لا تتزامن نقاط التحول الحاسمة في التاريخ البشري مع السنوات التي تبدأ أرقامها بأصفار، وهو ما يخبرنا اياه quot;علم تاريخ الأفكارquot;، فقد بدأ القرن التاسع عشر مبكرا عن عام 1800 وبالتحديد مع الثورة الفرنسية عام 1789. وبدأ القرن العشرون متأخرا عن عام 1900، حيث بدأ فعليا مع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
أما القرن الحادي والعشرون فقد تعددت بداياته، بتعدد زوايا الرؤية والخلفية الإيديولوجية، وهناك من يقرنه بنهاية الحرب الباردة عام 1989، وآخر بالحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وثالث بالاحتجاجات الطلابية في أوروبا عام 1968.
الوحيد الذي قال بأن الألفية الثالثة بدأت بالفعل عام 1979، أي قبل ثلاثين سنة من الآن، هو quot; هنري كيسنجر quot; مستشار الأمن القومي الأمريكي، ووزير الخارجية الأشهر في مرحلة الحرب الباردة، فقد أعلن : أن الصراع في المستقبل سيكون بين الهويات والثقافات، خاصة بعد نجاح ثورة الإمام الخوميني في إيران، وصعود نجم المحافظين في انجلترا بزعامة مارجريت تاتشر أو المرأة الحديدية، وتحقيق السلام بين مصر واسرائيل بموجب معاهدة quot;كامب ديفيدquot;.
وبذلك يكون كيسنجر قد سبق quot; صامويل هنتنجتون quot; ومقاله عن quot; صدام الحضارات quot; المنشور في مجلة شؤون خارجية عام 1993، إلي التأكيد علي أن حروب المستقبل ستدار بين الثقافات والهويات،rlm; وليس بين الدول القوميةrlm;،rlm; وهو ما يعني الانتقال من الجغرافيا السياسية إلي الجغرافيا الثقافيةrlm;،rlm; والمثال الأبرزعلي ذلك هو استمرار حلف quot; الناتوrlm;quot;، رغم انتهاء الحرب الباردة، إذ أن عوامل الجغرافيا ـ الثقافية هي التي تبرر استمراره أكثر مما تبرره عوامل الجغرافيا ـ السياسيةrlm; اليوم.
المهم في كلام كيسنجر هو ربطه بين ثلاثة أحداث عالمية وإقليمية مهمة، لم يكن يبدو وقتها أن بينها روابط علي هذه الدرجة من الأهمية، كما لم يكن واضحا لأكثر العقول تنبها أنها ستتحكم في مصير منطقة الشرق الأوسط ومستقبله. وما يؤكد سبق كيسنجر وحنكته، أن الرؤية ( بعين واحدة ) للأحداث، فضلا عن غياب الربط بينها، لا تزال هي السائدة عندنا حتي اليوم، فأغلب الكتابات العربية عالجت نقديا الذكري الثلاثين لاتفاقية quot; كامب ديفيد quot; عام 1979، بمعزل عن نجاح ثورة الإمام الخوميني في إيران، وأفاضت في بيان ما لهذه الإتفاقية وما عليها، ولخص البعض في عناوينه ما حدث بكلمات دالة مثل : quot; ثلاثون عاما.. بإنتظار السلام! quot; للدكتور وحيد عبدالمجيد، لكن لا يوجد ndash; فيما أعرف ndash; من ربط في الذكري الثلاثين بين الإخفاقات المتتالية في العالم العربي وسياساته الخارجية، وبين التحول الجوهري في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، إلي الحد الذي جعل الدكتور أمير طاهري يعنون مقاله بهذه الكلمات الصادمة : quot; عندما يصبح أوباما مطية لإيران quot;.
فقد قام الرئيس الأمريكي أوباما في عيد النيروز بمبادرة تاريخية وخاطب المسؤولين الإيرانيين مباشرة وعرض عليهم تجاوز ثلاثين عاما من العلاقات العدائية. كان تعليق المرشد الأعلى في إيران آية الله علي خامنئي هو : علي الرئيس الأميركي أن يقرن أقواله بالأفعال.
ولم تتأخر quot; هيلاري كلينتون quot; وزيرة الخارجية الأمريكية في الرد، حيث أعلنت ان لإيران دورا مهما كبلد مجاور لأفغانستان، وأنها ستشارك في المؤتمر حول أفغانستان في 31 مارس الجاري في لاهاي. كما زار سفير إيراني مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسيل قبل أيام، وهي المرة الأولى منذ سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الاسلامية في إيران في ديسمبر عام 1979.
وهو ما يدفعنا إلي التساؤل : هل ما تزال نبوءة كيسنجر قابلة للتحقق بعد ثلاثين عاما؟ أم أن حركة الأحداث في الشرق الأوسط الكبير تتكسر عليها كل التوقعات، وتغير من مسار القرون؟