(2- 2)

استخدم quot; توماس مونزر quot; الشعارات المسيحية ليعلن برنامجا ثوريا ذا أهداف بعيدة وكان يحث الفلاحين علي أن يقيموا مملكة الله علي
الحلقة الأولى
الأرض، فكانت المهمة الرئيسية لحركته ثورة اقتصادية اجتماعية للفلاحين وفقراء المدن أكثر مما هي إصلاح للكنيسة وتعاليمها.
وإذا كان المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطي لم يعرف الثورة بالمعني الحديث، وذلك بسبب بنيته الخاصة، فإنه منذ ان ظهر هذا الشكل من التعبير السياسي لأول مرة، ظلت العقيدة الألفية ترافق الانفجارات الثورية وتعطيها روحها، وحين تنحسر هذه الروح وتهجر تلك الحركات، تخلف ورائها جنونا جماهيريا عاريا وغضبا بلا روح، علي حد قول كارل مانهايم.
ذلك لأن حركة العقيدة الألفية تعتبر الثورة quot; قيمة quot; في حد ذاتها، وليست وسيلة لابد منها من أجل غاية وضعها العقل. انها تعتبرها المبدأ الخلاق الوحيد في الحاضر المباشر، والتحقيق الذي طال الشوق إليه لمطامحها في العالم quot; (8)
فقد عاودت فكرة العقيدة الألفية، والعهد الألفي السعيد، في الظهور في القرن الثامن عشر مرة أخري، فالثورة الفرنسية عام 1789 سبقتها موجات من التوقعات والارهاصات ذات الصبغة الألفية السعيدة، بظهور جماعات النورانيين الصوفية، والجماعات السرية لأصحاب الاعتقاد في تجل جديد للروح القدس علي وشك الحدوث.
واستشهد هنري دولباك بجماعة النورانيين في مقاطعة أفينون بفرنسا، الذين أعلنوا في عام 1779 عن اقتراب quot; عهد جديد quot;، وأن العالم مقبل علي الأوقات الأخيرة من العهد الثالث quot;. (9)
هذا من ناحية، من ناحية أخري فإنه يمكن العثور في التاريخ علي نمط ثلاثي مشابه لما طرحه quot; يواكيم quot; خاصة (العهد الثالث الذي ستتحقق فيه المملكة الألفية) في الأفكار التي روج لها راهب فرنسي بندكتي معاصر يدعي quot; دوم ديشامب quot;، وأيضا quot; دو مايستر quot; وغيرهما.
ويبدو أن كتاب quot; يواكيم quot; قد تم حفظه وبقاؤه quot; عن طريق تراث جماعة النورانيين الذين تكتموا أسراره من جيل إلي جيل حتي تهيأ الزمان وآن الأوان quot; (10).
فقد تسربت أفكار quot; يواكيم quot; وتأويلاته في القرن الثامن عشر، حيث وجدت تخطيطات مماثلة ثلاثية التقسيم لمراحل الحضارة الإنسانية والتاريخ الإنساني، وفي القرن التاسع عشر وجدت التربة الخصبة لانتشار أفكاره. فقد عاودت المراحل الزمنية الثلاث التي قال بها يواكيم في الظهور في سلسلة تعاقب الأحقاب التاريخية عند quot; كوندرسية quot;، وفي إطار الأزمنة الثلاثة في المذهب الوضعي لدي quot; أوجست كونت quot; وفي العديد من التخطيطات ذات الطابع التطوري والارتقائي الخاص بالقرن التاسع عشر. (11)
بيد أن quot; ليسنج quot; كان أول من أشار إلي quot; يواكيم quot; صراحة وذكره بالإسم في كتابه quot; تربية الجنس البشري quot; عام 1780، وأول من حول هرطقة القرن الثالث عشر المدانة من قبل مجمع (لاتران) عام 1215 إلي رمز للأمل القادم في المستقبل.
كان ليسنج مؤمنا بأن عصر الإنجيل الجديد سيأتي، وهو عصر لا يحتاج إلي quot; عقائد quot; ولا أنبياء ولا طقوس ولا شعائر ولا كنائس أو معابد. إنه الإنجيل الأبدي الذي لا يتغير من عصر إلي عصر، الإنجيل الذي يقوم علي العقل وعلي إدراك الأمور البسيطة، أو حسب تعبير quot; اسبينوزا quot; : quot; الدين الشامل الذي تدرك مبادئه بالنور الفطري quot; (12)
لقد كانت محاولة quot; يواكيم quot; من أوائل المحاولات لإقامة فلسفة للتاريخ تقوم علي مراحل ثلاث، وفي المرحلة الثالثة تكتمل الإنسانية. وفي حين رأي أن هذه المرحلة quot; عهد الروح القدس quot; ستتحقق عام 1260، رأي quot; ليسنج quot; أنها تحققت بالفعل في القرن الثامن عشر (عصر فلسفة التنوير)، ورأي quot; هيجل quot; تحقيقها في القرن التاسع عشر (عصر المثالية المطلقة)، كما رآها quot; هوسرل quot; وقد تحققت في القرن العشرين (عصر الفينومينولوجيا) وهو عصر اكتمال الوعي الأوروبي، إذ أن كل فيلسوف يري أن الإنسانية قد اكتملت في العصر الذي عاش فيه quot; (13)
اليوم.. يستحضر أنصار ما بعد الحداثة نبوءة quot; يواكيم الفيوري quot;، ويطرحون تأويلا جديدا لأفكاره ورؤاه اليوتوبية للعهد الثالث، عهد استناره الكل في ديموقراطية عرفانية شاملة، في القرن الحادي والعشرين.
الهوامش:
8- كارل مانهايم: الإيديولوجيا واليوتوبيا.. مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة : د.محمد رجاء الديريني، شركة المكتبات الكويتية، الكويت 1981، ص ndash; 268.
9- Reeves. M amp; Gould. W : Joachim of Fiore and The Myth of Eternal Evangle in The Nineteenth Century , Oxford :Clarendon , 1987 , P. 43.
10- Ibid : p. 44.
11- تتناقض الأزمنة الثلاثة أو المراحل الثلاث للمذهب الوضعي عند quot; أوجست كونت quot;، مع رؤية quot; يواكيم الفيوري quot;، وإن تأثرت بالتقسيم الثلاثي لمراحل التاريخ عنده.
12- ليسنج : تربية الجنس البشري، ترجمة وتعليق وتقديم د.حسن حنفي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1977، ص : 289.
13- المرجع نفسه : ص ndash; 291.