ليس الهدف من هذا المقال الإثارة العاطفية، ولكن إثارة الأسئلة القديمة المتجددة عن طبيعة إيران؛ هل هي دولة تسعى لتحقيق أهدافها القومية، والقطرية؛ بلغة المصالح، والآليات البراغماتية؟ أم هي دولة ذات وظيفة رسالية، وهموم إسلامية تتصدى للمطامع الغربية، والمخططات الصهيونية؟
وفي البدء يلزم أن نشير إلى أن إيران تملك رؤية خاصة، وطموحا لدور إقليمي تسير نحوه بخطى حثيثة، ومساع جادة؛ ما يجعلها تحرص على بِنْية علمية، وتقنية عسكرية، هي الأكثر حضورا، ولكنها في المجال الاقتصادي الداخلي، والاجتماعي، والحقوقي، لا تختلف جوهريا عن دول المنطقة. وتكفي الاحتجاجاتُ الأخيرة التي شهدتها quot;الجمهورية الإسلاميةquot; دليلا ملموسا على درجات الامتعاض التي أعلنها شطرُ الشعب الإيراني، أو يزيد، وتلك الأسباب الاقتصادية والاجتماعية كانت المحرِّضَ الأكبر، بل، إنها كانت السببَ الأوَّلي في الالتفاف حول quot;الإصلاحيينquot; بقيادة مير حسين موسوي. وهي أسباب ظلت الفاعلةَ، و الجاذبة، والطاغية، على المشروع النووي الذي يتقاطع عليه المحافظون والإصلاحيون؛ وهذا إن دل، فإنما يدل على عمق تلك الأسباب، وديمومتها.
أما أن إيران دولة تحمل الهم الإسلامي، وقضايا عالمه، في وجه محاولات الهيمنة الغربية، -ولست متأكدا إن كان ثمة، فعلا، من يَثْبُت على هذه الدعوى!- فذلك، ما لا تقوله إيران فعلا، اليوم، وإن كانت أكثرت منه في بدايات ثورتها quot;الإسلاميةquot; من شعارات quot;الشيطان الأكبرquot; وquot; دول الاستكبار العالميquot;. أما هذه الأيام فهي منهمكة في توطيد نفوذها الإقليمي، وتَصْدُر عنها بين الحين والآخر زفرات تعبر عن طموحاتها القومية الفارسية،وخذ مثالا على ذاك تصريح علي أكبر ناطق نوري، أحد كبار مستشاري المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي:quot; أن البحرين تخضع للسيادة الإيرانيةquot;.

وليس بعيدا عنَّا الضجة والاحتجاجات التي وجهتها جهات إيرانية بسبب تصريحات لخالد مشعل أطلق فيها على الخليج العربي هذا الاسم، مطالبين بأن يسميه quot;الخليج الفارسيquot;، وقد قال الكاتب والمحلل الإيراني البارز quot;حسن هاشميانquot; حينها: quot;إن لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني ناقشت الأمر واعتبرت خطأ مشعل quot;لا يغتفرquot;، وطالبت باعتذارهquot;.. ولم يطالبوا بأن يُسمَّى بالخليج الإسلامي، مثلا! فـ quot;الفارسيِّةquot; هي مركز تنبههم، وهي مبعث احتجاجاتهم.
وعلى عجالة، وللتذكير فقط، نذكر بعض السوابق الإيرانية الدالة على إعلائها لمصالحها، ولو قارفت ما تصنفه في الخيانات، أو المواقف الانتهازية.
- فضيحة إيران كونترا، أو إيران غيت، التي عقدت بموجبها إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان اتفاقا مع إيران؛ لتزويدها بالأسلحة أثناء الحرب على العراق؛ لقاء إطلاق سراح بعض الأمريكان الذين كانوا محتجزين في لبنان، وقد عقد الاتفاق جورج بوش الأب، عندما كان نائبا لريغان، لدى اجتماعه برئيس الوزراء الإيراني، أبو الحسن بني صدر في باريس بحضور مندوب quot;الموسادquot; آري بن ميناشيا الذي كان له دور في نقل تلك الأسلحة من إسرائيل إلى إيران.
