قد يكون من المفيد في البدء أن نعرض لبعض الأفكار المتعلقة بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، ولا بد أن تتناول الولايات المتحدة بوصفها الراعية الفعلية لـ quot;العملية السياسيةquot; والدول العربية، بما فيها السلطة الفلسطينية بوصفها الطرف المقابل للطرف الإسرائيلي, وموقف الأخير بوصفه المحتل المطالب بالتجاوب مع المشاريع السلمية المطروحة.
أما الولايات المتحدة فقد سبق أن بينت رؤيتها للحل بأنه دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب دولة إسرائيل, ولا شرعيةَ الاستيطان، وتدويل الأماكن المقدسة في القدس الشرقية، كما بينه الرئيس أوباما في خطابه الشهير في القاهرة، وأما مسائل أخرى كـquot;اللاجئينquot; والحدود فتركت للمفاوضات.
وقد انتظر المراقبون من أوباما خطة يعلن فيها رؤيته المفصلة للحل, لكنه حتى الآن لم يفعل, وثمة مصادر تتحدث عن تبني الإدارة الأمريكية خطة لحل الصراع تستند إلى الأفكار التي وردت في مبادرة جنيف التي صاغها فلسطينيون وإسرائيليون قبل سنوات، وترى فيها واشنطن الصيغة الأفضل لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ولكن ما يقلق كثيرا من الفلسطينيين والعرب المؤمنين بالحل السلمي هو الخشية من تناقص الجدية الأمريكية, بسبب انشغال واشنطن بملفات أكثر سخونة، ولعل أبرزها الوضع في أفغانستان، وجارتها النووية باكستان التي تشهد توترا عميقا ومقلقا.
إضافة إلى الموقف الأمريكي الذي يقضي بعدم رغبة أوباما بفرض الحلول في هذا الموضوع, وكذلك تجنبه ممارسة ضغوط مباشرة على حكومة نتنياهو، وإن كان يسمح بضغوط غير مباشرة عليها.
وقد ترجح لدى العديد من المتابعين أن الإدارة الأمريكية تعمل حاليا على إدارة الأزمة أكثر مما تعمل على حلها, وما الزيارات المتكررة التي يقوم بها المبعوث الأمريكي ميتشل, والزيارة المرتقبة لوزيرة الخارجية كلينتون إلا بهدف احتواء الأزمة, ومنع تصاعدها, ولا سيما بعد التداعيات التي خلفها موقفُ السلطة من تقرير غولدستون, والتصعيد الذي رعته حكومة اليمين المتطرف في المسجد الأقصى, وهي الأمور التي تزيد من حرج السلطة وضعفها السياسي, والواضح أن الجهود الأمريكية منصبة هذه الأيام على استئناف أي شكل من أشكال التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ما الذي يجري على الأرض؟
لكن الطرف الفاعل على أرض الضفة مهد الدولة الفلسطينية الموعودة هو إسرائيل، استيطانا مكثفا, ولا سيما في منطقة القدس, وتهويدا لها، على التوازي من مواقف سياسية تبشر بترحيل السلام إلى عقود قادمة, على لسان وزير الخارجية ليبرمان, ومواقف مشابهة تصادر نتائج المفاوضات يعلنها نتنياهو ويكررها بضرورة الاعتراف بيهودية الدولة كشرط لأي حل مع الفلسطينيين, وهو يعلم تعذر موافقة السلطة عليه؛ فيستغل ذلك لفرض الحل على الأرض، بخطوات وممارسات عملية لا تتوقف؛ ليترك الفلسطينيين بعد أن ينجز ما يريد وراء الجدار وفي المعازل يعلنون ما يريدونه من كيان يسمونه دولة, أو غير ذلك، بالأمر الواقع, وبقوة التقادم.
فما الموقف الأمريكي مما يجري؟
الصحيح أنه لا تتوفر إشارات كافية للدلالة على موقف أمريكي يكبح هذه المشاريع الإسرائيلية، وأما الدور الذي يمارسه رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض فلا يقوى على الوقوف في وجه هذه المخططات، لأنه يركز على بناء المؤسسات الاقتصادية الفلسطينية, وتعزيز البنى التحتية. وهو كان أعلن عن عزمه الإعلان عن دولة فلسطينية من طرف واحد في غضون العامين القادمين. وأمام ذلك عقبات ليس الاحتلال أقلها.
ومع افتقار المشهد إلى مؤشرات قوية على ضغوط حقيقية على نتنياهو وحكومته؛ فإنه قد يصعب التسليم بانصياع أمريكا التام للنوايا الإسرائيلية، لا لشيء سوى أنها تدرك, أهمية العمل على حل معقول ومقبول لهذه القضية الحساسة، وقد توصلت إلى قناعات منذ لجنة بيكر هاملتون إلى أثر حل هذا الصراع في تحسين صورة الولايات المتحدة, وفي تمكينها بالتالي من إنجاح مشاريعها والحفاظ على مصالحها في المنطقة بالأثمان غير الباهظة, ومن المؤشرات الواضحة التي تؤكد أخذ هذه الإدارة بتلك التوصيات من كبار الساسة الأمريكان من الحزب الديمقراطي, وحتى من الجمهوري ما دشن به أوباما ولايته بتعامل جديد مع العالم الإسلامي يقوم على استرضائه، بمضامين خطابيه في تركيا ومصر , وقد كان ذلك من ضمن الأسباب التي استندت إليها لجنة جائزة نوبل في منحه إياها.
