معنى القطيعة
ليس معنى quot;القطيعةquot; مع التاريخ، نفي له، ورميه في سلة المهملات، بل الانقطاع عنه وامتلاكه بعد فهمه واستيعابه.. اننا لسنا بمسؤولين عن صناعة الماضي ـ حسب خطاب ميشال فوكو ـ.. ان فلسفة القطيعة ليست من جيبي، بل يعد الفيلسوف باشلار مؤسسها، ولكنه سماها فلسفيا بـquot;القطيعة المعرفيةquot;، وقصد بها ايبستمولوجيا: quot;فهم المعرفة بعيدا عن الايديولوجياquot;. والقطيعة التاريخية اعني بها: فهم التاريخ والوعي به بعيدا عن الحاضر والمستقبل. اننا غير ملزمين بأن نكون مجموعة سلالات ماضوية تتابعية لا نعرف غير ترديد ما قيل وتتناسل ما حدث بكل غلو وتعصّب واحقاد، فلكل زمن من الازمنة التاريخية ظروفه وعناصره واشكاله ومضامينه والوانه.. فليس من العقل ابدا ان نبقى سجناء الماضي سواء كان كلاسيكيا لآلاف السنين، او وسيطا لألف سنة، او كان معاصرا لنا انتهى قبل ثلاثين عاما فقط! هذه مسألة حيوية تجاوزها التفكير الفلسفي المعاصر في معظم المدارس المعرفية وخصوصا الفرنسية منها.. ولكن التفكير حتى لدى النخب المثقفة والعليا في مجتمعاتنا لم يزل يراوح في مكانه باسم الانتماء مرة وباسم القيم الموروثة مرة وباسم التراث مرات اذ يعد الخروج عن شرانق الماضي خطا احمرا قانيا كما يرسمه الخطاب الشعبوي الذي يمجده الجميع..التعصّبات المتورمة
ان المسؤولية التاريخية قد رفعت عن كاهل الحاضر لتصبح من تبعات الماضي.. وهذا هو منطق من يفكر تماما في اطار قطيعة تاريخية حقيقية ويؤمن بالفكر الحر.. وعادة ما يكون الاحرار من اللامنتمين الحقيقيين، ونحن ندرك من هو اللامنتمي الذي يبحث عن الحقائق باستقلالية شبه كاملة ـ حسب قول كولن ولسن ـ. عندما اقرأ بامعان عن قطيعة شعوب متنوعة تفكّر مليا في تاريخها، وتعتز جدا بذاكرتها.. وكيف تتعامل مع حاضرها، وكيف تريد ان يكون مستقبلها.. اجد نفسي ازاء مجتمعاتنا وهي لا تتزحزح قيد انملة عن بنية صلدة من التفكير وهي ترتع في حالات فوضوية، وتردد شعارات ساخنة، وتتعامل مع افكار متيبسة، وتتشبع بعواطف ساخنة، وترتطم حياتها بتعصبات لا اول لها ولا آخر.. ان اسوأ ما نجده هو هذا التواصل للتعصبات وهذا التقليد ازاء الانشقاقات والجهل المطبق للحقائق والمعلومات.. ان الماضي لم يصبح تاريخا حتى يومنا هذا، فاحداث وشخوص وحالات ومصارع ومآثر وهلوسات وخرافات وكرامات وحكايات وبطولات.. الخ لم تزل تعيش حتى يومنا هذا في مشاعرنا واعصابنا على مر اللحظات..الذاكرة التاريخية
ان تاريخنا المضيئ الذي يزدهر باعظم الاعمال والادوار الحضارية في الماضي.. لم يزل يحمل شقاقات سياسية حية ولم يزل يتعّثر بركام تقاليد اجتماعية حية ترزق وكأنها ولدت هذه الايام.. والتاريخ لم يشكّل في ذاكرتنا الجماعية اي بنية بعيدة عّنا، بل ان كل انقسامات تاريخنا لم تزل تعيش في ذاكرتنا، وبشكل مختلف جدا عن حقيقة التاريخ نفسه.. لقد انتج التاريخ جملة هائلة من التقاليد والاعراف والمواريث والنصوص والافكار والمرويات والاشعار والكتابات والقصص والاساطير.. منها ما هو ايجابي وحضاري يخدم الانسان والمجتمع، ومنها ما هو سلبي ومتردي يؤذي كل الحياة.. ان المواريث التاريخية في مجتمعاتنا ربما لم تبق على نفس شاكلتها القديمة، بل انها اخذت لها مجموعة اساليب هجينة.. مثلا ثمة تمرس ذكي في شعر الهجاء في الثقافة العربية، ولكن لم نجد اليوم شعر هجاء، بل نجد شتائم مقذعة ومقالات فارغة وخواطر مضحكة.. لم نجد سجالات سياسية وفكرية واجتماعية او حتى خطابات ردح رئاسية او اذاعية كالتي كانت في الامس، بل تفاقم الامر الى قذف سياسي جماعي ومن خلال اسلوب ردح تلفزيوني فاضح على الملأ!14 تموز/ يوليو: ذكرى ثورتين فرنسية وعراقية
