لا يلغي قرار الرئيس الأمريكي تمديد العقوبات على شخصيات سورية من حقيقة وجود تقاربٍ أمريكي ملحوظ تُجاه سوريا، ولا يُعَدُّ تغيرا جوهريا؛ فهل دفعت سوريا ثمنا مقابل ذلك؛ أم أن أمريكا هي التي اضطرت إلى الرضوخ والتراجع؟
أمّا أن تمديد العقوبة لا يغير جوهريا من التوجهات الأمريكية الجديدة؛ فلِكَوْن تلك العقوبات مسلَّطة على بعض الشخصيات؛ ما يعني أنها لا تمثل السياسة الشاملة نحو النظام السوري. وهي عقوبات قليلة التأثير عمليا، وربما كانت الدلالة الرمزية هي الأقرب إليها؛ لتؤكد أمريكا أنها ليست راضية تماما عن سوريا، وأن العلاقات معها لن تصل في المدى القريب، على الأقل، إلى مستوى التحالف.
وليس أدل على حدوث ذاك التقارب من موافقة أمريكا على إعادة سفيرها إلى دمشق، وتخفيف العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وإشادة المبعوث الأمريكي جورج ميتشل بأهمية سوريا، ودورها في المنطقة.
أمّا لماذا لمْ يكن التقارب كليا؟ فلاعتبارات منها ما يتعلق بأمريكا؛ ومنها ما قد يعود إلى سوريا، فأمريكياً يحتاج إلغاء (قانون محاسبة سوريا) الذي أُقر عام 2004 إلى موافقة الكونغرس، كما أن واشنطن معنية بربط رفع العقوبات، وتطبيع كامل العلاقات باستحقاقات تراها مطلوبة من النظام السوري. وأما العائد إلى سوريا؛ فلعله الرغبة السورية في استبقاء شيء من الممانعة، والصمود؛ لتضمن تأثيرا ضروريا على حركة حماس والجهاد وحزب الله.
ويبقى السؤال: لماذا حدث هذا التقارب في هذا التوقيت؟
هل دفعت سوريا الثمن؟ أم أن أمريكا بعد تورطها في العراق، اضطرت إلى التراجع؟
قد يكون هذا وذاك، معا، ولكن دون مبالغة في قصة الرضوخ الأمريكي لسوريا وما كان يسمى بمحور الممانعة.
فتراجع أمريكا لا يُنكر، وربما اكتفينا بالإشارة إلى التحول الذي اضطرت إليه بعد (تقرير بيكر- هاملتون)، كانون الأول (ديسمبر) 2006، الذي أوصى بالتعاون مع دول جوار العراق؛ إِثْر تحقق التورط الأمريكي فيه. وقد كان المطلب الأهم الذي تلح عليه الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بسوريا، هو أن تعمل الأخيرة بجدية على ضبط حدودها لمنع المقاتلين من التسلل إلى العراق.
وهذا ما تحقق فعلا؛ وقد أشادت أمريكا في فبراير 2006على لسان الليفتنانت كولونيل رايلي بالجهود السورية في هذا المجال؛ إذ قال quot;إن شرطة الحدود السورية تعمل جاهدة على إحكام سيطرتها على الحدود، مؤكدا أنها أكثر عنفا وتشددا وتطلق النار على كل من يحاول العبور متسللا. [الشرق الأوسط 12 فبراير 2006]
وبعد ذلك لم نعد نسمع اتهامات أمريكية لسوريا في موضوع ضبط الحدود.
والتعاون الأمريكي السوري، والإيراني في هذا الشأن معلن، ولا يَعُوقُه عائق.
وعلاقات سوريا الديبلوماسية مع الحكومة العراقية، كذلك قائمة؛ الأمر الذي يصب في إنجاح الجهود الأمريكية في استقرار العراق الجديد...
على الساحة اللبنانية:
تساوقت سوريا مع التوجهات الدولية والأمريكية والإقليمية فيما يتعلق بلبنان، إذ وافقت على الخروج من لبنان، في نيسان (أبريل) 2005، ثم وافقت على تبادل السفراء بين البلدين في أيار (مايو)- 2009، وقد انضمت إلى الجهود الدولية التي دعمت اتفاق الدوحة أيار (مايو) 2008.
وبالمناسبة فإن الدور السوري في لبنان ظل يحظى بالاعتراف الأمريكي، وليس أدل على ذلك من دورها في اتفاق الطائف، (1989) وقد كان للسفير الأمريكي ريتشارد ميرفي تواصل لا يكاد ينقطع مع الرئيس حافظ الأسد للتنسيق معه في الشأن اللبناني، ومن ذلك على سبيل المثال أنه في عام 1988 أجرى مفاوضات مكثفة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حول مبادرة أميركية سورية لإيجاد مرشح مقبول من الجانبين في الرئاسة اللبنانية، وعقد مع الأسد ما عرف باتفاقية quot;ميرفي-الأسدquot;، وتعتبر هذه المرحلة من أشد المراحل أهمية في تاريخ العلاقة بين البلدين.
