كُتب الكثير عن هذا المسلسل الذي يعرض للسنة الرابعة على التوالي، ولم يكن هذا ليحدث لولا النجاح الكبير الذي حققه، إذا كان النجاح يتحدد بعدد المشاهدين، ومقدار الشغف؛ إذ كادت الشوارع في كثير من المدن العربية تخلو وقت عرضه من الناس، وهذا ما يدعو إلى النظر؛ للكشف عن الحالة الفكرية والنفسية للجماهير العربية.
قد يسارع البعض إلى الظن أنه دلالةُ التعطش إلى الماضي والمأثور من العادات الاجتماعية التي تآكلت بفعل التمدن وإيقاع الحياة السريع، ولكن هذا الاستنتاج قد لا ينسحب على إطلاقه؛ إذ سبق لمسلسلات هي على النقيض من quot;باب الحارةquot; أن استحوذت على قدر عال من المشاهدة، وأحدثت جدلا، ربما لا يقل عما أحدثه المذكور، كالمسلسلات التركية، ومن قبلها المكسيكية. وهي منتزعة من بيئة مغايرة للبيئة العربية، والشامية، على وجه الخصوص.
وهذا quot;النجاحquot; للمسلسل ونقيضه يؤكد حالة التناقض والاختلاط الفكري والوجداني الذي يطبع العرب اليوم، ولكنها تشترك في العزف على المشاعر المفتقدة، والحالات العاطفية غير المتحققة غالبا.

الفنُّ مرآة:
تعكس الأعمال الفنية، عموما المستوى الفكري للأمم والشعوب، كما تشي بحالاتها الوجدانية، هذا في الأعم الأغلب، ولا تخرج عنه الأعمال الخفيفة التي تستهدف التسلية؛ إذ لكل شعب خصائصه النفسية التي تسهم في تكوين ذائقته، فترى نكتة تثير الضحك في شعب، ولا تحدث ذلك في آخر.
واستطرادا، تتطلب الاستجابة للطُّرْفة معرفةً بثقافة البيئة التي أنتجتها، ومن ذلك ما يُروى عن شيخ من شيوخ الأزهر، وقد سئل عن آخر، وقد كان نائما؛ فقال:quot; الفتنة نائمة لعن الله من أيقظهاquot; فمثل هذا الموقف لا يثير الضحك فيمن لا يعلم معنى العبارة المذكورة ودلالتها الاجتماعية التي تُجاوِز الدلالة الحرفية.
ومن هنا حظي هذا المسلسل بقدر من التفاعل الجماهيري، كونه يلامس تفكير الناس، ويتواطأ مع مستواهم الثقافي، ويحاكي أساليبهم.

وهو في الوقت نفسه لا يتعبهم، ولا يثير فيهم الأسئلة، ولا يُجشِّمهم أعباءً فكرية تثقل عليهم متعة المشاهدة، أما البطولات والعنتريات فهي بيت القصيد وحجر الزاوية؛ إذ يكاد الصراع يُختزل فيها؛ فهي أداته التي لا تخيب! وقد كان الأَوْلى، وقد تقاطعت أحداث المسلسل مع مرحلة تاريخية في حياة سوريا السياسية أن تكتمل تلك الصورة بالحراك السياسي الذي رافقها...
وربما لا يجادل الكثيرون في أن quot;باب الحارةquot; لم يغادر هدف التسلية والترويح، وإِنْ تلبَّس بقالب جِدِّي، ومضامين وطنية وقومية، أسقط فيها هذا العمل الدرامي أبعادا واضحة على الراهن الفلسطيني والعربي، من خلال استحضار حصار غزة، عن طريق الحصار الذي ضُرب على quot;حارة الضبعquot;.وربما استُدعي الاستيطان وقضم الأرض والسيطرة على البيوت من خلال شخصية quot;مأمونquot; وأفعاله ومآربه المُريبة.
لكننا لا نبالغ إن قلنا إن هذا الإسقاط السياسي لم يعدُ كونَه ذريعةً فنية، إذ لم يتم تناولُه على النحو الفني الرفيع، كما حدث في مسلسل quot; التغريبة الفلسطينيةquot; مثلا، للكاتب الفلسطيني وليد سيف والمخرج السوري حاتم علي. طبعا هنا نحن لا نقارنه به من حيث القصة والمضمون، ولكن من حيث المعالجة الفنية.
أما لو قابلنا quot; باب الحارةquot; بـquot;التغريبةquot; من حيث المضمون فالصورة تزيد جلاء؛ ففي الأخير ثمة قصة متماسكة تتكىء على الأحداث والوقائع التاريخية التي عاشتها القضية الفلسطينية منذ الانتداب، وحتى هزيمة 67م وبعض تداعياتها.
وربما أكدت هذه المقابلة بين هذين المسلسلين حقيقة أن خلود الأعمال الأدبية والفنية مفتقر بالضرورة إلى انطوائها على مضامين وقضايا مهمة، إنسانية، أو أممية، أو قومية، أو وطنية.
فكما أن القصيدة، لا تخلد إلا بأن تكون مشحونة بالمعنى، على رأي الناقد إزرا باوند، وكما أن الرواية تحتاج إلى بعد معرفي فكذلك الأعمال الدرامية، وهي المستمدة من نص مكتوب، لا بد لها حتى تبقى في الذاكرة، من التمحور حول قضية تشكل العمود الفقري لهذا البناء الفني؛ فتتماسك خيوطُه، وتسهم كل جزئية في توهجه الكلي، وتطوره، وهذا ما فقدناه في مواضع لا بأس بها من حوارات هذا المسلسل الذي أصبح مشحونا بالتكرار، والاجترار، ومَلْء الفراغ بما يتيسر من الكلام، وكان بعض ممثليه قد صرح بأنهم كثيرا ما كانوا يرتجلون الحوار قبيل التصوير، وأن كثيرا من الثغرات كانت تشوبه!
وإذا كانت هذه الوضعية المتعلقة بالذائقة والثقافة مما يؤكد أزمة النخبة المثقفة، وعجزها عن الارتقاء بالمستوى الثقافي والمعرفي بالجماهير فإن قسما من المسؤولية يتحملها كُتَّاب تلك الأعمال الدرامية التي طمست- لدى الكثيرين- عادة القراءة؛ فلا أقل من أن تُتخذ جسرا وفعالية ناجحة في الترقي بالعقل العربي، والوصول من خلالها إلى الفئات الواسعة التي لا يصلها الكتاب.
[email protected]