هل يشكل العالم عند هيراقليطس، مكانا للذنب والظلم، أو للتناقض والعذاب؟.... يجيب نيتشه بحسم quot; أبدا quot;: ان هيراقليطس ينظر إلي العالم بعين الفنان أو بعين الطفل، وكما يلعب الفنان والطفل لعبهما البرئ، فكذلك يلعب العالم مع نفسه. وكذلك تلعب النار الحية الخالدة. فهي تتحول تارة إلي ماء، وتارة أخري إلي أرض، تبني وتهدم كما يبني الطفل قصورا من الرمال علي شاطئ البحر فيهدمها. لكن وراء هذا المهرجان البهيج الذي يتقلب عليه النور والظلام، اللعب والضرورة، الهدم والبناء، يكمن القانون والعدالة والنظام، أو ما يسميه في كلمة واحدة quot; اللوغوس quot;.
ان عبارة quot; كل شئ يجري quot; تعني أن لا شئ يبقي في مكانه، وأن الحياة تدعونا لكي نحياها، بل ان دينامية الحياة تدفعنا دفعا للتصرف حيال الواقع، لأن جوهر الواقع هو quot; فعل quot;، وهذا quot; الفعل quot; هو الكيفية الوحيدة لوجود هذا الجوهر، وهو أروع ما في الفلسفة الهيراقليطية علي مر العصور.
ان كل ما يتحرك يعيش، وكل ما يعيش يتحرك، فالسكون والراحة من صفات quot; الأموات quot;: quot; حتي السيسيون quot; ndash; نوع من السمك المقدس في أسرار إيلوزيس ndash; يتحلل إذا لم نحركه quot; (ش ndash; 125). بل: quot; ان الشمس ذاتها ليست فقط جديدة كل يوم، وإنما هي جديدة كل لحظة quot;. (ش ndash; 6).
بيد أن هيراقليطس لم ينكر quot; السكون quot;، أو يعتبره وهما خاطئا، وإنما رأي فيه حالة quot; نسبية quot; للأشياء، وهي فكرة عبر عنها بالنهر أيضا، الذي: quot; يرتاح عندما يتحول quot; (ش ndash; 84). هذه الشذرة تضئ (كل فلسفته) لأن مقولته الشهيرة: quot; كل شئ يجري quot; مرتبطة بالفكرة المناقضة لها: quot; فكرة السكون quot;.
ان الحركة والسكون من حيث هما ضدان، يفترض الواحد منهما الآخر (انهما واحد). وهما مثل كل الأضداد، يلغي الواحد منهما الآخر بشكل (نسبي) وليس بشكل مطلق.
وإذا كان كل شئ (يرتاح) وهو يتغير، ينتج عن ذلك أنه (يتغير في السكون). وإذا كانت الحركة تلغي السكون quot; النسبي quot;، فإن الأشياء تصبح غير ثابتة أبدا، وبالتالي غير محددة، أو قل انها منفتحة دوما علي امكانات متعددة ولا نهائية.
ان عبارة quot; كل شئ يجري quot; لا تفهم خارج الأشياء التي تظهر وتزول، أوخارج السكون النسبي والوجود المؤقت. وفي الوقت نفسه فإن quot; كل شئ يجري quot; أبدية وخالدة، وملازمة لكل شئ، وبهذا المعني فهي quot; مطلقة quot;.
والطابع الأزلي والخالد والمطلق لها، مشروط بالطابع المؤقت والزائل للأشياء العابرة. مما يعني أن الخالد يتضمن الزائل، وكل من المطلق والنسبي يفترضان بعضهما البعض، وهو ما عبر عنه هيراقليطس: quot; خالدون زائلون، زائلون خالدون، البعض يعيش موت الآخر، والآخرون يميتون حياة البعض quot; (ش ndash; 62).
ان الأضداد تتطابق عند هيراقليطس، وما بينها ليس مجرد quot; وحدة quot; فقط، وإنما هو أيضا quot; تماه quot;. ويعبر عن هذه الفكرة بصورة (محيط الدائرة) التي تتطابق بدايتها ونهايتها في أي نقطة منها. (ش ndash; 103).
ان وحدة الأضداد، وتطابقها، وتماهيها، ليست جامدة بالنسبة له - كما يشير نيتشه - بل هي متحركة ومتغيرة. ان quot; كل شئ يجريquot; تستجيب لانتقال كل ضد إلي الآخر، وبينما تفترض وحدة الأضداد التبادل فيما بينهما، يفترض التبادل وجودها. ولهذا بالتحديد يجب ألا تفهم كلمة تطابق الأضداد وتماهيها بالمعني المطلق، وإنما بالمعني النسبي، فإذا كانت الأضداد تتطابق بشكل مطلق، فكل شئ سيكون وحدة لا تجزأ ولا تفسخ فيها، وخالية من الاختلافات، مما سيلغي انتقال الواحد للآخر، والتبادل فيما بينهما.
فالوحدة (تطابق أو تماهي) عند هيراقليطس تعني فقط ان كل شئ ينتقل إلي ضده ضمن عملية quot; الصيرورة quot;. وهذا ما يجعل قوله مفهوما: quot; الشئ نفسه فينا: حيا وميتا، نائما ومستيقظا، شابا وعجوزا، فهذا الذي يتحول هو ذاك، وذاك يصبح هذا بتحوله quot; (ش ndash; 88)، إلي ما لا نهاية.
هنا بالتحديد تتبدي خطورة هيراقليطس وصعوبته في الوقت نفسه، كما تتضح أهمية دراسته في العالم العربي والإسلامي، خاصة وأننا درجنا إلي اعتماد مفاهيم ميتافيزيقية في تحديد العقل والهوية، وهي مفاهيم تعمل علي اعطاء هذا العقل وتلك الهوية quot; ماهية ثابتة quot; لا تتغير، بل هي ضد التغيير أساسا وغير قابله له، تفرض ذاتها منذ القدم وحتي اليوم وغدا، والمجال لا يتسع لأي عرض أو تحليل للأسباب أوالنماذج، التي تكشف عن اللاعلمية التي تميز هذه المحاولات الميتافيزيقية في عالمنا البائس!