الموقف الإقليمي يُفهم في ضَوْء الدولي, والأمريكي تحديدا، حتى لو تحقق تفوق قوى إقليمية على حساب أخرى؛ فهي ما زالت دون الانعتاق من التأثير الخارجي.

والموقف الأمريكي يتسم منذ أوباما بالسعي للتخفف من الأعباء التي أرهقت أمريكا، ومن الأزمات التي باتت تؤثر على هيبة الدولة العظمى، وتشكك في قدراتها على قيادة العالم، واحتواء مشكلاته.

الأزمات الإقليمية لم تفلح واشنطن في توفير حلول حقيقية لها، وقصارى ما فعلته، أو أقرته حلولٌ تسكينية، أو استرضائية، لا تَنْفَذ إلى جوهر العلة. خذ على ذلك مثلا، العراق، وفلسطين، ولبنان، وحتى الآن, إيران.

العراق ما زالت النار فيه تحت الرماد، وحتى فوقه، وما زالت مكوناته الشعبية، وحتى الحكومية- كما صرح وزير خارجيته، هوشير زيباري في لقاء مع إيلاف- غير متوافقة، بالرغم من توفر استهداف خارجي يدعو إلى التوحد؛ ما يسبب، بحسب الوزير، ضعفا في الموقف العراقي العام.

وهذا الوضع العراقي الذي انكشف بعد الانسحاب الأمريكي من المدن العراقية، يضع علامات استفهام كبرى عن دور الاحتلال الذي يتحمل المسؤولية القانونية عما يجري، مع الأطراف العراقية التي تشاركه تلك المسؤولية بحكم تسلمها مهام سياسية واضحة.

وفي فلسطين، ترواح المساعي الأمريكية مكانها، مع تكرار الزيارات التي يقوم بها المبعوث جورج ميتشل؛ إذ ما زالت حكومة نتنياهو مصرة على الاستيطان، على الأقل في القدس، وما زال الموقف الفلسطيني الرسمي يرفض العودة إلى المفاوضات؛ إذا لم يتوقف الاستيطان. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية لا تمارس ضغوطا قوية على الحكومة الإسرائيلية؛ إلا أن الأخيرة لا تستطيع تجاهل أزمتها السياسية, وحراجة موقفها، على مستوى الرأي العام العالمي، وعلى مستواها الشعبي، وهي لذلك تجد بُغْيتها في مشروع إيران النووي؛ فتمزج بين خوفها على أمنها، وبين رغبتها في صرف الأنظار عن أزمتها السياسية، وتنصلها من quot;استحقاقات السلامquot;.

وفي لبنان تتواصل أزمة تشكيل الحكومة؛ ليَظْهر أن اتفاق الدوحة قد كان حلا مرحليا نجح في تجاوز حالة الاحتقان الشديد، ولكنه، ومِنْ قَبْلِه اتفاقُ الطائف، لم يفلح في الصمود أمام التلاعب بالبِنْية الطائفية التي رُكِّب لبنان عليها. وليُظهر هذا الوضع اللبناني الفريد أن الانتخابات ومخرجاتها، تبقى قابلة للتعطيل العملي؛ في ظل وضع إقليمي غير متبلور, أو محسوم. وفي هذه الأثناء الحرجة تبدر إشارات على تسخين عسكري مع إسرائيل؛ فهل لها ارتباط، في هذا التوقيت، بالأزمة الداخلية المستعصية؟

وفي طهران يزداد الموقف الإيراني تصلبا من موضوع التفاوض على مشروعها النووي، دون أن ينفك ذلك عن تأزمها الداخلي الذي ما زالت تداعياته مستمرة؛ فهي لذلك، كما يرى الكثيرون، في أمس الحاجة إلى جَبْر ذلك الانقسام بمواجهةٍ خارجية، يتفق جميع الفرقاء على ضرورة المضي فيها إلى النهاية؛ إذ الإصلاحيون والمحافظون على وفاق بشأن حق بلدهم في امتلاك الطاقة النووية.

انعكاسات اللاحَسْم، سياسيا وشعبيا:

هذه الحالة المائعة، وغير المحسومة التي تعيشها كثير من دول المنطقة، مثلما تعكس أبعادا سياسية دولية؛ فإنها تشير إلى أخرى محلية, وتترك مساحة لمعاناة أبناء تلك الأوطان، على الصعيد الاجتماعي, واليومي, لا تخفى.
وهي في نفس الوقت تنطوي على خطورة مصدرها استياء جهات من اقتراب من مكتسباتها، أو تخوفها من تشكيلٍ, أو صياغةٍ جديدة، لا ترتضيها.

أما الأبعاد الدولية فتتمثل في ارتخاء القبضة الأمريكية؛ إذ بالرغم من كون أمريكا ما زالت القوة الأولى عالميا, دون أن ترتقي قوة، من مثل روسيا, أو الصين، أو حتى الاتحاد الأوروبي الذي لا يتوفر على سياسية خارجية موحدة... إلى مستوى النِّد لها، بالرغم من ذلك فإن السياسة الهوجاء التي انخرط فيها بوش الابن وفريقُه من المحافظين الجدد لا زالت الإدارة الأمريكية الحالية تحاول تدارك نتائجها؛ فضلا عن مشكلات أخرى تنجم عن أعباء دورها العالمي ودخولها في منافسة مع قوى عالمية، لا يستهان بها, وكذلك مع قوى إقليمية أسعدها تورطُ أمريكا في حربين متزامنتين، في العراق وأفغانستان؛ لتبتزها سياسيا، على دور تريده، أو حصص تتمناها.

أما الآثار المحلية على عموم الناس في بلدان المنطقة المأزومة فهي الأكثر ظهورا، ولعلها الأكثر إيلاما؛ ففي حالات الترقب والتوجس لا نتوقع إنجازاتٍ اقتصاديةً, ولا توافقا اجتماعيا, ولا حتى حالة نفسية ومزاجية سوية؛ فلك أن تتصور الحالة النفسية للّبناني الذي ينسحق مع كل خيبة أمل تصيبه، ليظل مستقبله, ومستقبل أبنائه رهنا بأمزجة السياسيين وحساباتهم التي لا تقدم ولا تؤخر كثيرا في مصير لبنان البلد, أو الوطن.

وفي فلسطين لك أن تتصور, كذلك، الحالة الشعورية التي أنجبتها حالة الانقسام؛ ولعل من أخطرها تبلدَ الشعور الوطني، إلى درجة الذهول عما يُنفَّذ من مخططات إسرائيلية خطيرة، تتسارع على نحو غير مسبوق؛ مستغلة هذه الحالة الفلسطينية غير المسبوقة أيضا.

وهنا نحن لا نعفي طرفا من المسؤولية, ولا نبرِّىء أحدا من الدخول في الأزمة؛ فالمشروع التفاوضي يمر في أزمة يُجلِّيها موقفُ اليمين الإسرائيلي المدعوم شعبيا. والمشروع المعوِّل على الاحتفاظ بحكومة محاصرة, يمر في أزمة، يؤكدها حدٌ يرسمه التباينُ بين من يميل إلى quot;الواقعية السياسيةquot; ومن يميل إلى quot;الأصوليةquot; في المواقف السياسية والاجتماعية.

هذه البِنْية السياسية السطحية تعكس حالة البنية الفكرية والوجدانية العميقة؛ إذ ما زالت المنطقة العربية تعيش حالة صراع بين مكوناتها الأولية، ولم تصل قوة من تلك القوى الفكرية المتباينة إلى درجة القدرة على حسم الشارع لصالحها، أو قيادة الناس بمشروعها، وقد كانت تلك المكوناتُ قبل بضعة عقود كامنةً هادئة، ولكنها اليوم تنبهت؛ فبتنا في أمس الحاجة، على تبايناتنا، إلى آلية إنسانية راقية تَبْقى محترمة ومصونة، على اختلافاتنا, وتضارب مصالحنا.

وقد يظن البعض في هذا القول حالة طوباوية رومانسية حالمة، ولكن في المقابل، هل الواقعية أن يتهتَّك النسيج الاجتماعي، وتنعدم معاني الاجتماع الإنساني، ونمضي بالخلاف إلى منتهاه؛ فنُخْرِج المجتمعات من حالة السلم الأهلي إلى الصراعات, أو النزاعات المسلحة؟! فلا بد برغم الخلاف من قواسم وحدود لا نتجاوزها، حتى تستطيع هذه المنطقة الخروج بصيغة تحتاج حتى تتبلور وتنضج إلى وقت قد لا يكون قصيرا.
[email protected]