لقد دعوت قبل اسبوعين الى اعادة الاعتبار الى فيصل الثاني لمبررات لا حصر لها، ولابد من قطيعة تاريخية لمن يستثنيه التاريخ، وان شخصيته لم تعد ذكراها تشكّل نقطة سوداء في حياة العراقيين في القرن الواحد والعشرين، خصوصا وان نصف قرن مضى على مصرعه فجر 14 تموز/ يوليو 1958.. ولم تتحقق اية اهداف كان ينادي بها الجميع. وهنا تأتي القطيعة التاريخية التي لها القدرة على التمييز بين الاحداث، بمعنى: ان تنقطع عنه سواء كنت معه او ضده، نعم، ولكن ان تدركه وتتوافق معه وتفصله عن مشاعرك ومن ثم توظفه من اجل المستقبل. المشكلة، اننا نعد انفسنا طرفا فيه، ونحن بعيدون عنه كل البعد.. والتاريخ مجال لاثارة الاعتزاز والتفاخر، ولكن بنفس الوقت مجال لاظهار المثالب والفواجر.. وهذا هو الحاصل في ما تفكر فيه مجتمعاتنا من دون اي قطيعة حقيقية مع الماضي.. سواء كان بعيدا ام قريبا. الفرنسيون مثلا تشكّلت لديهم قطيعة مع تاريخهم منذ زمن بعيد.. انهم يحتفلون بيوم 14 تموز/ يوليو باعتباره عيدا وطنيا بذكرى الثورة الفرنسية 1789، ولكن لم يعد اي فرنسي يحمل حقدا وكراهية عمياء ضد لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت.. بل ولم نجد اي فرنسي يفاخر غيره باحداث الثورة الدموية ولا بالمقصلة التي حصدت رؤوس الاف البشر.. بل يعتبرها حدثا تاريخيا وطنيا ما دام الرمز قد تمّثل بسقوط الباستيل.. انه يدرك ادراكا عميقا ان الثورة الفرنسية لها مكانتها في التاريخ البشري، ولكنه لم يعد يشتم آل بوربون كونهم يعدون من الاعداء الحقيقيين له! بل وان الفرنسيين قد اعادوا الاعتبار لكل البوربونيين منذ زمن طويل. والعالم كله يدرك الفارق بين حكم فاروق الاول وحكم ادولف هتلر او بين حكم فيصل الثاني وحكم صدام حسين!الوعي التاريخي
انه يأتي مع الزمن ولا يمكن خلقه الا بالانتقال من الايديولوجيا الى المعرفة.. اي عندما تترسخ القطيعة. لقد اثيرت قبل ايام زوبعة اعلامية وثقافية لأن هناك من خدش التفكير السائد وقال بعودة الوعي التاريخي في تقييم اناس لم يكونوا لوحدهم بمسؤولين عن بقايا تاريخية وامراض اجتماعية وفواجع سياسية. لماذا الزوبعة؟ لأسباب سياسية طبعا. لم يستوعب التفكير في مجتمعاتنا ان ليس من حقنا احتكار التاريخ لوحدنا، فهو ملك لكل الاجيال القادمة.. ولم يخرج التفكير بعد من سخط الايديولوجيات والعواطف التي اضّرت جدا كل صنّاع المعرفة على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين. لم نلمح الى حد الان اي قطيعة مع الماضي، بل ان الاحقاد والتعصبات والانقسامات التي خلقها الماضي لم تزل تشكل عصب حاضرنا وانها ترسم الفوضى لمستقبلنا.. فما الذي نحتاج اليه حقا؟ خلق القطيعة، وفهم التاريخ بعيدا عن تقديسه او تدنيسه. ان quot; القطيعة quot; لم تجد نفسها مؤسسة في مجتمعاتنا بعد، ومن النادر ان نجد من يؤمن بالقطيعة التاريخية، ذلك لأن لا رؤية لأي مستقبل ان كان التفكير قد غرق في مشاكل التاريخ واوزاره والتعصب له.. ولا مستقبل لأي مشروع او رؤية اذا كان التفكير مسطحا وخاليا من اي فهم للتاريخ وظواهرة واحداثه.. في مجتمعاتنا، التاريخ يعيش بيننا ولكنه تاريخ غير حقيقي وغير منطقي ابدا! فكيف سيكون حال هكذا مجتمع ليس له الا ترديد ذكر الماضي وتقديسه واقتصاصه مساحات واسعة من الزمن الحاضر وقتل المستقبل؟وأخيرا: هل من جواب حقيقي؟
طيب، ما السبب الذي يبقي مثل هذه quot; الحالة quot; التي سوف لا تقدم ولا تؤخر من قيمة الحدث شيئا؟ ما السبب الذي يحول حتى الان عن اي قطيعة مع تاريخ عمره الف واربعمائة سنة، فكيف بتاريخ لم يتجاوز عمره الخمسين سنة؟ ان مجتمعاتنا قاطبة تعيش ازمة تفكير مطلق ولم تعرف بعد كيفية الخروج من شرانقه، ولا تعرف كيف تؤسس لنفسها قطيعة حقيقية مع الماضي وتأسيس نقد حقيقي. كنت اتمنى ان احدد لكم محاولة كتابة جواب حقيقي، ولكنني آثرت التوقف كيلا يطول مطال هذا المقال ويترك قراءته القراء الكرام! ولكن باختصار: هل ستحدث القطيعة في مجتمعاتنا يوما؟ انني اشك في ذلك!
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات