بالفعل، لم ندرك بعد هذه اللحظة الفاصلة في التاريخ، (لحظة ميلاد ما بعد الحداثة) في الفلسفة. وإحدي النتائج الأولية لهذا الميلاد، كما يعرضها نيتشه في كتابه quot; العلم المرح quot;، هي فكرة (العود الأبدي). (1)..... ومفادها: ان الوجود ليس صيرورة مستمرة ولا نهائية، وإنما تأتي لحظة يسميها نيتشه بquot; السنة الكبري quot; للصيرورة عندما تنتهي دورتها تبدأ دورة جديدة، وهكذا، أي أن زمان الوجود مقسم إلي دورات كل منها تكرار للدورة السابقة عليها، ولا خلاف مطلقا بين الواحدة والأخري، وكأن الوجود كله صورة واحدة تتكرر بلا انقطاع في الزمن اللانهائي: كل شئ يباد وكل شئ يحيا من جديد، وإلي الأبد تسير سنة الوجود. (2).
ويقول في كتابه quot; العلم المرح quot;: quot; إن هذه الحياة كما تعيشها وكما عشتها لابد أن تحياها مرة أخري بل عددا لا نهائيا من المرات، ولن يكون فيها شئ جديد، بل ان كل ألم وسرور، كل فكرة وزفرة، وكل واقعة كبيرة كانت أو صغيرة من حياتك ستعود بنفس النظام من التتابع، وكذلك سيعود هذا العنكبوت وضوء القمر هذه اللحظة الزمنية. إن الساعة الرملية للوجود ستعود وأنت معها يا ذرة من ترابها quot;. (3)
ويردد في موضع آخر: quot; أطلق أغنيتك يا زرادشت.. أنت تقول بالسنة العظمي المتكررة، وهي كالساعة الرملية كلما فرغ أعلاها ليعود أدناها إلي الإنتصاب مجددا، وهكذا تتشابه السنوات كلها بإجمالها وتفاصيلها، كما نعود نحن متشابهين لأنفسنا إجمالا وتفصيلا في هذه السنة العظمي quot; سأعود بعودة هذه الشمس وهذه الأرض ومعي هذا النسر وهذا الأفعوان، سأعود لحياتي من جديد، ولا لحياة أفضل، ولا لحياة متشابهة، بل إنني سأعود أبدا إلي هذه الحياة بعينها إجمالا وتفصيلا، فأقول أيضا بعودة جميع الأشياء تكرارا وأبدا، وأبشر أيضا بظهيرة الأرض والناس وبقدوم الإنسان الأعلي quot; (4).
ورغم ان quot; نيتشه quot; ليس هو أول من اكتشف فكرة (العود الأبدي)، إذ انها وجدت في الفلسفة الشرقية القديمة والفلسفة اليونانية علي السواء، فإن الجديد الذي أتي به quot; نيتشه quot; هو أنه: quot; أضفي علي الضرورة صفة الوجود quot; (5).
حين جعل منها الوجود الحقيقي الوحيد، وكأن هناك وحدة هوية تجمع بينهما: فأكتسب التغير المستمر صفة الوجود الأبدي، وأكتسب الوجود صفة التغير المستمر، من هنا جمع نيتشه بين نزعتين متعارضتين: quot; بين المتناهي المتعين، وبين العلو. ذلك لأن محتوي فكرة (العود الأبدي) لا يسري إلا علي الوقائع، وهي في نفس الوقت تمنحها تكرارا لا ينتهي، فتعلو بما هو فان علي مجال الفناء مع أنها ذاتها أحد عناصره.... من هنا كان قول نيتشه quot; إن عودة كل شئ هي أكبر تقريب ممكن لعالم الضرورة منه إلي عالم الوجود quot;. (6)
من ناحية أخري فإن فكرة (العود الأبدي) تحرر النفس من الزمن quot; فحين يعود كل ما مضي عددا لا متناهيا من المرات، يستوي عند النفس الماضي والمستقبل، ويصبح كل ماضي قمت به، مستقبلا سأقوم به فيما بعد، وهكذا تتحرر النفس من قيد الماضي بإحالته إلي المستقبل، وتسيطر علي الإرادة الخالقة علي الزمن في كل مظاهره، لا في مستقبله فحسب quot;. (7)
إن ما يميز نيتشه هو إدراكه للزمن، لا انطلاقا من الآن، وإنما من quot; اللحظة quot;، وما يميز quot; اللحظة quot; عن quot; الآن quot; كما بين quot; هيدجر هو أن quot; اللحظة ليست هي أصغر جزء من الحاضر، وإنما هي التي تفتح الحاضر أو تصدعه quot; (8).
واللحظي حسب نيتشه هو ما يقوم ضد الزمن الحاضر، هكذا سيكف الحاضر عن أن يكون جزءا من الصيرورة المستمرة، وسيتحرر من ثقل الماضي، أو بالأحري، إن الماضي هو الذي سيتحرر من الحضور، لنصبح أمام (حضور) لا زماني للحاضر، فليست اللحظة، كما يقول عبد السلام بنعبد العالي، نقطة من الحاضر، إنها (منسوجة علي أرضية من النسيان)، والنسيان في كتاب نيتشه quot; إنساني، إنساني جدا quot; عام 1878، أو في كتابه quot; أصل نشأة الأخلاق quot; عام 1887 هو quot; قدرة ايجابية بالمعني الدقيق للكلمة quot;، قدرة تغلق من آن لآخر أبواب الوعي ونوافذه فتحول دون تدفق الماضي، وسعيه لأن يحضر ويحيا ويتطابق، فبدلا من أن: الحاضر والماضي والمستقبل، يتلو أحدها الآخر، فإنها (تتعاصر) خارج بعضها البعض، في عالم لا يكون فيه الحاضر هو quot; الآن quot; الذي يمر، وإنما الذي يمتد بعيدا حتي يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي.
ان فكرة (العود الأبدي) تعني أن نعيش بعمق تجربة ضرورة الخطأ، مع الارتفاع ولو للحظة فوق هذه العملية، أو ان نعيش quot; متاهات الميتافيزيقا quot; من وجهة نظر مختلفة، لا هي قبول خالص لأخطاء الميتافيزيقا، ولا هي نقد تجاوزي لهذه الأخطاء، وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة في الفلسفة.

هوامش:
1- - جياني فاتيمو: نهاية الحداثة ndash; الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة بالجمهورية العربية السورية، دمشق 1998، ص:187.
2- فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر، بيروت، بدون تاريخ، الجزء الثالث، ص: 227 ndash; 228.
3- نقلا عن، ريجيس جوليفيه: المذاهب الوجودية من كيركجورد إلي جان بول سارتر، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة محمد عبد الهادي أبو ريده، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1982، ص: 61.
4- نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ص: 230 ndash; 231.
5- فؤاد زكريا: نيتشه، ص: 141.
6- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
7- المرجع نفسه، ص: 39.
8- نقلا عن، عبد السلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفي المعاصر ndash; مجاوزة الميتافيزيقا، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولي 1991.

[email protected]