- موقف إيران الذي تفاخرت به في دعم أمريكا في قضائها على طالبان في أفغانستان. فقد نقلت جريدة الشرق الأوسط في 9/2/2002م عن رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام و الرئيس الإيراني السابق ؛ علي أكبر هاشم رفسنجاني قوله في يوم 8 فبراير في خطبته بجامعة طهران: quot; إنّ القوات الإيرانية قاتلت طالبان، وساهمت في دحرها، وأنّه لو لم تُساعد قوّاتهم في قتال طالبان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني. وتابع قائلاً: يجب على أمريكا أن تعلم أنّه لولا الجيش الإيراني الشعبيّ ما استطاعت أمريكا أنْ تُسْقط طالبان.quot;
- موقف إيران من السلام مع إسرائيل: صرح المرشد الأعلى، وهو الأكثر نفوذا، والحاكم الفعلي في إيران، هو ومسؤولون إيرانيون أنهم لن يعارضوا أي اتفاق يبرمه الفلسطينيون مع إسرائيل.
والمرشد الأعلى، صرح مرارا وتَكرارا أن هدف إيران ليس التدمير العسكري للدولة اليهودية ولا للشعب اليهودي، بل إلحاق الهزيمة بالعقيدة الصهيونية، وحل إسرائيل عبر استفتاء شعبي، يشارك فيه الفلسطينيون الأصليون المسلمون واليهود والمسيحيون، ومنها خطاب خامنئي أمام مسؤولي الهيئة القضائية، 28 حزيران 2005م.

وبغض النظر عن واقعية هذا الطرح المتعلق بحل إسرائيل، فإن تلك المواقف تبقى منطوية على معان قد يُختلف في دلالتها على اعتراف إيران بإسرائيل، ولكنها تدل على افتقار طهران إلى نوايا جدية تفضي إلى تدمير إسرائيل.
الغريب أنك حين تتحدث عن براغماتية إيران وسعيها وراء مصالحها بذكاء، ونجاحها في ذلك، ولو كلفها ذلك الانخراط في أعمال وسياسات أقل ما توصف به أنها غير شريفة، ولا ثورية؛ فإنك تسمع القول بأن تلك نقاط لصالحها، ودليلا على تميزها، ... ولكنك تُفاجأ بالخطاب الازدواجي، وقت اللزوم؛ يصور إيران في صورة الدولة الممانعة، والمناصرة للقضايا العربية، والإسلامية، كقضية فلسطين، ولبنان.
والأصل أن يتمسك الباحث عن الحقيقة بما أصَّله عن هذه الدولة، واستراتيجيتها في المنطقة؛ ليفهم الأعمال والمواقف الصادرة عن إيران في ضوئها؛ لا أن ينسف تلك القواعد، لمجرد خطوة، أو موقف، أو حتى تصريح لفظي.
وعلى ذلك يفهم الدعم الذي قدمته إيران وتقدمه لحزب الله، وكذلك الدعم الذي تقدمه لحماس والجهاد في فلسطين؛ إنما هو لامتلاك أوراق تمكنها من تسلُّم دور شرطي المنطقة، دون أن تصطدم، أو تصادم الولايات المتحدة المشرف الأكبر على توزيع الأدوار في المنطقة.
ومناسبة هذا الحديث أن ثمة من يستخدم ما يحدث في إيران من اضطرابات، أو تفجيرات بأنه دلالة على استهداف أمريكي لها؛ مُلبِّسا في ذلك، على كثير من الناس؛ باستخدام الخطاب الإسلامي، وكأن إيران تحمل لواء الدفاع عن العالم الإسلامي، وتدفع ثمن ذلك!
وفي الأخير إن هذا التذكير بواقع إيران وشيء من ماضيها لا يعني بالضرورة، كما يخادع البعض، استدعاء quot;النقيضquot; إيجابا، ومنْ قال إن إيران النقيضة لإسرائيل؟!
[email protected]