والإدارة الأمريكية التي تخوض حربا صعبة في أفغانستان ما زالت محتاجة إلى تحييد المنطقة العربية, وهي قلب العالم الإسلامي للتفرغ لحربها هناك, ولتقليل بؤر التوتر, وتخفيض التكاليف. ولا مِثْلُ القضية الفلسطينية يهدد بتخريب تلك المساعي؛ إذا ما تبين اصطفاف أمريكا إلى جانب إسرائيل وتماهيها مع مشاريعها الأشد تطرفا بفضل حكومتها الحالية.
مؤشرات على ضغوط غير مباشرة
ولعل من المنطقي إذن أن تُبقي الإدارة الأمريكية على قدر من الضغوط تكبح بها غلواء هذه الحكومة غير المكترثة بالتفاوض الفعلي, والمحدد بأطر واضحة ومرجعيات قانونية متفق عليها دوليا, وهي ضغوط غير مباشرة, ولكنها تفضي في المحصلة إلى إبلاغ رسالة إلى الشعب الإسرائيلي وقواه السياسية أن هذه الحكومة تضر بمصالح دولتهم, وتحجم دورهم الإقليمي وتهدد بعزلهم.
وهنا يشترك العرب والفلسطينيون وبعض الدول الإقليمية المؤثرة في نسج خيوط الرسالة. ولعل آخر تلك الخيوط ما أعلنته تركيا التي تربطها بإسرائيل علاقات استراتيجية عن إلغائها مناورات quot;نسر الأناضولquot; بعد استبعادها إسرائيل منها؛ ما زاد من فتور العلاقات بين البلدين، وهذا يحرم سلاح الجو الإسرائيلي من مناورات في أجواء واسعة, كانت ستكسب ملاّحيه خبرة خاصة.
وفي سياق هذه الضغوط يُفسر الموقف العربي الرسمي الثابت على رفض التطبيع ما لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة, وفق المبادرة العربية, وما لم توقف الاستيطان, وتكف عن تهديد المسجد الأقصى.
ومن اللافت أن دولا عربية تعقد مع إسرائيل معاهدات سلام تقترب في بعض مواقفها من الدول العربية الأخرى، فمصر مثلا ما زال التطبيع فيها غير مفعَّل, ولم يقم رئيسها حسني مبارك بزيارة إلى إسرائيل إلا تلك البروتوكولية التي كانت عقب اغتيال اسحاق رابين 1995م.
وقد أكد هذا الموقفَ المصري وزيرُ الخارجية أحمد أبو الغيط في الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ( السبت: 10/10): حين قال: quot;إن دخول إسرائيل في مفاوضات جادة وواضحة ومحددة سيعيد الوضع بالنسبة لقضايا عديدة أخرى إلى ما كان عليه في التسعينات على صعيد التفاعل العربي مع إسرائيلquot;.
وبالرغم من أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قد حثت الدول العربية على تقديم خطوات حسن نية تجاه إسرائيل؛ فإنها قد أعربت عن سعادتها لما سمعته من مسؤولين من مصر والعراق والأردن. وكان من ضمن ما سمعته الموقف المصري السابق ذكره, والموقف السعودي الذي يرفض فرض التطبيع على العرب قبل تحقق الانسحاب وقبل إنجاز السلام.
ولم يكن الموقف الأردني بعيدا عن هذه الأجواء العربية حين هدد بطرد السفير الإسرائيلي في حال استمرار الأحداث في القدس, بحسب quot;القدس العربيquot; التي قالت إن المملكة الأردنية الهاشمية أوصلت رسالة واضحة إلى الحكومة الإسرائيلية بطريق غير مباشر تتمثل بطرد السفير الإسرائيلي في حال استمرت الأحداث في محيط الأقصى، وفي حال دخول قوات الشرطة والجيش الإسرائيلي إلى داخل الأقصى ودعم الجماعات المتطرفة اليهودية التي كانت تنوي دخول الأقصى.
ويبقى السؤال: هل تقوى هذه المواقف الحالية على إعاقة مشروع اليمين الإسرائيلي الذي يحجم القضية إلى مسائل معيشية وإدارية, ويشكك بواقعية التفاوض , أو يصادر نتائجه؟
وهل تصل هذه الرسالة إلى الشعب الإسرائيلي, وتحدث التغيير المطلوب؛ لصالح تغيير قادته, وانتخاب قيادة أكثر quot;واقعية ومرونةquot;؟ ذلك ما لا ضمانة عليه!
[email protected]