان مجرد دفع الاجيال الجديدة الى منطلقات حضارية متمدنة بعيدا عن التخندقات المألوفة طائفيا وسياسيا وعرقيا وجهويا ومذهبيا ودينيا.. فستجد مجتمع العراق وقد تحّول نحو الافضل. المشكلة؟ من سيقود التغيير؟ بأية وسائل يمكن ان يحدث التغيير؟

التدخلات الخارجية وجوهر السيرورة
انها اليوم لا تنبع من صلب العراق واهله مهما بلغت بهم التجاذبات والتناحرات.. بل تنتقل الى العراق من الخارج وبواسطة ادوات عمل لا تمت للعراق بأي صلة! ان مجتمع العراق اليوم موزع الولاءات والميول والاتجاهات بشكل لا يمكن تخيله، ولن تنضج حتى يومنا هذا اي فكرة مدنية او عقيدة وطنية يؤمن بها الجميع.. انها ليست مجرد تفسيرات وتأويلات لمسائل ثانوية.. بل انها ممثلة لصلب توجهات وخطط ترسم مصير البلاد وتجد من يصفق لها ويروجها.. انها ليست خلافات على المظاهر العامة والالقاب، بل انها تمس جوهر السيرورة التاريخية لكل العراق.. انها ليست خلافات سياسية عادية يمكن تبديلها، بل انها تمزقات تمس الكينونة الثقافية وتلغي الهوية لصالح انتماءات اخرى لا يمكن ان تتعايش مع بعضها البعض ابدا في بلاد قديمة اسمها العراق.
انها ليست مسائل موضع خلاف واستعادة موقف معين من التاريخ واحقابه وسلاسل مراحله، بل انها تصل بكل جلافة وغباء الى حد الالغاء التام بلا وعي وبلا معرفة وبلا اي ادراك متبادل.. انها ليست مفارقات معينة كالتي يمكن ان يتجاذب المجتمع بها سواء على مستوى المؤسسات ام على مستوى الشارع، ولكنها صراعات دموية ومشروعات قتل واساليب ارهاب منظم تخّلف من ورائها جملة احقاد لا تمحوها السنين! انها ليست مجرد احداث اعتباطية كما يتصورها البعض، بل انها وقائع يتم التخطيط لها ويجري تنفيذها بمنتهى الدقة لكسب مصالح او لحصد نتائج معينة! انها ليست اهواء جماعة معينة او نزعات حزب معين.. او تدخل بدل معين في شؤون العراق، بل تدخل الجميع وعبثم فيه.. انها بانورامات يتم تنفيذها للوصول الى اهداف مقررة منذ زمن بعيد!

ما الحل؟ ما العلاج؟
المبادئ لا تقبل المساومة

ان اي حلول سريعة لا يمكنها ان تعالج ما حل بالعراق من محن واوصاب، واقولها بصراحة ان ما يسعى اليه البعض منذ سقوط النظام السابق بتحقيق ما يريدونه سوف لن يتحقق ابدا حتى على مستوى الوحدات الجزئية وحتى في ظل حماية اجنبية.. ان من يصعد الى سدة الحكم في العراق عليه ان ينسى انتماؤه باستثناء الانتماء الى العراق وان لا يتحدث الا باسم العراق.. وعليه ان يكون قدوة ومثلا يحتذى به بحيث يكيل عواطفه لا الى بني قومه او حزبه او طائفته او مذهبة او دينه.. عليه ان يتعاطف مع كل العراقيين.. وعليه ان لا يخلط الاوراق قصدا للتعمية على اهدافه المجتزئة، بل ان يفرد كل ورقة بعد اخرى ليكون عادلا في حكم البلاد! وعليه ان ينطلق من مبادئ اساسية يجد ان من مصلحة كل البلاد اليها، بدل التلاعب بين اطلاق الاقوال وانعدام الافعال! وعليه ان يعلن عن فشله المبكر، كي يأتي غيره بتجربة من نوع آخر في الحكم.. فحكم العراق ليس هينا، انه بحتاج الى رجال يتمتعون بصفات استثنائية لا تبرزها البسة المارشالية حسب، بل تميزها سمات الحكمة وقوة الكلمة وفن صناعة القرار ومعرفة العراق واهله جميعا.

ضرورة قوانين جديدة
إنّ استمرار التداعي في الانقسامات الاجتماعية في عموم المنطقة سوف لن تحلها لا الصحافة او مقالاتها ولا دوائر البحث أو مؤتمراتها.. ان الضرورة باتت ملحة واساسية الى تبني سياسات تحّرم مواصلة الفرز الطائفي أو التمييز العرقي بين المجموعات السكانية.. ينبغي الاعتراف بأي مسعى شوفيني يجد نفسه فوق الاخر.. ينبغي اصدار قوانين صارمة تمنع منعا باتا اي مظهر من مظاهر الانقسام.. لابد من ان تلحق كل المؤسسات والنخب الواعية بمخاطر الانقسامات الاجتماعية باستخدام كل وسائل الاعلام المتاحة وخصوصا المرئية منها والتي غدت ادوات تبث منها كل التحريضات العلنية على الانقسام.. وكل البرامج التلفزيونية التي تزرع الكراهية والاحقاد.. على مجتمعاتنا جميعها ان تعترف انها تقترف يوميا جملة خطايا بحق بنيتها السكانية وتزيد من تناقضاتها، وتردد كل مهتراءتها التي تحض على العداء والقتل والارهاب! على مجتمعاتنا قاطبة ان تتبنى وعيا معرفيا ونقديا بعيدا عن الجهالة والبغضاء وتكون صاحبة مسؤولية عامة تشمل المجتمع ككل وتخشى المخاطر التي ستتعرض لها الأجيال المقبلة أيضاً.
الابتعاد عن شبح الانقسام وكانتونات التقسيم
ان معالجة الانقسامات التي حدثت في اوروبا مثلا ابان العصر الحديث ربما تختلف عن معالجة انقساماتنا، ولكن ينبغي الاستفادة من المنهج والافكار والاساليب.. ومعرفة التمييز في طبيعة الانقسامات، خصوصا اذا ما علمنا ان معالجة الانقسامات الطائفية والمذهبية هي الاصعب مقارنة بالانقسامات الدينية والقومية والسكانية والعرقية والطبقية والعشائرية والقبلية والجهوية.. الخ
إنّ الاعتراف بحقوق الانسان واعتماد ذلك باسرع وقت ممكن سيمنع المغامرة التي يقودها البعض من أجل تحويل الطوائف والمذاهب والأقليات العرقية إلى كانتونات سياسية منعزلة، اي بمعنى انها ستضع نهاياتها بايديها اذ يتؤجج الصراعات من حولها، وتفني نفسها بنفسها.. اننا احوج ما نكون اليوم الى اصدار قوانين وتشريعات تحمي كل الاقليات والطوائف والاعراق من الفناء.. ان العرب ـ مثلا ـ خصوصا لم يعرفوا طوال تاريخهم الاجتماعي الا الانقسام، وانهم لم يعرفوا طوال تاريخهم السياسي الا التقسيم.. وهذا ما حدث ايضا للاكراد والارمن والاذريين وغيرهم وما زالت تعيش دولهم او كياناتهم الوطنية على اسس التقسيم.. في حين بقي الفرس والهنود والاتراك ـ مثلا ـ يحافظون على بلادهم الشائعة من التقسيم. وهنا عليّ القول بأن امما اخرى مثل ايران وتركيا، تمتلك عناصر القوة التي لم يمتلكها العرب او الاكراد او الارمن وغيرهم. وستبقى احوال بلدانهم متخلخلة بفعل الانقسامات التي يعيشونها!
تعرية التناقضات من اجل وعي جديد!
ان المسؤولية تقضي كشف التناقضات القاتلة وتعرية كل المشروعات المساهمة في التفكيك والوقوف ضد اذكاء التعصبات.. انني اطالب كل مؤسسات التربية والتعليم في مجتمعاتنا ودولنا ان تبدّل مناهجها الخاضة، وتؤسس لبرامج تربوية مدنية.. على زعماء المنطقة ان يتابعوا زراعة الوعي في الاذهان المريضة.. ينبغي الكشف عن دور القوى الخارجية في تأجيج الصراعات الداخلية، ولابد من معرفة اسباب ذلك ولأية مصالح واهداف في عملية تفكيك مجتمعاتنا وتشتيت ارادتها.. وتبدو مجتمعات منطقتنا اليوم متصدعة من دواخلها، ومشوشة الافكار والانسان عندنا عدو ما يجهل، وهو لا يعلم طبيعة التصدعات تلك كونه لا يعرف التاريخ اولا فهو معدوم الوعي به فضلا عن التصاق الانسان عندنا بالمفاخر والاستعراضات وتفخيم النفس والتغطية على الاخطاء وعدم كشف الحقائق وفشله في الحوار مع الاخر.. كلها ان وجدت وتوفرت فسوف تتخلص مجتمعاتنا من كل ترسباتها القبلية والطائفية والعشائرية والجهوية.. الخ
العراق : لم يفت القطار بعد؟
ان مشكلة ادارة العراق او ازمة الحكم في العراق اليوم تتمثل بتعدد مراكز القوى الاجتماعية والدينية والعشائرية والطائفية لا بتنوع مراكز القوى السياسية فقط.. فلا يمكن ابقاء الميليشيات الاوليغارية تعبث بمصير المجتمع من اجل اوراق سياسية عاثرة! ولا يمكنك ان تقاوم المحتل من دون ارادة وطنية موحدة تأتلف في جبهة وطنية سياسية موحدة للتحرير.. ولا يمكنك ان تصطف مع الارهاب ومشاريع القتل وهو يكسر عظام العراقيين باسم شعارات دينية او غير دينية! ولا يمكن لأي مرجعية دينية او هيئة سياسية ان تبقى ساكتة على حمامات دم وشرذمة مجتمع بالكامل من دون اصدار ما بامكانها فعله من فتاوى ورسائل وتعليمات!

واخيرا..
ان المشكلة تكمن في ان المجتمع لا يعرف تشكيل ارادته الوطنية كونه كبّل او قيّد بالاغلال الدينية مما انتج انقساما طائفيا مفضوحا لأول مرة، ثم غدا انشقاقا يتسع شيئا فشيئا من دون اي حراك لايقافه مما انتج وسينتج اهوالا لا قبل للناس بها! المطلوب من كل العراقيين الاعتراف بما ارتكب من اخطاء على مدى خمسين سنة والبدء بمعالجة معضلة العراق من الجذور، والمسألة ليست هينة وسهلة.. ولكنها تبدأ بالخطوة الاولى القائمة على كل من المشروع المدني بكل مضامينه السياسية والاجتماعية والمشروع الوطني الذي يحمي الجميع من التفكك. فهل ثمة قدرة للعراقيين المضي اليوم في هذا السبيل خلال هذه المرحلة الصعبة؟ وهل بامكانهم ان يستعدوا لمرحلة الانتخابات القادمة منذ الان؟ هل بامكان القوى الدينية والطائفية ان تتنازل وتلعب دورها السياسي والوطني؟؟ انني اشك في ذلك!

www.sayyaraljamil.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه