الجولة الثانية: البنية التاريخية من خلال تحقيب جديد
ها انا ذا اعود الى القراء الاعزاء لاكمل نشر محاضرتي عن التاريخ الحديث للشرق الاوسط وساختزل موضوع هذه الجولة الثانية، وأحاول تبسيطه، خصوصا وان فيها جملة هائلة من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة.. وقد آليت ان انشر هذه quot; المحاضرة quot; بعد ترجمتها بجولاتها الثلاث من اجل ان تقدم اضافة جديدة الى ثقافتنا الفلسفية التاريخية سواء لذوي الاختصاص ام للمثقفين العرب في كل مكان.
البنية التاريخية
اشكر مناقشاتكم سيداتي سادتي حول ما قدمته في الجولة الاولى صباحا، واشكر اهتمامكم بما نشرته عن نظرية الاجيال في فلسفة التكوين التاريخي وحواركم حول التقسيمات الجديدة في تحقيب التاريخ، وسأركز في الجولة الثانية ظهيرة هذا اليوم على البنية التاريخية التي أؤمن بوجودها بوحدتيها الكبرى والصغرى والتي اعتمدت فيها على سلاسل الاجيال التي قمت باحتساب اعمارها على اساس الولادات والآجال والتي تدارستها في نظرية المجايلة (= نظرية الاجيال). لقد استفدت جدا من ميراث الفلسفة البنيوية التي راجت في القرن العشرين.. واليوم نعيش فلسفات ما بعد البنيوية سواء من خلال التفكيكية وما يراصفها من نظريات.
ان البنية التكوينية التي اقصدها هي غير البنيوية التكوينية التي يطرحها غولدمان في مفهوم quot; رؤية العالم quot; والتي يطلق عليها بـ quot; التوليدية quot; وهي المتفرعة عن الفلسفة البنيوية التي كان قد طرحها وعالجها فرناند دي سوسير وطلبته في جنيف قبل مائة سنة وجاءت من بعده جماعة الشلكليين الروس في موسكو.. ولم يستفد من الاصول الاولى في كتابة التاريخ الا ميشال فوكو في توغله في بنى العصور الوسطى عن عالم الجنون، وبروديل في تفكيكه بنى العصر الحديث عن العالم المتوسط.. ومؤخرا نجح كل من المؤرخ الامريكي بنتلي عام 1996 بدراسته عن التحقيب على اساس ثقافي والمؤرخ كرينين عام 2007 في تحليله سمات العصور على اساس رياضي، وقد نشر عمله قبل اشهر.. ومن خلال مدرسة موسكو، ناهيكم عن افكار ودراسات ورؤى كل من بيتر كاوس وديريك اتريخت وجفري بينغتون وروبرت يونك في عملهم الموسوم quot; ما بعد البنيوية وسؤال التاريخ quot;، واديث كورزويل وغيرهم.
لكل حقبة او فترة او عصر او عهد او جيل او عقد زمني او مرحلة.. بنية تاريخية خاصة بها، ولدينا تحقيبات متنوعة للتاريخ سواء تلك التي عرفناها في السلالات في تاريخ العرب والاسلام ام تلك التي عرفناها في العهود بتاريخ الشرق او تلك التي عرفناها من خلال المراحل والعصور: القديمة والوسيطة والحديثة على ايدي المؤرخين الاوربيين ومؤخرا ولد تحقيب التاريخ ثقافيا عند الامريكيين.
البنية التاريخية من خلال تحقيب جديد للتاريخ
يقوم أساسا على تقسيم الزمن إلى صنفين من التقسيمات: ماكرو (= الوحدة الكبرى) ومايكرو (= الوحدة الصغرى)، فالماكرو اطلقته على العصر التاريخي كله الذي تدوم حياته ثلاثمائة سنة بالضبط، والذي يحتوي على عشرة مايكروات، عمر كل واحد منها: 30 سنة، وقدرت عمر المايكرو بعمر الجيل الواحد! وتصنف الأجيال على هذا الأساس، فعمر كل جيل 30 سنة كاملة. ومن هنا، فان حصيلة امتداد الأجيال في سياقها التاريخي يمثلها نظام مجايلة تاريخية، كمصطلح بدأ استخدامه في العربية والفعل (جايل).. ثم تدارستها مجتزأة في الفكر الغربي وخصوصا في نقد ومعالجة رؤية عالم الاجتماع الألماني الشهير كارل مانهايم.. وغيره من العلماء الذين لم ينجحوا في وضع أي نظرية حول الموضوع!
أن حياة الإنسان (أي إنسان فاعل في المجتمع) تقسم إلى قسمين اثنين، اذ اعتمدت الآجال واحتساب الأعمار اساسا لذلك، فحددت على أساس معطى الحياة عند الإنسان في معدلها العام في تواريخنا الاجتماعية بـ (60 ndash; 65 سنة)، فالقسم الأول من حياة الإنسان يعيش في إطار ورعاية الجيل الذي سبقه (= 30 سنة للتكوين). والقسم الثاني من حياة الإنسان يعيش في إطار المنتج ورعايته للجيل الذي سيأتي من بعده (= 30 سنة للإنتاج)، فالانسان في العموم الاغلب انما يعيش او يعايش جيلين مختلفين، جيل يتربى في خضمه وجيل يتسمى باسمه ويعد مالكا له. وعليه، فان كل جيل يعد بنية مايكرو تاريخية، وقد يبدع الإنسان في سنواته الأخيرة من حياة تكوينه ليحتسب ذلك على محصلة إنتاجه.. وقد يبقى الإنسان منتجا في سنواته المضافة من حياة إنتاجه، ليحتسب ذلك على محصلة إنتاجه أيضا!!
لقد أسعفت هذا العمل من اجل توضيح البنية التاريخية في مهمة معقدة، ومنهج رياضي دقيق في فحص تواريخ الولادات والوفيات (= الآجال) لرموز الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية في التاريخ وضمن علاقة جيوثقافية وبونية في المجتمع مستفيدا من النظرية النسبية في قياس البعد الخامس (= المجال). لقد تراءت لي النتائج التي استنبطتها بعد أستخدام الكومبيوتر في كتابة التاريخ لاول مرة مستخلصا بأن حياة تكويننا البنيوي مقسمة إلى سبعة عصور كبرى (وحصيلتها 2099 سنة) تبدأ في سنة 1 ق.م. وتستمر الى سنة 2099 التي ستقفل القرن الواحد والعشرين مرورا بسنة 599 م (بعد مرور 30 سنة على ولادة الرسول ص) وستنتهي في سنة 2099م.. منطلقا من ولادة السيد المسيح (ع) وانتهاء لمستقبل يقدر بقرابة 100 سنة ومرورا بالإسلام (الذي يذكر بأن عصرين تاريخيين قد سبقاه من الجذور عمرهما يقدّر بـ (600 سنة) أي منطلقة من ولادة المسيحية)! ولقد استخدمت التقويم الغريغوري في حسابات التحقيب كله نظرا للدقة المتناهية فيه، وأتّممت تقسيمي للبنية التاريخية التي تتشكل منها العصور في فلسفة التكوين التاريخي على نحو تحقيبي حسابي كالتالي:
العصور السبعة: (المسيحية الاولى ـــ الانقسامية الدينية ـــ التدوينية الاسلامية ـــ العقلانية الحضارية ـــ الموسوعية الثقافية ـــ السكونية التداولية ـــ النهضوية المعاصرة).
أن كل عصر يقدر عمره بـ (= 300 سنة) (وهو: الماكرو) الذي يحتوي على عشرة أجيال، عمر كل جيل 30 سنة، ولاحظ أن الواقع يلقي بظلاله على اي جيل فتتكون له سمات ومواصفات كل جيل فيختلف عن الجيل الذي سبقه بعد ان يولد من رحمه، وهكذا بالنسبة الى اي جيل يأتي من بعده ويولد في رحم من سبقه! وهذا quot; النظام quot; ـ كما أطلق عليه ـ هو الذي يحدد تلك السمات التي يتميز بها أبناء كل جيل، وتجمعهم مواصفات ثقافية واجتماعية محددة تتميز بها رموز كل جيل. وعليه، فان ذلك quot; النظام quot; تحدد فلسفته ثوابت quot;الأبوة والبنوة quot; بتعريف المؤرخ البريطاني الشهير ارنولد توينبي، أو كما أطلقت عليه بمصطلح quot; الأستذة والتلمذة quot;؛ اذ ان كل جيل هو تلميذ لمن سبقه وأستاذ لمن يلحق به!
بنية العصر الحديث:
ولعل أبرز ما يلفت النظر في هذا quot; المنهج quot; عملية الفصل في حياة التكوين البنيوي التاريخي بين الأربعين من الأجيال التي عاشت بين 599 م و 1799م، كوني وجدتها جامعة من السلاسل العنقودية وأشجار العواصم الثقافية التي تميزت بها حياة العرب والمسلمين على امتداد العصور الأربعة الأولى (= 1200 سنة)، ولكنني فصلت بنية الأجيال اللاحقة في تكويننا الحديث إبان العصر التاريخي الذي نعيش فيه ونعاصره اليوم نحن أبناء الأجيال الحديثة.. وهو العصر الذي يعّمر 300 سنة أيضا ضمن مسمّيات متعددة كالنهضة والتحديث ولكنه عصر مزدحم بالتناقضات والمشكلات، اذ وجدت بأن سقفه الزمني بين 1799م وبين 2099م ؛ وان ثقافتنا وتكويننا في العصر الحديث قد اختلفا في مدياتهما وعناصرهما عما حفلت به تكوينات تاريخنا الطويل المؤلف من أربعين جيلا حتى 1799م، ومنذ هذه النقطة التاريخية التي تعد مفصلا في فلسفة سلاسل الاجيال (= المجايلة)، كانت هناك سبعة أجيال على امتداد مائتي سنة للمرحلة 1799ـ 1999م (= 200 سنة)! وان الجيل الحالي الذي نعايشه اليوم هو الجيل المرقم بـ 47 من حياة بنية المجايلة التاريخية الكاملة والحافلة، ولكنه الجيل السابع في إطار العصر الحديث والذي سينتهي عام 2009، وستتلونا في القرن الواحد والعشرين ثلاثة أجيال، يختتمها الجيل المرقم 50 الذي سيقفل عصرنا في سنة 2099م اذا احتسبنا البداية 599 م، ولكن سيقدر الجيل بالرقم 70 اذا احتسبنا البداية 1 ق.م...
هكذا تتضح البنية التكوينية من خلال التحقيب لنقف في نهاية المطاف ونكتب جملة من الرؤى والتوقعات عما سيحدث في القرن القادم! ان المجال لا يساعدني الان لتحليل الانتقالات بين سلاسل الاجيال (جمع جيل = 30 سنة من المايكرو) وكما قلت يعد حاصل جمع 10 اجيال يؤلف العصر التاريخي (المقدر بـ 300 سنة من الماكرو).
ان العصر الحديث الذي يبدأ مع بدايات القرن السادس عشر، لا يتوافق في حساباته مع هذا التقسيم البنيوي، وعليه فان العصر الحديث الذي نعيشه اليوم كان قد بدأ عام 1799 وهو يتركب من ثلاثة قرون هي كل من التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين.. اي بين 1799 حتى 2099 (= 300 سنة) وهو ينقسم الى عشرة اجيال (الجيل = 30 سنة). وعليه، فان العصر الحديث يتألف من: جيل التأسيس 1799 ndash; 1829، جيل التنظيمات 1829- 1859، جيل المشروطية 1859- 1889، جيل الاستنارة 1889- 1919، جيل الاوطان لما بين الحربين العالميتين 1919- 1949، جيل القومية العربية 1949- 1979، جيل الاسلام السياسي 1979- 2009، جيل؟ 2009 -2039، جيل؟؟ 2039- 2069، الجيل الاخير؟؟؟ 2069- 2099 (قفلة العصر الحديث) وبداية عصر آخر جديد.
صحيح أنني اعتمدت الجدولية والحسابات الإحصائية والقياسات الزمنية الثابتة ضمن اكثر من برنامج على الكومبيوتر باحتساب الاعمار من خلال الولادت والاجال، ولكنني نجحت في أن أحدد المتغيرات في إطار ما أسميته بـ quot; الخضرمة quot; في بنية المجايلة التاريخية، مستفيدا من المنهجية البنيوية والقياسات الكمية والإحصائية في بناء محاولة لفلسفة جديدة، وعند أبناء الجيل السابع الذي تربى على مناهج وتقاليد ربما تخالف الى حد كبير أي رؤية جديدة في منهج التاريخ وتحقيباته وتطلعاته إلى المستقبل بشكل عام، والى الحياة العلمية والفلسفية بشكل خاص.. وربما لن يدرك البعض ما اريد الوصول اليه، فليترك quot; الموضوع quot; الى الاخرين الذين سيكون مدعاة لهم من اجل فهم البنية التاريخية في عصر عربي متخلف!
استنتاجات:
1/ لكل مجتمع بنيته التاريخية، وداخل كل بنية تاريخية تزدحم عدة بنيويات بكل عناصرها.. وهي لا تكتشف الا بعد التعرف الكامل على البنية الكبرى.
2/ ينبغي القيام بتجسير العلاقة البونية بين الماضي والحاضر مكانيا، وقياس حجم الاحداث ومقارنة المزيد من النماذج والامثلة للخروج بالتوقعات في رؤية واضحة للمستقبل.
3/ الاستفادة من اهم الفلسفات المعاصرة لتحديد الرؤية والتفكير معا بالنسبة للتكوينات التاريخية القادمة والتي ينبغي ان تنطلق من ميراث الماضي، ويأتي مثل هذا quot; العمل quot; أضافه حقيقية للمعرفة المعاصرة.
4/ ابعاد اية مضامين في البنية التاريخية عن المزالق السياسية والمناخات الأيديولوجية التي ذكر بأن لها عدة أنساق أخرى في التعامل.. وبذلك،ينبغي الفصل بين المعرفي والايديولوجي في القياسات والتحليلات والاستنتاج.
5/ لابد من اثارة جملة من القضايا والجزئيات والإشكاليات التاريخية والفلسفية والمعرفية التي هي بأمس الحاجة إلى أدوار أخرى لباحثين وعلماء عرب آخرين من أجل البحث والتعمق والدراسة للبنيويات التاريخية في المستقبل الذي ينتظر ثقافتنا ومعرفتنا العربية والإسلامية في القرن القادم.
6/ ان التكوين التاريخي يعتمد التحري عن الجذور، والتعمق في البنى والتراكيب والشخوص، والمقارنة بين المستكشفات، والدقة في الأرقام، وتقديم جملة كبيرة من الأشكال والرسوم المدعمة لارائه وفرضياته.. كما أن أكثر من رسم وشكل ومخطط بحاجة إلى المزيد من الشروح والتوضيحات والتأمل والتحليل والخروج بنتائج مفيدة جدا.
مرة اخرى، اشكركم على حسن استماعكم ومستعد لسماع ملاحظاتكم وافكاركم.
استشارات: من اجل فهم موّسع لمثل هذا quot; التفكير quot; الجديد في فلسفة التاريخ، يستوجب الاطلاع على المراجع التالية في قراءة طبيعة البنية التاريخية:
Lawrence Besserman، ed.، The Challenge of Periodization: Old Paradigms and New Perspectives، 1996. See Chapter 1 for an overview of the postmodernist position on Periodization.
Bentley، J. H. 1996. Cross-Cultural Interaction and Periodization in World History. American Historical Review (June): 749ndash;770.
Grinin، L. 2007. Periodization of History: A theoretic-mathematical analysis. In: History amp; Mathematics. Moscow: KomKniga/URSS.
Peter Caws، Structuralism: The Art of the Intelligible، International Inc.، Humanities Press، 1990.
Derek Attridge، Geoffrey Bennington، Robert Young، Post-Structuralism and the Question of History، Cambridge، Cambridge University Press، 1987.
Edith Kurzweil، The Age of Structuralism From Levi-Strauss to Foucault، Paris: Transaction Publishers، 1996.
Sayyar K. Al-Jamil، ldquo;Theory of Generations: Structuralism of Middle Eastern History rdquo;، given in New Bodleian، Oxford University، 18th September، 2005.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات