سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تقويض سلطة الأنساق الفكرية المغلقة، والتى عادة ما تأخذ شكل quot;المذاهبquot; وquot;الأيديولوجياتquot;، على أساس أنها فى زعمها تقديم تفسير كلى للظواهر الإنسانية، قد ألغت حقيقة [ التنوع الإنساني]، وانطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها.
من هنا لم تكتف حركة ما بعد الحداثة بمجرد إعلان سقوط هذه الأنساق الفكرية الكبري، كما يقول استاذنا السيد يسين، وإنما ألغت quot;الذاتquot; الحديثة، ومن ثم قضت على التقابل الشهير بين quot; الذات - Subject، و quot;الموضوعquot; Object الذي كرسته quot;الحداثةquot; الغربية.
وتؤكد حركة ما بعد الحداثة على أن هذه quot;الذاتquot; من اختراع عصر الحداثة، وأى تركيز على quot;الذاتquot; يفترض وجود فلسفة إنسانية عامة، وهو ما تعارضه الحركة. من جهة أخرى فإن القول بوجود quot;ذاتquot; يفترض بالضرورة وجود quot;موضوعquot;، وهو أيضاً ما ترفضه الحركة، إذ أن هذه الثنائية بين quot;الذاتquot; و quot;الموضوعquot;، ربيبة التراث الميتافيزيقي والحداثة الغربية التى ينبغي تجاوزها.(5)
ونستطيع أن نعثر على هذه الفلسفة الجديدة التى ترفض quot;الذاتquot; الحديثة فى مفهوم quot;الإبستميةquot; Episteme عند quot;ميشيل فوكوquot;، والفلسفة quot;اللامركزيةquot; acentree عند quot;جاك دريداquot;، وإن ساهمت quot;الفينومينولوجياquot; Phenomenology عند quot;هوسرلquot;، والبنيوية بشكل عام، فى تدعيم هذه الفلسفة الجديدة.
لقد جاءت quot;البنيويةquot; مباشرة من ألسنية quot; دي سوسيرquot; F.DE SAUSSURE الذي أكد على أنه quot;فى اللغة ليست هناك سوى الاختلافاتquot; (6). كما ساهمت الأبحاث الأنثروبولوجية عند quot; كلود ليفي شتراوس LEVI-STRAUSS فى نقد النزعة الإنسانية التى حاولت فرض النموذج الغربي للتقدم والحداثة على جميع المجتمعات بلا استثناء.
فقد كشف quot;ليفي شتراوسquot; عن أن الأنثروبولوجيا هى ذروة النزعة الإنسانية الغربية، وان الأنثروبولوجى الغربي حين يدرس quot;الآخرquot; (غير الغربي)، ليس من أجل أن يكتشفه فى اختلافه الحقيقي كآخر، وإنما يدرسه ليؤكد فيه كل ما يثبت ويعيد إنتاج quot;مركزيتهquot; و quot;ذاتيتهquot;، مقابل إعادة إنتاج quot;هامشيةquot; الآخر. (7)
فالأنثربولوجيا هلى علم الإنسان الغربي بالنسبة لـ quot;ذاتهquot; أولاً، وعندما يدرس quot;الآخرquot; فهو يعيد إنتاج quot;ذاتهquot; هو، عبر إخضاع quot;الآخرquot; لمنهجيات العلوم الإنسانية التى تعتبر المحصلة التركيبية العليا والأخيرة، لتلك quot;الميتافيزيقاquot; ذاتها هى التى تقود الحداثة الغربية.
وإذا كانت البنيوية قد تسربت الى الفلسفة من باب العلوم الإنسانية، فإنها قد أثرت تأثيراً هاماً على الفلسفة وتمثل تأثيرها أساساً فى الاستغناء عن quot;فلسفة الذاتquot; أو فلسفة الكوجيطو كما صاغها quot;ديكارتquot; Descartes (1596-1650) ودشن بها الحداثة الغربية ومحاولة إقامة فلسفة ليس فيها للفاعل دور، ونلمس ذلك بوضوح عند quot;فوكوquot; و quot;دريداquot; تحديداً.
خاصة فى كتاب quot;الكلمات والأشياءquot; Les Mots et Les Choses الصادر عام 1966، حيث يحاول quot;فوكوquot; الكشف عن أنه في كل حقبة تاريخية معينة هناك خلفيات هى الأساس الذي تبني عليه المعرفة، والبحث عن مجمل هذه الخلفيات يشكل quot;القبلية التاريخيةquot; يترتب على ذلك أن هناك نظاماً خفياً وراء الظواهر هو الذي يشكل الشرط الحقيقي الذي بدونه لا يمكن ان يكون هناك خطاب حول الأشياء يعكس حقيقتها أو بالأحرى يعترف به كخطاب مطابق للحقيقة(8).
ويطبق quot;فوكوquot; مفهومه حول المعرفة أو الإبستمية - Episteme على (الحداثة) فإذا به يؤكد: quot; أن المهم ليس وجود كوفييه (البيولوجيا) وبوب Bopp (الألسنية) وريكاردو (الاقتصاد) فى مطلع القرن الماضي، ولكن المهم هو أنه قد حل استعداد معين للمعرفة حيث هناك في آن واحد تاريخية الاقتصاد... وتناهي الوجود البشري ونهاية للتاريخ فى الأفق (9).
وهكذا، يبدو أن أركيولوجيا المعرفة عند فوكو تستغني نهائياً عن quot;الذاتquot; لتستعيض عنها بالظروف التى تشكل الخلفية التاريخية، والسبب الحقيقي لكل معرفة.
والشئ نفسه مع quot;جاك دريداquot; الذي يستغني عن quot;الذاتquot; فى فلسفته إذ أنه يحاول أن يقوض نهائياً الفلسفة القائمة على quot;الذاتquot; كما ورثها الغرب عن quot;ديكارتquot;، وهو فى محاولته هذه يذهب أبعد مما ذهب إليه quot;فوكوquot; حيث يحاول أن ينسف المحور الرئيسي الذي بنيت عليه quot;الميتافيزيقاquot; وهو مركزية العقل، أى احتلال العقل والكلمة للنقطة الأساسية التى تجعل منهما المرجع الأخير لكل فلسفة بل لكل حقيقة.
ونقطة الإنطلاق عند quot;دريداquot; هي البحث عن مكانة جديدة للكلمة من أجل quot;إسقاطهاquot; عن مركزها المتسلط والمهيمن كأصل ومركز للغة. وحسب quot;دريداquot; فإنه: quot; قبل الحديث عن اختفاء الكلمة لا بد من التفكير فى وضع لها، لإخضاعها في بنية لا تعود فيها السيد المطلقquot;(10)
إن هذه البنية التى تسمح بانقلاب كامل ضد quot;الكلمةquot;، وبالتالى ضد quot;الميتافيزيقاquot;، يجدها دريدا فى مفهوم quot;الاختلافquot; Difference، أى في لعبة الاختلاف التى يسميها quot;الأثرquot; - La Trace، وهذا الأثر يشكل الشرط الأساسي لإمكانية تحلل جميع المدلولات التى تستمد وجودها من العقل (11).
هكذا نجد أنفسنا من خلال هذه (الرؤية للأشياء) أمام تلاشى كل رجوع الى الإنسان كفاعل ومحور للفكر أى تلاشى quot; فلسفة الذاتquot; لتحل مكانها البنية الأولية، بنية لعبة الاختلافات والفروق داخل اللغة.
والواقع أن هناك دلائل كثيرة تؤكد ما يذهب إليه دريدا، وتشير إلى غياب الإنسان بصفة خاصة، فلم يكن تخلى quot;الرواية الجديدةquot; عن الشخصيات مجرد مصادفة. (12)... وهو ما سنناقشه بالتفصيل في المقال القادم.
من هنا لم تكتف حركة ما بعد الحداثة بمجرد إعلان سقوط هذه الأنساق الفكرية الكبري، كما يقول استاذنا السيد يسين، وإنما ألغت quot;الذاتquot; الحديثة، ومن ثم قضت على التقابل الشهير بين quot; الذات - Subject، و quot;الموضوعquot; Object الذي كرسته quot;الحداثةquot; الغربية.
وتؤكد حركة ما بعد الحداثة على أن هذه quot;الذاتquot; من اختراع عصر الحداثة، وأى تركيز على quot;الذاتquot; يفترض وجود فلسفة إنسانية عامة، وهو ما تعارضه الحركة. من جهة أخرى فإن القول بوجود quot;ذاتquot; يفترض بالضرورة وجود quot;موضوعquot;، وهو أيضاً ما ترفضه الحركة، إذ أن هذه الثنائية بين quot;الذاتquot; و quot;الموضوعquot;، ربيبة التراث الميتافيزيقي والحداثة الغربية التى ينبغي تجاوزها.(5)
ونستطيع أن نعثر على هذه الفلسفة الجديدة التى ترفض quot;الذاتquot; الحديثة فى مفهوم quot;الإبستميةquot; Episteme عند quot;ميشيل فوكوquot;، والفلسفة quot;اللامركزيةquot; acentree عند quot;جاك دريداquot;، وإن ساهمت quot;الفينومينولوجياquot; Phenomenology عند quot;هوسرلquot;، والبنيوية بشكل عام، فى تدعيم هذه الفلسفة الجديدة.
لقد جاءت quot;البنيويةquot; مباشرة من ألسنية quot; دي سوسيرquot; F.DE SAUSSURE الذي أكد على أنه quot;فى اللغة ليست هناك سوى الاختلافاتquot; (6). كما ساهمت الأبحاث الأنثروبولوجية عند quot; كلود ليفي شتراوس LEVI-STRAUSS فى نقد النزعة الإنسانية التى حاولت فرض النموذج الغربي للتقدم والحداثة على جميع المجتمعات بلا استثناء.
فقد كشف quot;ليفي شتراوسquot; عن أن الأنثروبولوجيا هى ذروة النزعة الإنسانية الغربية، وان الأنثروبولوجى الغربي حين يدرس quot;الآخرquot; (غير الغربي)، ليس من أجل أن يكتشفه فى اختلافه الحقيقي كآخر، وإنما يدرسه ليؤكد فيه كل ما يثبت ويعيد إنتاج quot;مركزيتهquot; و quot;ذاتيتهquot;، مقابل إعادة إنتاج quot;هامشيةquot; الآخر. (7)
فالأنثربولوجيا هلى علم الإنسان الغربي بالنسبة لـ quot;ذاتهquot; أولاً، وعندما يدرس quot;الآخرquot; فهو يعيد إنتاج quot;ذاتهquot; هو، عبر إخضاع quot;الآخرquot; لمنهجيات العلوم الإنسانية التى تعتبر المحصلة التركيبية العليا والأخيرة، لتلك quot;الميتافيزيقاquot; ذاتها هى التى تقود الحداثة الغربية.
وإذا كانت البنيوية قد تسربت الى الفلسفة من باب العلوم الإنسانية، فإنها قد أثرت تأثيراً هاماً على الفلسفة وتمثل تأثيرها أساساً فى الاستغناء عن quot;فلسفة الذاتquot; أو فلسفة الكوجيطو كما صاغها quot;ديكارتquot; Descartes (1596-1650) ودشن بها الحداثة الغربية ومحاولة إقامة فلسفة ليس فيها للفاعل دور، ونلمس ذلك بوضوح عند quot;فوكوquot; و quot;دريداquot; تحديداً.
خاصة فى كتاب quot;الكلمات والأشياءquot; Les Mots et Les Choses الصادر عام 1966، حيث يحاول quot;فوكوquot; الكشف عن أنه في كل حقبة تاريخية معينة هناك خلفيات هى الأساس الذي تبني عليه المعرفة، والبحث عن مجمل هذه الخلفيات يشكل quot;القبلية التاريخيةquot; يترتب على ذلك أن هناك نظاماً خفياً وراء الظواهر هو الذي يشكل الشرط الحقيقي الذي بدونه لا يمكن ان يكون هناك خطاب حول الأشياء يعكس حقيقتها أو بالأحرى يعترف به كخطاب مطابق للحقيقة(8).