ولم يكن التعاون في الشأن اللبناني حصرا، بل تعداه إلى شؤون المنطقة العربية بعامة، ومن ذلك المشاركة السورية في حرب الخليج التي عرفت بعاصفة الصحراء، كانون الثاني(يناير) 1991.
وما زالت تساؤلاتٌ تراود المتابعين عن السبب في إغلاق ملف التحقيق في اغتيال المسؤول العسكري في quot;حزب اللهquot; عماد مغنية، أو عدم الإعلان عن النتائج؛ علما أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم كان أعلن، حينها، أن أجهزة الأمن السورية ستعلن قريبا وبالدليل القاطع عن الجهة التي تقف خلف اغتيال مغنية، مؤكدا أنهم سيثبتون بالدليل القاطع الجهة التي تقف خلف الجريمة.
واستغرابٌ أكبر عن موقف حزب الله من ذلك؛ إذ لم يَصْدر منه موقف يطالب بمواصلة التحقيق، والكشف عن القتلة، أو الجهة التي تقف وراءهم!
وعلى الساحة الفلسطينية:
تريد أمريكا من سوريا التوقف عن دعم حركة حماس والجهاد، والامتناع عن إيواء قياداتهما في دمشق، ولا تمانع واشنطن في أن توظف سوريا نفوذها في إقناع الحركتين ومَنْ سلك مسلكهما بتأييد الجهود الرامية إلى تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني؛ فهل حققت سوريا شيئا في هذا الاتجاه؟
بالرغم من كون إدارة أوباما لا تعتبر جهود الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر معبرة عن السياسة الرسمية، ولكنها لن تكون منزعجة بأي تقدم تحرزه. وكارتر ما انفك يتخذ من العاصمة السورية دمشق مقرا لتلك الجهود التي لا تتم دون تسهيلات ودعم سوري مع قيادة حماس.
ولا يحتاج المتابع إلى دقيقِ نَظَر ليرى التطور الملحوظ في موقف حماس من العملية السلمية، وأما حركة الجهاد، فلا تقوى وحدها، على عرقلة تلك العملية،
وقد حققت حماس تقدما كبيرا في مواقفها بالقياس إلى الحدود ( الإسلامية) التي يتعذر عليها تجاوزها، وهذا التطور في موقف الحركة لا يُنكر؛ فقد أكده وزير الخارجية الروسي ألكسندر سلطانوف لصحيفة هآرتس الإسرائيلية في زيارته الأخيرة لإسرائيل، ولاحظه الرئيس المصري حسني مبارك في حديث له مع صحيفة quot;يديعوت أحرنوتquot; ووصفه بـquot;التطور الإيجابيquot;. كما أقر به الرئيس الفلسطيني أبو مازن؛ إذ قال في حوار مع مجلة quot;أكتوبرquot; الأسبوعية المصرية: quot;إن مشعل quot;اقتنع بأن المواقف المعتدلة هي السبيل الوحيد للوصول إلى حلولquot;. وزاد عباس quot;حماس لا ترفض السلام، وخطاب مشعل الأخير كان معتدلاquot;.)
وعلى صعيد عمل حماس المقاوِم فإنها عمليا توقف المقاومة، منذ الحرب الأخيرة على غزة، أواخر 2008. وقد نقلت وسائل إعلام عبرية عن وزير الجيش الإسرائيلي إيهود باراك، القول: quot;إن حركة حماس تسعى لمنع الجهات الفلسطينية الأكثر تطرفا من الإخلال بالهدوءquot;.
ما مصالح أمريكا من انفتاحها على سوريا؟
لعل أقرب الفوائد التي تجنيها أمريكا من انفتاحها على سوريا أنها تتمكن من لعب دور أكبر، مباشر ومؤثر في تحقيق سلام بين سوريا وإسرائيل؛ الأمر الذي سيؤدي إلى إبراز دورها كقوة سلام واستقرار في المنطقة، بعد بروزها كقوة حرب ودمار في الفترة السابقة.
وهي تدرك أن الطرفين السوري والإسرائيلي لن يستطيعا التوصل إلى اتفاق سلام دون قيادة أمريكية.
وهذا النجاح، أو الأجواء، والظروف المصاحبة لعملية التفاوض قد تسهم في تقريب سوريا من دول عربية منخرطة، أو مؤيدة للعملية السلمية، وأهمها مصر والسعودية، في الوقت الذي قد يغير من طبيعة علاقة سوريا بإيران، كما يرى البعض- من علاقة الحليف الكلي، إلى الصداقة، على غرار علاقة تركيا بإيران، وهذا الانخراط السوري- المدعوم أمريكيا- في عملية التفاوض، من شأنه أن يؤثر على المناخ العام في المنطقة، وعلى إيران؛ ما يعزز من القوى المعارضة للنهج الإيراني الحالي الذي يولي أهمية كبيرة للشؤون الخارجية والعربية. علما أن إيران خامنئي ونجاد تعلن أنها لن تعارض أي اتفاق سلام يتوصل إليه الفلسطينيون مع إسرائيل.
[email protected]