quot;سأصعد إلى المشنقة وأرى تحت أقدامي أناس لا تستحق الحياةquot;(سعيد قزّاز)
وزير داخلية العهد الملكي في العراق بعد صدور حكم الإعدام بحقه عام 1959
الحلقة الاولى : الظاهرة المكشوفة
مقدمة
كنت قد نشرت قبل سنوات مقالا عن هذا quot; الموضوع quot; المهم الذي يثير أسئلة لا نهايات لها عن ظاهرة تاريخية مؤشكلة حول نهايات مريرة وتراجيدية صعبة جدا لزعماء عراقيين حكموا العراق في القرن العشرين.. واليوم، أعود ثانية لأثير هذا quot; الموضوع quot; بشكل موّسع اكبر، وبمعالجة مقارنة أعمق واشمل.. إنني لا أهدف من إثارة هذا quot; الموضوع quot;، إلا طرح أسئلة مهمة على التفكير للبحث عن أجوبة ذكية يستفيد منها كل العراقيين. وهل سيشهد القرن الواحد والعشرين تكرار نفس الظاهرة، وربما بأساليب أكثر تعاسة ومرارة، أو ربما ستختلف المشاهد اختلافا كبيرا، كون العراق بدأ يسلك سلوكا من نوع آخر. إن quot; المشكلة quot; ليست في المجتمع ذاته، بل تتحمل الأنظمة السياسية للدولة مسؤوليتها أيضا، فالعلاقة العراقية بين الدولة والمجتمع دوما ما تكون في حالة صراع إبان القرن العشرين، ودوما ما يكون حمام الدم هو الفاصل بين الطرفين سياسيا. ثمة أسئلة أخرى حول النهايات الصعبة التي لا تقتصر على زعماء دولة، بل زعماء أحزاب واعيان مجتمع ومسؤولين وشيوخ قبائل ووزراء وضباط.. الخ إننا هنا نبحث عن quot; درس quot; معمّق من اجل تأسيس بداية جديدة لعلاقة تاريخية جديدة بين الدولة والمجتمع، أساسها الحوار والفهم، وهي quot; رسالة quot; أوجهها إلى كل المسؤولين العراقيين من اجل تجسير العلاقة في الدولة بينهم وبين النخب والفئات والجماهير. فهل سيتنازل هؤلاء من بروجهم كي يدركوا واقعهم، وهل يتملكهم هاجس نهايات مريرة تنتظرهم؟
التاريخ العراقي يمتلئ باجراس الانذار
منذ بدء التاريخ في العراق وحتى هذه اللحظة التاريخية المعاصرة ونهايات زعامات العراق دراماتيكية تصلح أي واحدة منها لإنتاج فلم سينمائي يكتظ لمشاهدته الناس في هذا العالم الرحيب! بل وان تراجيدية كل واقعة معينة تمثل سيناريوهاتها قصة روائية تاريخية مهيّجة من نوع ما تروّع بها الناس بل وتقّزز مشاعرهم! المفارقة المقارنة عن نهايات زعماء العراق التاريخية، والتي أوّد من كل من سيتّولى شأن العراق وحكمه في الحاضر والمستقبل، أن يتعّلم من التجربة وان يكون صبورا وحكيما وشجاعا بانتظار لحظاته النهائية.. إذ استعيد الآن صور اللحظات الأخيرة لكل من حكم العراق منذ مئات السنين، وهي صور لا تسر الناظرين ولا تبهج العالمين ويا للأسف الشديد.
على كل من يحكم العراق ويتولى أمره أن يقرأ نهايات من سبقه من الزعماء، فليس حكم العراق بالأمر الهيّن أبدا، ومن يبقى طويلا في حكم العراق، لابد أن يجني المأساة، بالرغم ما يزرعه من خير أو شرّ.. متمنيا على زعماء قادمين أن يعوا الدرس تماما، إذ لا يمكن لمن يجعله القدر سيدا للعراق، أن يكون دوما وأبدا يصنع القرار لوحده ومن دون أن ينفتح على كل العراقيين بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم ومنطلقاتهم ومذاهبهم، وحذار أن يصطف مع أي منها.. وحذار أن يفّرق بينها، فالناس في العراق شتات، إذ لا يمكن التعايش معهم إلا بالبقاء قريبا من مطالبهم، بعيدا عن اتجاهاتهم، فلا التوافق مع احدهم ولا التصادم مع جميعهم.. ولا يمكن ضبطهم إلا بالقانون.. والناس مذاهب، فلا يمكن تمييز هذا على آخر.. والناس أجناس، فلا يمكن تقديم أي واحد على الآخرين.. والناس أهواء، فلا يمكن أن تقسو عليهم وتبطش بهم ظلما وعدوانا..والناس مستويات في العراق، وعلى من يحكمهم أن يفّرق بين مستوياتهم.. وتراهم أمامك في حالة موحدّة وهم في الخفاء حالات مشتتّة، وتراهم معك وهم ضدّك.. تجدهم يصفقون لك، ولكنهم يبصقون عليك.. إنهم يؤلهونك وما أن تتهاوى حتى يسحقونك.. والعراقيون كمن يصنعون لهم آلهة من تمر، فعندما يجوعون يأكلوه! أتمنى من أي زعيم للعراق منذ هذه اللحظة التاريخية أن يقرأ نهايات من سبقه، وان يبقى وطنيا مسالما، وحضاريا، ونظيفا ويلتزم الدستور ولا يتشبث بالسلطة، فمن حسن حظه أن لا يبقى في السلطة حتى نهاياته.
نهايات متباينة تعّبر عن تناقضات متباينة
زعامات العراق على امتداد مائة سنة مضت لا تختلف أبدا عن نهايات زعامات سبقتها على امتداد مئات السنين.. وتلك quot; النهايات quot; ما هي إلا تعبير حقيقي عن حالة مجتمع له خصوصياته في الحياة، وله طبيعته المعينة في علاقته مع الدولة، والسلطة في مقدمتها. وحبذا لو تّربى العراقيون على أن quot; السلطة quot; كريهة ومهلكة، وعلى من يتولاها أن يتّحلى بصفات تؤهله لها ولابد أن يعي كيف يتصّرف مع الحياة العراقية. إنها quot; نهايات quot; تتلون بتلون تلك quot; الحياة المتصارعة اجتماعيا quot;بين مستويات متباينة ، بل وأنها quot; نهايات quot; معّبرة عن أي نوع من التدخلات الإقليمية في شؤون العراق، لتثمر ردود فعل ساخنة لما تكون عليه طبيعة علاقة أي زعيم عراقي راحل بمن يحيط العراق من جيران! ناهيكم عن كون أي نهاية من نهايات أي زعامة عراقية تتباين في مخرجاتها التي تصنعها التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تحكم بنية المجتمع العراقي.. وهي بنية معقدّة وصعبة جدا منذ زمن غابر.
