إيلاف من الكويت: بين القرنين السابع والسابع عشر قدمت أبحاث المسلمين نحو ألف اختراع أثرت في البشرية.. من باب الساعات في جامع دمشق إلى رياضيات الخوارزمي.. ومن روبوت بديع الزمان الجزري إلى آلة الطيران.. ومن خريطة الإدريسي إلى جداول الزيج ونظرية انكسار الضوء.. وغيرها المئات من الابتكارات التي تؤكد أن تاريخنًا لم يفتقر إلى العلم والعلماء، وأن عصور الظلام التي تحدثت عنها أوروبا كانت هي عصور النور والمعرفة على الحضارة الإسلامية.
وفي كل ذلك أدت اللغة العربية دورًا محوريًا، ذلك لأن الحضارة بمكوناتها المعرفية والأخلاقية لا تتشكل إلا عبر منظار اللغة.
ثم كان عصر المعلومات والتكنولوجيا الرقمية.. فيضع العرب والعربية في مهب التحديات الكبرى.. تتسارع الابتكارات الغربية دون أن تمهر إحداها بتوقيع عربي.. ودون أن نشارك في صناعة المحتوى.. ذلك لأن الحاسوب.. لا يعرف العربية!
أصبحت الحاجة ملحة لمشروع حضاري نهضوي عربي لا يستقيم سوى بمبادرات حكومية شجاعة وسخية.. ترصد له الجهود والموارد الضخمة.. إلا أن الإرادة غيبت القرار..
عقود طويلة مرت والعربية وأهلها في معزل عن التأثير في عصر المعلومات، والاكتفاء بالمشاهدة والاستهلاك، إلى أن جاء عقل عربي يقظ يتصدى لمشروع حضاري مدهش.. المبادرة هنا جاءت من الكويت ومن ذلك الاستثنائي "محمد بن عبدالرحمن الشارخ" صانع أول جهاز كمبيوتر عربي.. حول هذه المبادرة يقول أستاذ العلاقات الدولية البحريني الدكتور عبدالله المدني أن فضل محمد الشارخ لا يقل عن فضل أعلام الفكر والفلسفة والعلوم من العرب والمسلمين الذين استفادوا من تجارب الأمم الأخرى، وأضافوا إليها، ونقلوها إلى شعوبهم ومجتمعاتهم ليغرفوا منها ويحدثوا التغيير المطلوب نحو التأقلم مع ظروف العصر ومتطلباته، ويضيف المدني: ولو قدر لصاحبنا الظهور في مجتمع غير مجتمعه لنـُصبت له التماثيل، أو نـُقشت صورته على طوابع البريد الخالدة والمصكوكات النقدية، بديلاً عن شهادات التقدير المبروزة والدروع الأكريليكية الرخيصة.

الميلاد والنشأة
ولد محمد الشارخ سنة 1942 وقبل أن يتجاوز الثانية من عمره فقد والده، فتولى أعمامه تربيته، وكانوا محبين للغة العربية والشعر؛ فنشأ على ذلك، حيث كان المتنبي حاضرًا في كل زوايا البيت؛ يختلط شعره بما يقرضه شقيقه وعمه من الشعر النبطي وبما فاضت به قريحة والده من شعر قبل رحيله.. تجذب الفتى أبيات المتنبي ويتأثر بصاحبها، نتابعه وهو ما بين الثانية عشر من العمر والسادسة عشر يقرأ للعقاد "كتاب الله"، و"الجريمة والعقاب" لدوستوفسكي... ثم يكتب عن "المعتزلة" بحثاً من عشرين صفحة.
القاهرة ومنها إلى ماساتشوسيتس
بعد إتمامه المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدارس الكويت، سافر الشارخ إلى مصر للدراسة الجامعية ليتخرج بعد أربع سنوات من كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة ولكن لم يكتف بهذه الشهادة، حيث كانت طموحاته العلمية أكبر من ذلك، وهكذا نجده في أواخر ستينيات القرن العشرين مبتعثًا لنيل درجة الماجستير في التنمية الاقتصادية من كلية وليامز بولاية ماساتشوسيتس الأمريكية.
