ينتمي الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما إلي سلالة نادرة من السياسيين المستنيرين، لا تظهر إلا في المنعطفات الحرجة في التاريخ الإنساني، لتدشن أفقا جديدا مغايرا في مسيرته، تتحول بموجبه حركة التاريخ، من العنف إلي التسامح، ومن الصراع إلي الحوار، ومن الواحدية إلي التعددية.
أصول هذه السلالة وجدت في الهند مع quot; أشوكا quot; وانتقلت لأوروبا مع quot; فريدريك الكبير quot;، ثم هاجرت إلي القارة الجديدة (أمريكا) وظهرت مع أبو الفيدرالية الأمريكية quot; توماس جيفرسون quot; ورفاقه، وصولا إلي الرئيس أوباما.
وتتميز شجرة الأنساب الفكرية لهذه السلالة quot; بالحكمة السياسية quot;، والإدراك الواعي لأهمية التنوع الإنساني والتعدد الديني والثراء الثقافي، ولمخاطر العنف والتعصب ونفي الآخر في الوقت نفسه، وهو ما يتعارض مع أبسط شروط الأمن المدنى ومبادئ السلام العالمي.
فهذا التعايش السلمي الذي نشاهده في شبه القارة الهندية اليوم بين أكثر من ألف عقيدة وملة، هو ثمرة تراث هندي قديم عن التسامح، ينطوي على التقدير المتبادل للمقدس. بدأ مع أشوكا، المولود عام 304 ق. م، وبفضل إدارته العادلة للحكم من خلال القانون الخلقي (دارما)، وليس بفضل القوة العسكرية الغاشمة، استطاع أشوكا تجسيد مبادئه في دولة حقيقية، أصبحت بمرور الوقت مثالا يحتذي.
أما quot; فريدريك الكبيرquot; فقد كان عادلا ومتسامحا، كجده الملك quot; لويس الرابع عشر quot;، يزكى سياسة التسامح الدينى ويصفها بأنها قاعدة الحكمة السياسية. وفى سنة 1740، كتب رداً على سؤال الإدارة الحكومية حول هل بوسع الكاثوليكى أن يكتسب الحقوق المدنية : quot;أن كل الأديان جيدة بالتساوى، وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها أن يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثينون أن يجيئوا إلينا ويقطنوا فى بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل امرئ فى مملكتى حر فى أن يؤمن بما يريد وحسبه أن يكون صادقاً quot;.
هكذا نجد أن سياسة التسامح التى أيدها فريدريك لم تقتصر على المسيحيين فقط وإنما امتدت إلى الأديان السماوية الأخرى بل والأديان الوثنية، كما امتدت إلى البلدان الأوربية الأخرى وإن كانت انجلترا لم تعترف رسمياً بالتسامح المذهبى تجاه الكاثوليك إلا فى سنة 1829، ثم تجاه اليهود سنة 1842، والملحدين سنة 1888.
مما يؤكد علي أن الحداثة والتنوير والتقدم والتغيير والسلام نفسه (إرادة سياسية) في المقام الأول، فالحكمة السياسية سواء في الشرق أوالغرب هي العامل الأول في نشوء سياسات التسامح بين الأديان والثقافات، وفي تحقيق السلام العالمي.
الملفت في الأمر أن هذه الحكمة السياسية غير دينية علي الاطلاق، بل هي سابقة علي ظهور الأديان، وإن كانت تسربت إلي معظم الأديان تقريبا، مصدرها الأول هو القاعدة الذهبية في الأخلاق، أو ما أسماه الرئيس أوباما في خطابه بquot; العقيدة الذهبية quot;، يقول كونفوشيوس : quot;لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يعاملوك بهquot;. وفى اليهودية : quot; لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يضطروا إلى معاملتك به quot;. وفى المسيحية : quot; عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به quot;. وفى الإسلام : quot; لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه quot;.
وتطبيق هذه القاعدة الذهبية يتضمن بالضرورة هذا السؤال: أينبغى أن نتسامح مع quot;العنفquot; ؟ هل نتسامح مع ما يهدد التسامح نفسه ؟ . أن التسامح اللامحدود يدمر التسامح والأمن والسلام، وقد ناقش الفيلسوف الأمريكى quot;جون رولزquot; فى كتابه quot;نظرية العدالةquot; مسألة القدرة على التسامح مع غير المتسامحين نقاشاً مفصلاً، وقسم السؤال : هل ينبغى التسامح مع غير المتسامحين إلى قسمين : الأول هو.. هل ينبغى للجماعات غير المتسامحة أن تتذمر عندما لا يجرى التسامح معها ؟. والثانى هو.. هل للجماعات أو الحكومات المتسامحة الحق فى ألا تتسامح مع غير المتسامحين ؟.
حسب القاعدة الذهبية للأخلاق : quot;عامل الناس بما تحب أن يعاملوكquot;.. فإنه ليس للجماعات غير المتسامحة الحق أن تتذمر عندما لا يجرى التسامح معها.
أما بالنسبة للسؤال الثانى فرأى رولز أنه حين لا يتهدد سريان الدستور العادل، فمن الأفضل التسامح مع غير المتسامحين.
لقد استخدم أوباما القاعدة الذهبية للأخلاق في مواجهة quot; قاعدة quot; بن لادن والظواهري وكل القواعد الدينية الأخري، علي عكس سلفه الرئيس بوش الإبن، الذي استخدم الحمية الدينية لا الحكمة السياسية.

[email protected]