العراق من الفراغ الى الفوضى
يعد العراق واحدا من أقدم دول المنطقة في أحزابه وتجمعاته السياسية منذ مائة سنة، كما وان العراقيين عرفوا اتجاهات سياسية وحزبية وإيديولوجية فكرية قبل غيرهم من شعوب المنطقة. إن ثمّة تجمعات وتيارات إصلاحية وليبرالية وراديكالية وقومية ووطنية شهدها العراق منذ منتصف القرن العشرين.. كما وشهد إصدار أكثر من قانون للأحزاب السياسية مع تعديلات قانونية ودستورية.. ويكفي أن الحزب الشيوعي العراقي، هو أقدم حزب باق حي يرزق حتى يومنا هذا، وفي المنطقة كلها.. لقد كانت الأحزاب العراقية قد انكفأت وحوربت واستؤصلت على امتداد خمسين سنة مضت، وكان العهد السابق قاسيا في إفراغ العراق من أي حزب سياسي، ومن أي فكر سياسي يناوئ (أو حتى يتعايش) مع الحزب الوحيد الحاكم، وبالرغم من أن النظام السياسي السابق كان قد وعد لأكثر من مرة بإصدار قانون للأحزاب، ولكنه لم يسمح بذلك مطلقا! اليوم، يعيش العراقيون نقيض الأمس، فثمة فوضى عارمة تجتاح الساحة السياسية بولادة أحزاب ثم اختفائها، ولكن لا نجد أي قانون ينظّم الحياة الحزبية للعراق.. وان مجرد اختفاء ذلك يعني، انتفاء الديمقراطية، إذ أن التزويرات ستكثر، بل وان الصراعات ستزداد بين مختلف القوى المنقسمة والمثيرة للمشاكل، من دون أي مشروع مبادئ وبرامج عمل يتضمنها قانون للأحزاب استعدادا للقرن الواحد والعشرين.
معنى الأحزاب السياسية: ضرورة تأسيس قانون
إذا علمنا أن الأحزاب السياسية هي تنظيمات دائمة ينبغي أن تتمتع بالشخصية المعنوية، وان تؤسس بمقتضى اتفاق بين مواطنين، يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية ويتقاسمون المبادئ نفسها، قصد المشاركة في تدبير الشؤون العامة، وحفظ المصالح الوطنية، وتطوير البلاد بأساليب ديمقراطية من دون أي توزيع للأرباح! فان الأحزاب ستتباين بين كتل كبرى وتجمعات صغرى. إن أي تجربة ديمقراطية لا تعيش من دون قانون للأحزاب كما معمول به في دول عديدة.. قانون يعّرف بها، وينّظم عملها، ويحدد صرفياتها، ويراقب عملها، ويفرض الجزاءات على مخالفاتها، ويتابع مشروعيتها، بمقتضى دستور البلاد، كما ويحّرم عليها أية علاقات بدول أخرى تمس المبادئ الوطنية.. فضلا عن التزامها بتلك المبادئ من خلال إقرارها ذلك في أنظمتها الداخلية المدنية (كونها أحزاب سياسية) بعيدا عن أي مرجعيات أخرى. إن أي قانون للأحزاب، هو ضرورة عراقية في تأسيس الحياة السياسية العراقية ضمن المبادئ التي رسمها الدستور، ولما كان الدستور العراقي الجديد، بحاجة ماسة إلى المزيد من التعديلات ـ كما اقرّ ذلك رسميا ـ بهدف تأمين مصالح الجميع، وضمان مبادئ وطنية تجمع كل العراقيين، فان ليس هناك إلا إصدار قانون مؤقت للأحزاب، يمكن العمل به لحين معالجة طبيعة دستور العراق.. ولا يمكن أن يعيش العراق من دون دستور مدني يضمن حقوق الجميع وواجباتهم.
