لا جدال في أن للتطورات الإيجابية بين بلدين مهمين كالسعودية وسوريا أثرا مؤكدا على مجمل العلاقات بين الأطراف والقوى السياسية في بلدين كفلسطين ولبنان، وقد وُضع الموضوعان الفلسطيني واللبناني على رأس جدول اللقاء في دمشق. بقطع النظر عن تجليات ذلك التأثير، وطرائق تحققه في الواقع السياسي هناك. فأقطاب المعادلة السياسية في البلدين يدوران بين الميل للمواقف السورية، كما في التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشيل عون، وحزب الله، بقدر معين، وجهات لبنانية أخرى محسوبة على ما يسمى بقوى الممانعة، والميل للمواقف السعودية واقعٌ من تيار المستقبل، وغيره. وفي فلسطين تميل إلى الموقف السوري حركةُ حماس، والجهاد الإسلامي، على نحو ما، والفصائل الفلسطينية المدرجة في المعارضة والممانعة كذلك. في مقابل السلطة والوسط السياسي الداعم لها، وعلى رأسها حركة فتح التي تبدو أقرب إلى المواقف السعودية.

ولا شك أن تطورات الوضع الفلسطيني تجعله في رأس الاهتمامات، في ظل تداعيات تأجيل النظر في تقرير غولدستون، واستمرار المحاولات الإسرائيلية باقتحام المسجد الأقصى.

ولكن الثابت أن لكل بلد خصوصيته ومشكلاته، ولعل القضية الفلسطينية هي الأعقد، والتوافقات بشأنها الأكثر هشاشة؛ ذلك عائد لوجود الطرف الثالث، إسرائيل، وليست الأقل تأثيرا على مجريات الأوضاع، وعلى فرص المصالحة الفلسطينية.

فبعد أن اقترب الطرفان فتح وحماس من توقيع اتفاق المصالحة بالموافقة على الورقة الفلسطينية برزت إلى السطح قضية لجنة غولدستون التي أشعلت الساحة الفلسطينية، وهددت بنسف ما حققته الوساطة المصرية.

وبقطع النظر عن تطورات الموقف الفلسطيني والمسؤولية عن تأجيل النظر في التقرير فإن اللاعب الإسرائيلي يحضر هنا بقوة، من حيث الضغط الذي مارسه على السلطة، وما أشاعته وسائل إعلام إسرائيلية عن معلومات هددت به حكومةُ نتنياهو السلطة في حال استمرت في دعم التحقيق.

لكن اللافت أن تلك الجهات الإعلامية لم تمتنع عن نشر ما قالت إنها تسجيلات تثبت ضلوع السلطة بالحرب على غزة تأييدا لقمع من أسهموا بإيصال حماس إلى الحكم في غزة، فقد نشرت صحيفة معاريف quot; فحوى شريط مصور يظهر فيه أبو مازن، وهو يحاول إقناع باراك بمواصلة الحرب على قطاع غزةquot;. كما ادعت وجود شريط يتضمن مكالمة هاتفية بين الطيب عبد الرحيم الأمين العام للرئاسة الفلسطينية، وبين رئيس مكتب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي غابي أشكنازي، حيث يقول فيه عبد الرحيم إن quot;هذا هو الوقت المناسب للدخول إلى مخيمات اللاجئين جباليا والشاطئ، وأن سقوط هذين المخيمين يؤدي إلى إنهاء سلطة حركة حماس في قطاع غزة ويجعلها ترفع العلم الأبيضquot;.

وبالرغم من كون مثل هذه التطورات لم تغير حتى الآن في الموقف الرسمي لحماس من قبول الورقة المصرية إلا أنها ألقت بظلال ثقيلة على اتفاق المصالحة المزمع توقيعُه في الخامس والعشرين من الشهر الجاري في القاهرة برعاية مصرية، كما صرح بذلك وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط. ولا شك أن هذا الموقف الأخير للسلطة من تقرير غولدستون قد أضعف من موقفها وقلل من مصداقيتها حتى لدى وسطها السياسي في حركة فتح وغيرها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية.