مناصب في الكويت وخارجها
بعد عودته إلى الكويت شغل عدداً من المناصب، فمن نائب مدير صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية في الفترة بين 1969 و1973، إلى نائب المدير التنفيذي للبنك الدولي للإنشاء والتعمير بواشنطن وعضو مجلس إدارته في الفترة بين 1973 و1975 وهو العام الذي عاد فيه إلى الكويت ليتولى – بناء على رغبة من الشيخ جابر الأحمد – تأسيس البنك الصناعي ورئاسة مجلس إدارته بين 1975 و1979. ثم كان قراره الانتقال للعمل في القطاع الخاص بدءًا من عام 1980 متأثرًا برغبة سكنته بتبني الميكنة والعمل على إدخالها في إدارة الأعمال منذ أن عاين – وهو في البنك الدولي - كيف يسهم الحاسب الآلي في نهضة الدول والمؤسسات.. حقيقة أدركها الشارخ مثلما أدركها بيل غيتس وستيف جوبز.. وقرر حينها أن يكون للعرب بصمة وموقعًا متقدمًا في هذا العالم، وهي واحدة من قصص مشوقة عاش تفاصيلها في مختلف الوظائف.
صخر
أسس الشارخ شركة العالمية التي اختصت بتجارة الأجهزة الإلكترونية وبعدها تمكن من تطوير عمله في القطاع الخاص بتأسيس شركة "صخر" ونجح في إنتاج ألعاب الأطفال المعروفة باسم "أتاري"، ثم اتجه نحو إصدار برامج الأطفال على الكمبيوتر تحت اسم "صخر"MSX وهي برامج لاقت صدًى طيبًا وقويًا في العالم العربي بأسره، الأمر الذي دفعه إلى تطويرها تحت اسم "صخرPC"، ما جعل كلمة "صخر" منتشرة في أوساط الشعوب العربية، بل مرادفة لاسم الشارخ وشركة "العالمية".
قاد الشارخ مجموعة شبان عرب من دول عدة استطاع معهم، وبالتعاون مع شركة "ياماها" اليابانية، من إنتاج حاسبًا بنظام تشغيل عربي هو الأول من نوعه يعمل بلوحة مفاتيح عربية.. كان تطويع لوحة المفاتيح فيها قصة نجاح أخرى.. فظهر "كمبيوتر صخر" الذي يعد من أوائل أجهزة الحاسوب المستخدمة للغة العربية، وأكثرها شهرة، وكان من المشاهد المألوفة آنذاك اصطفاف الناس في معظم البلدان العربية - في طوابير تمتد إلى عدة كيلومترات - لشراء جهاز "صخر" الذي بيع منه مئات الآلاف في عامه الأول، ناهيك عن بيع عشرات الآلاف من البرامج والتطبيقات، وفي الوقت نفسه أثمرت جهود الشارخ على مدى عقدين من الزمن، عن تطوير جيل جديد من تقنيات المعالجة الطبيعية للغة العربية (NLP)، فنجحت "صخر" في التغلب على تفوق تقنية المعلومات الإنكليزية على مثيلاتها العربية، وصارت رائدة في تطوير الحلول والمنتجات باللغة العربية وفي تضييق الفجوة الرقمية، ولاعبة أساسية في تقديم الحلول المتكاملة للحكومات الإلكترونية العربية في دول الخليج وبلدان عربية أخرى.
ويتواصل تحقيق الحلم العربي حينما سعى الشارخ إلى تطوير تطبيقات تقوم على تقنيات اللسانيات الريادية والذكاء الاصطناعي في زمن لم يكن قد تشكل بعد للدول العربية رؤى معينة تجاه الذكاء الاصطناعي واستشراف آفاقه التنموية ولا لـ"اقتصاد المعرفة" كوسيلة وهدفا في الخطط والبرامج لتحقيق "استدامة التنمية" فمنذ عام 1984، تعاون مع فريق كبير من المهندسين والمبرمجين وحاملي الدكتوراه العرب، لتطوير أنظمة وبرامج تعليمية ومكتبية عربية كثيرة لاقت انتشارًا واسعًا في الأقطار العربية كافة، وطوّر لأول مرة برنامجاً كمبيوتريًا للقرآن الكريم عام 1984، وآخر للحديث الشريف سنة 1989، ليحصل على ثلاث براءات اختراع من هيئة الاختراعات الأمريكية، بالإضافة إلى المعجم العربي المعاصر، والمدقق الإملائي، وموسوعة الفقه الإسلامي، والمعجم العربي المعاصر.. وغيرها. ليوقع محمد الشارخ وشركة صخر على وثيقة الانطلاقة الأولى والأهم للعرب في هذا العالم الساحر، وعلينا هنا أن نلتفت إلى أن صخر تعتبر من أولى المؤسسات التي استثمرت منذ عام 1982 في العديد من الأبحاث الأساسية في اللغة العربية.

جامعة عربية مصغرة
اعتمد الشارخ على الكفاءات العربية، وراهن على مقدرتها في تضييق الفجوة التكنولوجية بين العالمين العربي والغربي، وأنفق على بعثات من الطلبة والمهندسين، وهو ما جعل "صخر" يتحول إلى "ما يشبه الجامعة العربية المصغرة" وكان في كل وقت يدعو إلى ضرورة احتضان المواهب العربية الشابة المتخصصة في علوم الحاسوب ودعمها بتوظيفها وابتعاثها ومكافأتها بالرواتب العالية، واعتبر أن مثل هذه المبادرات هي السبيل نحو النهضة واللحاق بركب الأمم المتقدمة وأن أهميتها لا تقل أهمية عن الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي.
تحدي الغزو
حينما غزا الجار العراقي الكويت في الثاني من أغسطس 1990 قابل محمد الشارخ التحدي بالتحدي واستطاع بعزيمة وإيمان ومساعدة من نجله والأخيار من رفاقه ومعاونيه أن يعيد هيكلة شركة "العالمية" وأنشطتها، بوقف إنتاج الأجهزة والاعتماد على الذراع البرامجية لها والتي تم نقلها من مقره في الجابرية بالكويت إلى ضاحية هليوبوليس بالقاهرة عام 1990، حيث جمع الشارخ حوله نحو 150 من خبراء تقنية المعلومات في مجالات الكلام والترجمة الآلية والبحث والقراءة الآلية والتعليم وإدارة المعلومات، ونجح في افتتاح مكاتب له في جميع أنحاء الشرق الأوسط وكثير من دول العالم.
وقد أثمرت جهوده وجهود العاملين معه في مصر عن إنتاج العديد من البرامج مثل: "أراب دوكس" و"أدوات تحليل النصوص" و"الإدريسي" و"جهينة" و"القارئ الآلي" و"البوابة التعليمية" و"ترجمة صخر للمؤسسات" وبرنامج "إبصار" للمكفوفين وضعاف البصر و"النطق الآلي للنصوص" و"التعرف الآلي على الكلام" و"صخر ألو".
أرشيف الشارخ
بعد ذلك أنشأ الرجل "أرشيف الشارخ للمجلات الثقافية والأدبية العربية".. الفكرة بدأت خلال جلسة جمعته مع بعض الكتاب والمثقفين عام 2007 تحدثوا خلالها عن الصعوبات التي يواجهونها في العثور على المقالات الأدبية والثقافية في المجلات القديمة فجاءت فكرته بأن يقوم بتجميع المجلات والدوريات الأدبية والثقافية من مختلف المصادر ومن الشخصيات التي يقتنونها في شتى أنحاء العالم ومن ثم نشرها على شبكة الإنترنت ويكون الموقع متاح لجميع المستخدمين بعد فهرستها ووضعها بطريقة سهلة.
وسرعان ما سارع الشارخ في تنفيذ فكرته فعين لذلك عددًا كبيرًا من العاملين في 19 دولة عربية وغير عربية لجمع ونسخ هذه المجلات، بالإضافة إلى فريق فني عال المستوى، ويحتوي هذا الأرشيف حاليًا على 274 مجلة تتضمن نحو 16 ألف عدد، تضم نحو 330 ألف مقالًا لعدد يقارب من 53 ألف كاتبًا، وبعدد صفحات اثنين مليون صفحة، ويشتمل هذا الأرشيف على معظم المجالات الثقافية والأدبية العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع إمكانية البحث في فهارسها بعنوان المقال أو اسم الكاتب أو التاريخ، وقد أتاح الشارخ هذا الأرشيف المعرفي الضخم، والذي حمل اسمه، على الإنترنت دون مقابل، وقد تحدث العديد من المراقبين والنقاد عن ذلك فذكروا أن "محمد الشارخ أخرج تراث العرب من المجلات الأدبية والثقافية من كهوف الخزن إلى عالم الضوء".
قصة لم تنته بعد
مع تقاعد محمد الشارخ عن عمله في إدارة صخر وإسناد المهمة إلى ابنه فهد منذ عام 2005 لم تتوقف قصة صخر والشارخ عند هذا الحد بل أن "صخر" راحت تنطلق إلى آفاق متجددة وأصدرت العديد من التطبيقات مثل "صححلي و شكلي" الذي يضم اليوم نحو نصف مليون مستفيد ويتم في الوقت الحالي تطويرها بما يتناسب مع تقنيات الذكاء الاصطناعي وذلك كجزء من التزام صخر بالبحث والابتكار.. ويعتبر مصحح صخر "صححلي" أكثر من مجرد تقدم تكنولوجي، فهو يعكس رؤية الشارخ من أجل تعزيز ملاءمة التراث اللغوي للغة العربية مع الاحتياجات الرقمية الحديثة، وحينما تقدم صخر الشارخ هذا المصحح فإنها لا تتوقف عند الابتكار فقط بل تعزز من ثراء اللغة العربية.