الركيزة المدنية للاحزاب السياسية
إن اغلب القوانين التي أصدرتها دول عديدة للأحزاب، إنما أكدت فيها بطلان أي حزب سياسي يؤسس فيها وهو يرتكز على أساس ديني، أو لغوي، أو عرقي، أو جهوي أو عشائري، أو يقوم على أساس تمييزي، أو مخالف لحقوق الإنسان (انظر على سبيل المثال لا الحصر : قوانين الأحزاب في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وسويسرا.. ووصولا إلى اسبانيا والمغرب وتركيا مثلا). ناهيكم عن حرمان كل العسكريين من كل الرتب ومسؤولو ما يسمى بـ quot; القوة العمومية quot;، فليس من الجائز أن ينفرد ـ مثلا ـ وزير الداخلية بتشكيل حزب والمباراة به في الانتخابات، وهو على رأس القوة العمومية الداخلية! وهو نفسه الذي يمنح تصاريح تأسيس الأحزاب! ولا ادري، كيف يجوز ذلك؟ إذ يبدو، أن ليس هناك أي رادع قانوني إمام أي مسؤول ليفعل ما يشاء؟ إن أي قانون للأحزاب يحرّم على القضاة ورجالات السلطة وأعوان السلطة في دول ديمقراطية من ممارسة التحزب وهم يتمتعون السلطة، أو أن تجرى الانتخابات والسلطة بأيديهم وهم يشاركون فيها!
مستلزمات التأسيس
أما بالنسبة لتأسيس الأحزاب السياسية في اغلب المجتمعات الديمقراطية، فلا يمكن أن يمنح الحزب لنفسه حق التأسيس، ما لم يعلن عن مؤتمره التأسيسي الذي تناقش فيه أسس نظامه الداخلي، وتشهر مبادئه على العالم، وتسمى تلك العملية بـ quot; إعلان مسطرة الحزب quot;.. أما عكس ذلك، فلا يمكن له اكتساب الشرعية، ولا دخوله أي عملية انتخابات محلية بلدية، أو وطنية عامة! دعونا نتأمل النص القانوني التالي : quot; يصبح تصريح تأسيس الحزب غير ذي موضوع في حالة عدم انعقاد المؤتمر التأسيسي للحزب داخل أجل سنة على أبعد تقدير يبتدئ من تاريخ الإشعار المشار إليه في المادة 10 من هذا القانون أو من تاريخ الحكم النهائي الذي يقضي بأن شروط وشكليات تأسيس الحزب مطابقة لأحكام هذا القانونquot;.
أما المؤتمر التأسيسي، فلا يعد صحيحا إلا إذا حضره 500 عضوا على الأقل من بينهم ثلاثة أرباع الأعضاء المؤسسين على الأقل ـ كما تؤكد عليه اغلب قوانين الأحزاب ـ، وهذا ما لم نجده في العراق، إذ أن هناك ثمة أحزاب ليس لها إلا اسمها، وجماهيرها يعدون على عدد الأصابع! أو أنها لم تكتسب اية مشروعية بعد ولادتها! إن من ابرز المواد القانونية لتأسيس الأحزاب السياسية وتسييرها بعد تنظيمها، أن يتوفر كل حزب على ثلاثة مستلزمات: برنامج مكتوب، ونظام أساسي مكتوب، ونظام داخلي مكتوب. ولعل أهم تلك المواد البارزة، النص القانوني القائل : يجب أن ينصّ النظام الأساسي للحزب، على الخصوص، على الجهازين الآتيين : 1) الجهاز المكلف بمراقبة مالية الحزب ؛ 2) الجهاز المكلف بالتحكيم. وهذا لم توفره اغلب الأحزاب العراقية، إذ يعتمد أي حزب على زعيمه في التأسيس، والتمويل، وإدارة التنظيم. السؤال: هل يتوفر لأي حزب عراقي مثل هذين الجهازين الاثنين؟ الجواب: كلا!
التمويل
ولعل quot; التمويل quot; اخطر الأمور حساسية في العراق.. سواء مالية الحزب، أو تمويل الحملات الانتخابية.. إن التمويل كما هو واضح في العراق لا قانون يحكمه، ولا نص يحددّه، ولا قضاء يلزمه.. فكل من له ملايين الدولارات، باستطاعته أن يقتحم المجال السياسي لتأسيس حزب، أو المشاركة في حملة انتخابية، أو شراء أصوات، أو شراء ذمم، أو توزيع هدايا.. الخ دعوني انقل النص القانوني التالي كما ورد في واحد من قوانين الأحزاب المعمول بها في مجتمعات سياسية ديمقراطية في العالم. يقول النص: quot; - الهبات والوصايا والتبرعات النقدية أو العينية على أن لا يتعدى المبلغ الإجمالي أو القيمة الإجمالية لكل واحدة منها 10.000 يورو (أو ما يماثلها) في السنة بالنسبة لكل متبرع ؛.. quot; وتمنح الدولة للأحزاب السياسية التي تحصل على نسبة 5% على الأقل من عدد الأصوات، في الانتخابات العامة التشريعية برسم مجموع الدوائر الانتخابية المحدثة يوجه إلى المجلس الأعلى للحسابات بيان بالمبالغ المخصصة لكل حزب سياسي. إنها تحدد بمرسوم يتخذ باقتراح من وزير الداخلية كيفيات توزيع مبلغ الدعم وطريقة صرفه. ويتوجب على الأحزاب السياسية التي تستفيد من الدعم السنوي أن تثبت أن المبالغ التي حصلت عليها تم استعمالها للغايات التي منحت من أجلها. وثمّة مادة قانونية تقول بأن يتولى المجلس الأعلى للحسابات مراقبة نفقات الأحزاب السياسية برسم الدعم السنوي لتغطية مصاريف تسييرها وكذا الحساب السنوي للأحزاب السياسية المشار إليه في مادة أخرى من القانون (انتهى النص).
