متى تتخلّص مجتمعاتنا من تقاليدها البالية؟؟
القسم الثاني
أي مشروع حضاري ينتظرنا؟

الخروج من الاهتراءات

متى تتخلّص مجتمعاتنا من تقاليدها البالية(1)؟?
طالما اقول بأن جملة هائلة من التقاليد المهترئة السيئة هي التي اساءت الى كل تاريخنا وعصفت بحاضرنا ، وحطّمت كل مشروعاتنا ( النهضوية ) وافكارنا ( الاصلاحية ) وحتى استعراض عضلاتنا ( الثورية ).. ولم نبدأ حتى يومنا هذا أي مشروع حضاري .. وطالما كان الحكماء والادباء والشعراء والعلماء في مجتمعاتنا من ابرز الذين نادوا بالعمل والانتاج بالحلم والحكمة والعمل الصالح والاخلاق الحميدة والامر بالمعروف والاحسان والرفعة والتحضر والمعاملة الحسنة والاستماع لافضل الاقوال وسعد الالفاظ والمجادلة بالتي هي احسن والعظة من التجارب والخبرة والاعتراف بالخطأ فضيلة والصراحة والامانة والمصداقية في القول وشرف الكلمة والكلمة الطيبة صدقة والدعوة الى المحبة والتعايش بعيدا عن الاحقاد والكراهية ومقابلة الاحسان بالمعروف ونقد الاخطاء والتقويم بقول جميل.. وواجب الشكر للاخرين والوفاء بالعهد والعدالة والحرية والتشاور واتباع الاصول والمسالمة والمناقشة والمصارحة وتعظيم النفس بالتغافل والستر والابتعاد عن التجريح وعدم المشاغبة ولا الاساءة ولا وساخة التعابير او ايذاء الاخرين وقطع ارزاقهم او التسكع او التحرش او الوضاعة او الزعيق او خلف الوعود والايمانات الغليظة او البهاتة او عشق الفوضى او التلّذذ بالاذية او الشتيمة والسباب او التبجح واستعراض العضلات او الاثارة الداعرة والتهميش والتسلط والتشفي والاخذ بالثأر وتضييع الزمن وهوس الخيالات والايمان بالخرافات والخزعبلات.. الخ
تاريخ طويل يمتلكه المجتمع بكل ما يتضمنه من التجارب والانساق والمضامين والاحداث والامثال والنصوص والاثار.. ويبدو ان الزمن كلما يمضي نحو الامام، فان ابناء المجتمع الذي وصف باسمى الصفات من العظمة والتحّضر.. يتهالكون شيئا فشيئا نحو الانسحاق نتيجة ما جمّعه التاريخ لديهم اليوم من بقايا السيئات وجذور المشكلات وتعقيداتها التي لا تعد ولا تحصى.. بل وان التلاؤم لا يحصل مع الروح الجماعية اذ تسيطر النزعة الفردية على السايكلوجية الفردية لكل ابناء المنطقة.. سيطرة عمياء وتنتشر الروح الشريرة بشكل لا يمكن تخيله بحيث تصل الى حد التشّفي بموت المختلف السياسي والفكري والديني والمذهبي.. فكيف اذا وصلت درجة الخصومة بين اثنين.. اذ يصبح القتل مشروعا للتنفيذ، ولم تزل نزعة الثأر مغروسة في تقاليد وعادات منتشرة لاغلب ابناء المنطقة ، وتمثّل صلبا من اعرافهم.. وسيكتشف ذلك بسهولة كل من يقرأ تاريخنا الاجتماعي والسياسي ويقارنه بتواريخ مجتمعات اخرى أي من دون ان يجعل للاخرين مثلا

التمييز بين التناقضات الاجتماعية
لعل مشكلة التمييز بين التناقضات في التفكير والممارسات كانت اول صراع للمتحررين من سطوة سلطات متعددة اجتماعية قبل ان تكون سياسية، اذ لم تكن المشكلة التي اقلقتهم متى تكون الحالة صادقة او متى تكون الحالة الاخرى مقبولة ، وانما كان جّل الاهتمام يتضّمن وضع حلول لمشكلة التمييز بين الوجه الحقيقي والوجه الزائف. وينبغي ان نعدّ معايير جديدة لاساليب وقائية تحدد ما هو ثابت وما هو متحّول فنحمي الحياة التي نعرفها ( = الدنيا الاجتماعية المغيبة بكل قيمها التاريخية الاصيلة ) مما قد يضعفها من الافكار غير الواقعية وما يسود من المفاهيم البليدة ومن ذاك الذي يتداول من الاقوال الخاطئة ومن النصوص غير الصائبة، ونرسم مبادىء حضارية مدنية ثابتة تساعد على استقرار الحياة الاجتماعية والتفكير الانساني والوطني معا.
ان وضع معايير قوية في القابلية للاصلاح في المجتمع لا يمكن أن تؤدى اداء سيئ للدولة ومن دون أي استشارات محدثة ومن دون الاستعانة بخبرات مدنية.. اذ لا يكفي ما هو جاهز من الموروث وما هو كامن من اساليب مهترئة.. عندما تبدأ حالة التلقي بزرع جملة مبادئ وقيم يحاول الانسان التمّرس عليها بعيدا عن أي اطواق او أي سلطات او أي مرجعيات.. ولابد ان يشتغل العقل بعيدا عن العاطفة ، وان تقال الحقائق بعيدا عن الخرافات.. وان تنتاب الجميع اسئلة لا حصر لها بشأن كل الاصول المترسخة في الاعماق والمركبة في الاذهان بحيث يمكن استئصالها يوما بعد آخر وتخليص الجيل القادم منها ومن نوازعها العقيمة.. ان مجتمعات مدنية اليوم استطاعت من خلال عاملين اساسيين تقويم اوضاعها بالتشديد على كل من التربية والقانون.هناك من يقول ويشدد على ما يسميه بـ ( الوعي الثقافي ) كي تستقيم سلوكيات المجتمع، وهنا اخالف ذلك بشدة، فالوعي الثقافي لا يمكنه ان يترسخ عميقا في المجتمع من دون أي تربية مدنية راسخة ، والتربية بكل انواعها هي التي ترّبي سلوكيات الافراد على مدى ثلاثين سنة ومن خلالها يبني الانسان نفسه ويؤسس علاقاته بالاخرين في المجتمع. اما القانون، فهو الذي يربط الانسان بالحياة والمجتمع والدولة معا كعقد اجتماعي يعد ضرورة حياة او موت.. انه يجعل الانسان لا يحيد عن الصواب ، فان حاد فالقانون هو الذي يربيه .
لذلك فان من مستلزمات الاصلاح فرض معايير مدنية ( وخصوصا في التربية والقانون ) وان نطالب اجيالنا الجديدة بان تكون مهمتها يمثّلها السعي لتخطئة التقاليد غير المجدية.. وهكذا تكون افضل التقاليد مهما كانت طبيعتها سياسية ام اجتماعية ام ثقافية هي التي تجتاز اكثر الاختبارات قساوة وسط غابة من التحديات الداخلية. اننا نؤكد فضلا عن ذلك الاعتماد بالدرجة الاساس على طرح الافكار الجريئة او الاليات النقدية الجسورة سواء كانت حدوسا او فروضا و دحض كل الترسباّت والماضويات من خلال مجادلات نقدية يعتمدها العقل او اختبارات تجريبية وسيلتها البراهين والادلة وحقائق الاشياء .
طريقنا نحو المستقبل
اننا نطمح ان يميّز الانسان تمييزا واضحا بين المعاني والتشيؤات وبين الفرضيات والبراهين. هنا لابد من تحديد الشروط التي ينبغي ان يخضع لها العقل السائد:
1- التخلص من ازمة التناقضات من خلال ايجاد تفقهّات واجتهادات جديدة قائمة على التفكير والعقل.. فما يزاول اليوم في مجتمعاتنا من عادات وتقاليد سيئة وضارة لا يمكن السكوت او التغاضي عنها ، وهي التي تخلق كل تناقضاتنا الاجتماعية والسلوكية.
2- الاستقلال عن التقاليد البالية والضارة والبليدة بايجاد بدائل من التقاليد النافعة في الحياة ، وعلى الدول واجهزتها التشريعية التعاون مع علماء الدين لاصدار قوانين تلغي ما متعارف عليه والاعتراف بالبدائل خصوصا وان الناس تؤمن بما يقوله رجل الدين ولا تؤمن البتة بما يقوله رجل الدولة .
3- الكفاية بما قد انتهى المجتمع اليه من الماضي ومحاولة تطوير الواقع بما يتلاءم ومنطق هذا العصر ، بعيدا عن أي انشدادات لبقايا الماضي التي لا تتفق ليس مع العصر حسب ، بل لا تنسجم مع منطق الأشياء .
4- الانطلاق من الحقائق الضرورية من خلال تشكيل اللحظة الحاسمة في التفكير والانتقال من حالة التقاليد الثابتة الى منطق التشيؤات المتحركة.. وهنا ينبغي العمل على تغيير الذهنية السائدة من ثوابت المطلقات الى نسبية الاشياء . اننا بحاجة الى ثورة ديكارتية حقيقية في تنمية التفكير وتغييره مهما كانت الاثمان.
5- علمنة المؤسسات السياسية وتطوير قوانين الاحوال الشخصية وتحديث الاساليب التربوية وتنمية وسائل التفكير للانتقال من الاوهام الى حقائق الاشياء بزرع مبادئ البرهنة على كل ما يقال.. واخراج المجتمع من اطوار الخرافة وتقاليد الماضي ليدرك معاني الحياة بكل مفرحاتها وقيمها الجديدة وتبديل كل ما هو سيئ وضار ومعيق للتقدم بدءا من الاشكال وانتهاء بالمضامين . أي باختصار: تأسيس حقيقي للحياة المدنية وفضائلها والاستفادة من كل الموروثات الخيرة بروح رياضية وشفافية لا بنزعة تعصبية ليس لها الا الكراهية .
6. زرع روح المحبة والتسامح والمودة والتعايش والاستفادة من كل موروثات دينية واخلاقية اصيلة وخلاصا من كل ما شحن بالكراهية والاحقاد في المجتمع، وان يتفانى الجميع في المجتمع من اجل الابتعاد عن كل ما يثير نزعة الانقسام او يكرسها بالانتقال الى طور التبشير بالانسجام والاخوة وان ينتهي العمل بشكل قاطع عن التوصيفات المؤذية وعن كل ما يؤجج الثارات ويشعل العواطف ويثير الانفس.
توصيات واستشارات
ينبغي علّي في نهاية المطاف ان احدد بعض ما يمكن الرجوع له من النظريات الخاصة بتغيير التقاليد او تجديدها في مجتمعات مثل مجتمعاتنا الشرق اوسطية والتي تمر بتحولات خطيرة وبمخاض عسير من التناقضات المتصادمة لا المتجاذبة.. وعليه ، فان افكارا كالتي طرحها كل من هولبورن وروكان وبوويك.. والتأكيد على دراسة التجارب الاوربية في التحولات الاجتماعية للانتفاع منها ، وخصوصا ما يتعّلق بثنائية تناقضات اساسية عاشتها اوروبا الغربية قبل اربعة قرون.. ومجتمعاتنا تمر بها اليوم.. سنقف ازاء: الطهرية والنفعية والتجديدية والمحافظة وغيرهما. سنقف عند هوبز في البحث عن القانون الطبيعي وتحرير الانسان وتأسيس المجتمع المدني . وهناك ديكارت ومن قبله ريشيلو في فتح الابواب لاقامة توازن بين صراع التناقضات.. او التأكيد على دور السلطة في صياغة اساليب المجتمع كالتي قال بها فوبان وبولزغيلبر.. وصولا الى تأسيس القطيعة بين الغائي والواقعي على مراحل متعاقبة حسب معالجات دوركهايم ومانهايم. ولكن ، ثمة فرق كبير بين مجتمعاتنا ومجتمعات اوروبا الغربية ذلك ان التفكير المدني والفكر الانساني قابل للتطبيق في بيئات اوروبا ، ولكن من الصعب جدا تطبيقها في مجتمعاتنا.. وهنا مربط الفرس وعقدة القصة كلها، وبالامكان معرفة التفاصيل في كتابي ( العرب والاتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ، ط1 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997 ) . انه من السهولة ان تطبق quot; القطيعة quot; وفلسفتها في مجتمع يقبلها.. ولكن من الصعوبة تطبيقها في عالمنا بعد مرور اربعة قرون على تفاعلات المجتمعات الاوروبية . فهل وعينا الدرس الاجتماعي؟ ومن اجل مستقبل وضاء.. هل ثمة مشروع حضاري ينتظرنا؟
www.sayyaraljamil.com