عالج laquo;مونتسكيوraquo; - Montesquieu (1689 - 1755) موضوع laquo;المواطنةraquo; ومفهوم laquo;الوطنيةraquo; بالتفصيل في كتابه laquo;روح القوانينraquo; أو الشرائع - Esprit des Lois وسمى حب الوطن والمساواة بالفضيلة السياسية.(6)
إن مفهوم الوطن يقترن عنده بمفهوم المساواة، المساواة في الحقوق، والمساواة أمام القانون، أو قل laquo;المساواة السياسيةraquo;، ولذلك كان حب الوطن أو حب المساواة فضيلة سياسية. أي أن المساواة السياسية بهذا المعنى مقدمة لازمة وشرط ضروري للمساواة الاجتماعية.(7)
لقد جعل laquo;الوطنيةraquo; صفة للدولة وتحديد ذاتي لمواطنيها، وهي على الصعيد القانوني ترادف laquo;الجنسيةraquo; - Nationality، وحسب laquo;حنا أرندتraquo; فإن الجنسية هي laquo;الحق في أن يكون لك حقوقraquo; إذ أن جميع من يحملون جنسية دولة معينة هم مواطنوها، بغض النظر عن انتماءاتهم الأثنية أو اللغوية أو الثقافية أو الدينية أو المذهبية، وبصرف النظر عن اتجاهاتهم وميولهم الفكرية والأيديولوجية والسياسية.
ويمكن القول أن الوطنية هي التحديد الأخير لمواطن دولة ما، وهو تحديد لا ينفي أو يلغي عن هذا المواطن انتماءه الأثني أو اللغوي أو الديني أو المذهبي hellip; ولكنه ينفي أن يكون هذا الانتماء laquo;ما قبل الوطنيraquo; هو ما يحدد علاقته بالدولة، ويعين من ثم حقوقه التي هي واجبات الدولة، وواجباته بما هي حقوق الدولة وحقوق المجتمع.
غير أن هذه laquo;الدولةraquo; لم تعد منذ نهاية القرن العشرين - بفعل الضغوط المتزايدة والمتسارعة للعولمة - كيانًا يستنفر الخضوع والتضحية والحب، كما ذهب كل من روسو ومونتسكيو وكتيبة الفلاسفة الاجتماعيين، وإنما أصبحت مكانًا للتفاوض المستمر، حيث يقيس كل شخص بصورة حادة ودائمة ما يقدمه للدولة وما يحصل عليه منها.
هذا من جهة، من جهة أخرى، فقد أدى الضعف البنيوي للدولة، وعدم حمايتها لمواطنيها من فوضى العولمة، إلى اندفاع مجموعات ومناطق عديدة للتحرر منها بالهجرة والتدويل والانفصال، أو على الأقل التلويح بالتهديد بذلك. على أن أخطر ما في الأمر هو انتعاش الانتماء laquo;ما قبل الوطنيraquo; من جديد، والذي أصبح يهدد ما بقى من كيان الدولة الوطنية أو القومية الحديثة في الصميم، وتلك هي المرحلة الثالثة للمواطنة، والتي نحن شهودها اليوم.
laquo;فإذا كانت الدولة في شكلها الحديث قد ازدهرت في صورة الدولة الحامية، وفرضت نفسها بوصفها إطارًا للتضامن المؤسسي بين المواطنين: الأغنياء والفقراء، الأصحاء والمرضى، الفاعلين وغير الفاعلين إلخ، وبذا حلت محل أنواع التضامن التقليدي laquo;كالأسرةraquo;، فإن التدويل واندفاعاته الأساسية بفعل العولمة، وضع الدولة أمام معضلة شديدة التعقيد، إذ تطلبت حتمية المنافسة، التحلل من أعباء هذا التضامن ومحاباة بعض الفئات والمناطق المحظوظة من البلاد التي تتوافق مع آليات المنافسة: هكذا أثرت laquo;العولمةraquo; على مشروعية الدولة من أعلى ومن أسفل، فماذا يعني الاقتراع الشعبي (الانتخاب) اليوم، بعد أن سقطت الدولة في حمم القيود والقواعد الدوليةraquo; (8)
أضف إلي ذلك أنه في ظل اتجاه الفرد نحو العولمة والعالمية، يتم - في نفس اللحظة - الاتجاه الشديد نحو تحديد الهوية والشخصية. وبينما نجد حياة الفرد تتحول إلى العالمية، نجد الفرد ذاته يسعى جاهدًا لتعريف هويته وشخصيته بطريقة مفتعلة وأكثر حدة عن ذي قبل، وهو ما يعرف اليوم بظاهرة quot; تنامي الأصوليات الدينية quot;.
ففي نهاية القرن العشرين، شعر الأفراد والشعوب التي اجتثت جذورها - أو كادت - ولم تعد تجد في laquo;الدولة القوميةraquo; إطارًا لا ينازع للأمن والهوية، أنه لم يعد بمقدورهما الاستثمار في الأيديولوجيات التي تدعى أنها عالمية، أو الإيمان بأنها مصدر أساسي للتضامن والحماية في مواجهة تلاطم أمواج العولمةraquo;(9)
هكذا نجد أن مفهوم المواطنة، أصبح مفهوما إشكاليا من جديد، وان المواطنة بفعل العولمة تعيش حالة هشة، أو أنها quot; مواطنة في أزمة quot; (10). والأزمة هي الحالة التي تسبق الإنهيار أو العافية، ومن ثم فإن أزمة المواطنة يمكن أن تؤدي إلي انهيار الدول والمجتمعات، فتتقلص وتتراجع إلي أطر أو حدود الجماعة الإثنية والدينية، وإما ان تكتسب العافية فتتسع إلي نطاق انساني أرحب، خاصة وان العالم يسير في هذا الاتجاه. quot; فقد اخترقت العولمة مبدأ الإقليم كنطاق جغرافي وفضت الرابطة بين السلطة والمكان quot;، ولا مناص ndash; حسب علي ليلة - من أن تعمل الدول علي الارتقاء بحالة quot; المواطنة الديموقراطية quot;، واستكمالها وتهجينها بأفضل العناصر التي تتيحها العولمة، حتي لا تظل المواطنة باقية في حالة أزمة، أو أن تنهار quot;.
ويطرح بسراب نيكولسكو في كتابه quot; العبر مناهجية quot; رؤية مبتكرة للمواطنة في عصر العولمة، بالربط بين: quot;الأمةquot; Nation و quot;الطبيعةquot; Natura وquot;الجنسيةquot; Nationality، من خلال الجذر اللغوي المشترك بينها، ويقول: quot; إن الاعتراف بالأرض كوطن رحمي هو واحد من إلزامات العبر المناهجية.
إذ أن لكل كائن بشري الحق في جنسيته، لكنه في الوقت نفسه ( وفي عصر العولمة ) كائن عبر وطني quot;.
ويمكن للعبر وطني إزالة أسس التمييز المتمثلة في الأنانية القومية والدينية والطائفية، ومنع الحروب والاستغلال والاستعباد، وبالتالي منع انتهاك كرامة الكائن البشري.
الهوامش:
1 - عوض (لويس): ثورة الفكر في عصر النهضة الأوربية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1987، ص - 104.
2 - هويزنجا (يوهان): أعلام وأفكار، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، مراجعة: د. زكي نجيب محمود، الألف كتاب الثاني الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص ndash; 155 و156.
3 - المرجع نفسه ص-156.
4 - روسو (جان جاك): العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة: بولس غانم، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972، ص - 12.
5 - المرجع نفسه: ص 33و 36.
6 - مونتسيكو: روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، دار المعارف بمصر، 1953، المجلد الأول، الجزء الأول، ص - 6.
7 - المرجع نفسه: ص - 16، 17.
8 ndash; ديفارج (فيليب مورو): العولمة، ترجمة: كمال السيد، شركة الخدمات التعليمية (علي الشلقاني) بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة، مطابع الأهرام التجارية، 2001، ص 69.
9 ndash; المرجع نفسه، ص ndash; 96.
10 ndash; ليلة ( علي ): quot; المجتمع المدني العربي، قضايا المواطنة وحقوق الإنسان quot;، مكتبة الأنجلو المصرية 2007.