ومن جهة أخرى يعمل فهد الشارخ على تطوير مبادرة والده "أرشيف الشارخ للمجلات الثقافية والأدبية" إلى الصيغة النصية، مع إضافة أنواع جديدة من البحث مثل: البحث بالكلمات المفتاحية، والبحث الموضوعي. والغرض من تحويل الأرشيف إلى الصيغة النصية الإفادة منه في بناء نموذج لغوي توليدي لدعم أبحاث الذكاء الاصطناعي في اللغة العربية، هذا النموذج يتكون من 700 مليون كلمة موسمة صرفيًا ونحويًا.
كما أن "صخر الشارخ" أصدرت قبل أكثر من عامين معجم اللغة العربية المعاصرة، وهو نتيجة رؤية واعية وعمل جاد تواصل لسنين حتى صدر هذا المعجم الحاسوبي الذي يغطي اللغة العربية المعاصرة، ويتناول شرح المفردات العربية بأسلوب عصري مع بعض البيانات التي تخدم كافة المستخدمين العرب وغير العرب، على مختلف مشاربهم، مثل: السمات الصرفية والنحوية والدلالية لكل مفردة، مع أمثلة متنوعة من القرآن والحديث والشعر والصحافة، مع نطق المداخل وترجمتها الإنكليزية. "معجم صخر المعاصر" تم الاستحواذ عليه من قبل وزارة الثقافة السعودية، وتم تغيير اسمه لمعجم الرياض، تحت رعاية مجمع الملك سلمان للغة العربية.
ثلاثون قصة تحت الطبع
لم يكن الشارخ فقط صاحب مبادرات تقنية شجاعة لها بصمتها في تاريخ الحضارة العربية، إنما هو أيضًا أديب وقصّاص ومهتم بالفنون التشكيلية. يشهد على ذلك اقتناؤه أعمالًا تشكيلية بلغت أكثر من 900 لوحة كثير منها يصنف بالندرة ويوصف بالمدهش.
أما موهبته الأدبية والقصصية فقد أنتجت لنا العديد من الإبداعات حيث صدرت له ثلاث مجموعات تنتمي إلى فئة "القصة القصيرة" حملت عناوين: "عشر قصص"، "الساحة"، "أسرار وقصص أخرى" وقبيل وفاته جمع ثلاثون قصة معظمها مما تم نشره في المجموعات الثلاثة وتعمل الأسرة في الوقت الحالي على طبعها بالإضافة إلى رواية "العائلة" التي نشرها في وقت سابق أيضًا، وقد حاز هذا الإنتاج الأدبي على اهتمام وثناء العديد من كبار الكتاب العرب، وقد أسهبوا في تحليل رواية "العائلة" ومجموعات القصص القصيرة حتى أن الناقد حسن بحراوي قال "أظل مديناً لمحمد الشارخ بأنه جعلني أقلع عن يأسي في مستقبل القصة العربية".
تجرية الشارخ والتربية
بالتزامن مع ذكرى ميلاد محمد الشارخ في 22 أكتوبر أقامت جمعية الخريجين الكويتية ندوة بعنوان "محمد الشارخ من المحلية إلى العالمية" شكلت مناسبة لتأبين الشارخ واحتفاء بتجربته وبما خلفه من تراث حضاري يحسب للكويت، واستضافت الندوة متحدثون من داخل الكويت ومن بلدان عربية عدة قدموا شهاداتهم عن الراحل الكبير، كما أن وزارة التربية أطلقت اسمه على إحدى مدارس منطق النزهة (مدرسة عمير بن سعد سابقًا) تخليدًا لإنجازاته الرائدة.
الشارخ في معرض مال لول - قطر
تحت رعاية الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني، رئيس مجلس أمناء متاحف قطر، افتتح في شهر ديسمبر 2024 معرض مال لول قطر 4 الذي يتواصل حتى العاشر من شهر أبريل القادم، واحتفى معرض هذا العام بتجربة محمد الشارخ وخصص جناحًا مميزًا لعرض مقتنيات "صخر".
الجزيرة وثائقي تنتج فيلمًا عن الشارخ
قامت قناة الجزيرة وثائقي بتسجيل فيلم وثائقي عن محمد الشارخ استضافت فيه العديد من الشخصيات المعاصرة للحديث عنه، ومن المتوقع أن يرى النور قريبًا.
** أعدت لـ"إيلاف" هذا التقرير أسرة محمد الشارخ






















التعليقات