إنني أسأل : إذا كان هناك شخص عراقي كان موظفا قبل عام 2003 وراتبه ما يعادل 25 دولارا أو اقل في الشهر، فمن أين أتى بالملايين اليوم وهو وزير، كي ينفقها على حزبه، وعلى حملته الانتخابية في عموم العراق، بل ويدفع إلى فضائية عربية الآلاف المؤلفة من الدولارات للدعاية الانتخابية؟ وأنا أسأل : إذا عرفنا بأن هناك زعيما لحزب، أو تحالف مرتبط بدولة أجنبية مجاورة، فهل من القانون أن يصرف ما شاء له من الأموال على حملته الانتخابية من دون أي قانون يردعه؟ وأنا أسأل : إذا كان هناك قانون لتنظيم عدالة الحملات الانتخابية، فهل من الإنصاف، أن يجد حزب معين ضالته في تأسيس فضائية له بالملايين، ولا يجد زعماء أحزاب آخرين ضالتهم الإعلامية بأن يطلوا على جماهيرهم لنصف ساعة من الزمن فقط؟
الجزاءات
وكما تمنح الدول الحق للأحزاب بإجراء التحالفات والتكتلات، فان أي قانون للأحزاب يقرر عدة جزاءات،ولقد وجدنا عدة أحزاب عراقية، بل ومتحزبين عراقيين، يخلّون بالنظام العام من دون أي رادع، أو جزاءات قانونية..والانكى من ذلك، أن (الحرية) التي يتمتعون بها، جعلتهم يضربون القانون العام عرض الحائط، فلماذا لم نجد أي قانون للأحزاب العراقية حتى اليوم؟ لماذا استفحلت سطوة الأحزاب الدينية وشعاراتها على مصالح العراق الدنيوية ومستلزمات الناس، وأنها عاثت بالمجتمع فسادا؟ إن الخروقات لم تكتف بالشكليات السياسية، بل وصلت لدى عدة أحزاب إلى خروقات في المبادئ.... يقول احد نصوص قانون الأحزاب في اسبانيا : quot; يحل بموجب مرسوم معلل كل حزب سياسي يحرض على قيام مظاهرات مسلحة في الشارع، أو يكتسي من حيث الشكل والنظام العسكري، أو الشبيه به صبغة مجموعات قتال، أو فرق مسلحة خصوصية أو يهدف إلى الاستيلاء على مقاليد الحكم بالقوة أو يهدف إلى المس بالمعتقدات وحقوق الإنسان أو بالنظام الدستوري، أو بوحدة التراب الوطني quot;. دعونا نسأل : كم من خروقات حزبية عراقية للمبادئ العراقية الوطنية؟ وكم من دعوات حزبية طائشة للانفصال الإقليمي؟ وكم من كتابات حزبية تمس وحدة البلاد في الصميم؟ وكم من حزب سياسي عراقي احتوى على أعضاء غير مؤهلين للحياة السياسية كونهم لا يمتلكون الأهلية.. فبعضهم أصحاب سوابق، وبعضهم يقّدم مرجعياته القومية، أو الطائفية، أو العشائرية على العراق.
وأخيرا: محصلة القول
لا ديمقراطية في البلاد من دون قانون للأحزاب العراقية، ولا قانون لذلك من دون تعديل الدستور ليصبح دستورا مدنيا صرفا، ولا مستقبل للعراق من دون واحد من خيارين اثنين ضمن سياقات بناء مشروع وطني للعراق، أولاهما استحداث أحزاب عراقية جديدة على أعقاب أحزاب متهرئة لم تقدم للعراق أي شيء على مدى سنوات.. وثانيهما تجديد الأنظمة المبدئية والداخلية لأحزاب عراقية وطنية عريقة، لم تعتمد إلا العراق هوية لها وأهل العراق مادة لتقديم خدماتها لها.