ويطبق quot;فوكوquot; مفهومه حول المعرفة أو الإبستمية - Episteme على (الحداثة) فإذا به يؤكد: quot; أن المهم ليس وجود كوفييه (البيولوجيا) وبوب Bopp (الألسنية) وريكاردو (الاقتصاد) فى مطلع القرن الماضي، ولكن المهم هو أنه قد حل استعداد معين للمعرفة حيث هناك في آن واحد تاريخية الاقتصاد... وتناهي الوجود البشري ونهاية للتاريخ فى الأفق (9).
وهكذا، يبدو أن أركيولوجيا المعرفة عند فوكو تستغني نهائياً عن quot;الذاتquot; لتستعيض عنها بالظروف التى تشكل الخلفية التاريخية، والسبب الحقيقي لكل معرفة.
والشئ نفسه مع quot;جاك دريداquot; الذي يستغني عن quot;الذاتquot; فى فلسفته إذ أنه يحاول أن يقوض نهائياً الفلسفة القائمة على quot;الذاتquot; كما ورثها الغرب عن quot;ديكارتquot;، وهو فى محاولته هذه يذهب أبعد مما ذهب إليه quot;فوكوquot; حيث يحاول أن ينسف المحور الرئيسي الذي بنيت عليه quot;الميتافيزيقاquot; وهو مركزية العقل، أى احتلال العقل والكلمة للنقطة الأساسية التى تجعل منهما المرجع الأخير لكل فلسفة بل لكل حقيقة.
ونقطة الإنطلاق عند quot;دريداquot; هي البحث عن مكانة جديدة للكلمة من أجل quot;إسقاطهاquot; عن مركزها المتسلط والمهيمن كأصل ومركز للغة. وحسب quot;دريداquot; فإنه: quot; قبل الحديث عن اختفاء الكلمة لا بد من التفكير فى وضع لها، لإخضاعها في بنية لا تعود فيها السيد المطلقquot;(10)
إن هذه البنية التى تسمح بانقلاب كامل ضد quot;الكلمةquot;، وبالتالى ضد quot;الميتافيزيقاquot;، يجدها دريدا فى مفهوم quot;الاختلافquot; Difference، أى في لعبة الاختلاف التى يسميها quot;الأثرquot; - La Trace، وهذا الأثر يشكل الشرط الأساسي لإمكانية تحلل جميع المدلولات التى تستمد وجودها من العقل (11).
هكذا نجد أنفسنا من خلال هذه (الرؤية للأشياء) أمام تلاشى كل رجوع الى الإنسان كفاعل ومحور للفكر أى تلاشى quot; فلسفة الذاتquot; لتحل مكانها البنية الأولية، بنية لعبة الاختلافات والفروق داخل اللغة.
والواقع أن هناك دلائل كثيرة تؤكد ما يذهب إليه دريدا، وتشير إلى غياب الإنسان بصفة خاصة، فلم يكن تخلى quot;الرواية الجديدةquot; عن الشخصيات مجرد مصادفة. (12)... وهو ما سنناقشه بالتفصيل في المقال القادم.
الهوامش
5- انظر الدراسة القيمة للأستاذ السيد يسين: الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادى والعشرين، فى جزأين، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 1996، والتى استفدنا منها كثيرا.
6-FERDINAND DESAUSSURE: Cours de linguistique generale، ed. Payot، Paris، 1971، P. 166.
7-Claude Levi-Strauss: Anthropologie structurale، ed Plon، Paris، 1958، P. 67.
8-Michel Foucault: Les Mots et Les choses، ed. Gallimard، Paris، 1966، P. 171.
9-Ibid: P. 274.
10- جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم: محمد علال سيناصر، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988، ص-107.
11-المرجع السابق: ص-33.
12-تيري إيجلتون: مقدمة فى نظرية الأدب، ترجمة: احمد حسان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سبتمبر 1991، ص-148.
التعليقات