في الحقيقة التي ربما يجهلها غير العراقيين أن نهايات الزعماء في العراق حالات متشابهة ولكنها تختلف صورها وألوانها وأساليب وقائعها.. وهي من الوقائع التاريخية التي تعد جزءا أساسيا من اهتمام العراقيين منذ مئات السنين.. إن الذاكرة التاريخية العراقية تبقى مشحونة بالعاطفة دوما وهي تستعيد نهاية هذا أو قفلة ذاك.. ذلك لان الذاكرة العراقية لم تكن متفقة في أي يوم من الأيام حول أي واقعة تاريخية مضت، فكيف تتفق أصلا حول نهاية أي زعيم من الزعماء؟ كل زعيم عراقي من زعماء العراق المعاصرين في القرن العشرين اختلف الناس في العراق حوله، وتصل درجة الخلاف في ما بينهم إلى درجة القطيعة، بل أجد أن أي زعيم عراقي يرحل نحو السماء، فهو لا يرحل لوحده حسب، إذ لابد أن ترافقه جملة من الناس تذهب شخوصها مجرد ضحايا سواء من اجله في الدفاع عنه، أو في الضد منه والهجوم عليه.إن أي زعيم عراقي راحل تشكّل نهايته حدثا بارزا لا يشغل العراقيين وحدهم، بل أن بعضهم شغل الدنيا كلها، وفي داخل العراق.. وقائع موت متنوعة لزعماء يهتاج لها الناس، أو ينتظرها آخرون، أو تثأر منها قسمات من الناس أو تحزن وتبكي عليها قسمات أخرى من الشعب أو يتشفّى بها البعض الآخر! وهذه طبيعة اجتماعية صعبة اعتقد إنها متوارثة منذ مئات السنين نتيجة لما مر بالعراق من إحداث تاريخية صعبة لا يمكن تصوّرها.. ولا يمكن أن يدركها غير الوعاة والدارسين العراقيين.
الذاكرة العراقية: منوال التاريخ
من يفكّر قليلا في استعادة تلك الوقائع ليقرنها واحدة بالأخرى ويقف عندها مليا، سيجد بأن الشناعة لا ترتكب مرة واحدة فقط! ومن يفكّر بزعامة العراق وقيادته ينبغي أن يضع نصب عينيه نهايات من سبقه عبرة له ومثالا ليعرف كيف يتصرّف بشأن العراق! ومن يحكم العراق عليه أن يشعر الشعب العراقي انه سيتقّبل نهايته كيفما كانت! إن أي زعيم عراقي تقترب نهايته من المقصلة.. عليه أن يبقى شجاعا يتقّبلها كونه يدرك انه ليس أفضل شأنا ممن سبقه في حكم العراق! وان نهاية أي زعيم عراقي سوف لن تكون نهاية للعراق أو نهاية للعالم كما يتصور الجهلاء.. ومهما جرى للعراق من كوارث، فانه قادر على أن يستعيد أنفاسه سواء على يد ملك عظيم، أو قائد زعيم، أو طاغية غير رحيم! من يقرأ تاريخ العراق بكل جوارحه سيرى أن أحداثا ووقائع خطيرة بدأت أو اختتمت بنهاية أي زعيم عراقي لا تراعى في ذلك لا أشهر حرم ولا أيام أعياد، ولا ساعات صيام شهر فضيل..
واخيرا ماذا نستنتج؟
وعليه، فان الإنسان قد يهتاج لهكذا فعل، أو ذلك أمر، ولكن اعتاد العراقيون أن لا يضعوا في ذاكرتهم أية اهتمامات كهذه على امتداد تاريخهم، ولكن ليكن معلوما بأن العراقيين ليسوا كفارا في سيناريوهات كهذه أو تلك، إذ لو رجعت مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة إلى تاريخها الطويل، لوجدت جملة من البشاعات أقسى وأمّر قد حدثت في أزمان مقدّسة، أو أماكن مقدّسة! فالعراقيون غير مسؤولين عن أحداث ووقائع يصنعها الآخرون لهم، ولكن لابدّ لنا أن نعترف بهذه quot; الظاهرة quot; التاريخية التي اتصف بها العراقيون في القرن العشرين. وأتمنى على كل عراقي أن يفّكر أولا بهذه الظاهرة الخطيئة، ويسأل نفسه : لماذا قتل أو اعدم، أو عّذب الآلاف من العراقيين حكاما ومحكومين.. زعماء ومواطنين في القرن العشرين؟ دعونا نعالج في الحلقتين القادمتين نماذج تاريخية حقيقية من مصارع العراقيين.
انتهت الحلقة الأولى وستليها الحلقة الثانية عن مصارع العراقيين
www.sayyaraljamil.com