لم يتغير موقف حماس الرسمي من مواقفها التي بشرت بها بقرب المصالحة، وإن كانت تستثمر الحرج الذي وقعت فيه السلطة بسبب إرجاء النظر في تقرير غولدستون. وهي ما زالت حريصة على تثبيت الأوضاع الهادئة في غزة؛ إذ تمنع فصائل المقاومة من حركة الجهاد الإسلامي وغيرها من إطلاق الصواريخ على إسرائيل، للرد على محاولات انتهاك المسجد الأقصى.

ولا يخفى على المتابع أن حكومة نتنياهو تعاني حرجا لا يلغيه الدعمُ الأمريكي العلني لها، وتراجع أوباما عن اشتراط وقف الاستيطان لاستئناف المفاوضات؛ إذ ما زال الموقف الفلسطيني يرفض العودة إليها مع استمرار الاستيطان؛ ما قد يشي بـ ( تفهم) أمريكي، يدعوها إلى عدم ممارسة ضغوط قوية على السلطة، حتى الآن.

ولذلك فإن الحكومة الإسرائيلية ما زالت تعمل على إضعاف موقف السلطة بالرغم من الجهود الحقيقية التي تبذلها الأخيرة بدعم أمريكي واضح لتعزيز هيبتها أمنيا، وتأكيد حضورها اقتصاديا، وتعزيز مشاريعها الهادفة إلى بناء quot;المؤسسات الاقتصادية الوطنيةquot;.

فعلى الصعيد السياسي ثمة انسداد في الأفق تسببت به إسرائيل، واتهمت به السلطة، وعلى صعيد الوضع الميداني ثمة إحراج متواصل للسلطة وللقوى المؤيدة للعملية السلمية بتكرار الانتهاكات للمسجد الأقصى وتكثيفها؛ ما جعل محللين إسرائيليين، وأعضاء في الكنيست يتنبؤون بانتفاضة ثالثة؛ الأمر الذي لا أظن السلطة معنية به في هذا الوقت بالذات.

سياسيا تبدو إسرائيل المتضرر الأكبر من أي تقارب بين السلطة وحماس، يمكن أن ينتج، أو يُثبَّت، مع حصول هذه التطورات الإقليمية؛ فإيران التي تتصدر ما يسمى بحور الممانعة تتدرج نحو مزيد من المرونة، في مشروعها النووي؛ تفاديا لعقوبات دولية، تهدد بعزلها. وسوريا تنعطف نحو محور الدول المدرجة في الاعتدال كتركيا والسعودية، ومصر؛ لذلك تسعى حكومة نتنياهو إلى توتير الأوضاع، لإحراج حماس في غزة، أو دفعها إلى إعلان انتفاضة بالضفة، كما تسعى كذلك، إلى إحراج السلطة وإضعافها باستمرار الاستيطان، ومحاولات اقتحام المسجد الأقصى، وتسريب معلومات صحفية عن تواطؤ كان منها أثناء الحرب على غزة، وهي بذلك ربما تستبق نتائج تتوقعها من تلك الاصطفافات الجديدة التي تبدو هي على هامشها، إن لم تكن في مواجهتها سياسيا وديبلوماسيا.

وعلى الرغم من توقع انعكاسات مهمة عن التقارب السعودي السوري على أوضاع المنطقة، ولا سيما فلسطين ولبنان؛ فإن الظروف الموضوعية الداخلية في البلدين تبقى محتاجة إلى حسم وتوافق، والمتوقع أن تكون الآثار أوضح على صعيد تشكيل الحكومة اللبنانية، إلى أن تحتاج إيران إلى إثبات وجودها، وليس حزب الله - كما هو معلوم- على مسافة واحدة من سوريا وإيران.

وأما في فلسطين فتبقى إسرائيل الممسكةُ بالأوضاع الفلسطينية، المعيشية اليومية، والقادرة على مراكمة الاحتقان قادرةً على إجهاض تلك المساعي؛ بما تتعمد القيام به من ممارسات استفزازية، لا تبدو إدارة أوباما قادرة على ضبطها، بعد تراجعها السياسي أمام حكومة اليمين.
[email protected]