لا جدال في أن الانسداد السياسي الذي تعرفه العملية السلمية, والوقائع المستفزة التي تتضافر مع تصريحاتٍ، مثلها, من نتنياهو وأركان ائتلافه تخلق حالةً من الاحتقان, وشعورا من اليأس, والخيبة مما عوَّله البعض على تلك الجهود التي تلبست بها منظمة التحرير, و السلطة, ما يزيد على سبعة عشر عاما.

فلا خلاف في حراجة موقف السلطة, بعد أن دُفعت نحو التفاوض غير المباشر؛ ثم لم تكد تبدأ حتى صُعقت بتلك الخطوة الاستيطانية التصعيدية! مثلما أن الحرج لا يفارق الولايات المتحدة نفسها, بعد تلك الصفعة التي تلقتها في شخص نائب الرئيس جوزيف بايدن.

هذا الوضع السياسي يهيىء أجواء انتفاضة جديدة, ولا سيما إذا استمرت إسرائيل في الضرب على وتر المقدسات؛ وبالرغم من الظروف الموضوعية التي وفرها وجود السلطة, وانضواء حركة فتح- وهي القوة الأقدر على إشعال انتفاضة في الضفة الغربية- تحت جناح السلطة, فإن الضغط يولد الانفجار, والفراغ لا بد أن يُملأ, فضلا عن الشرارة, بل الشرَّر الذي لا تنفك حكومة اليمين المتطرفة تلقيه على كومة المشاعر الغاضبة, كلما هدأت.

وإذا قارنا بين ظروف نشأة الانتفاضة الأولى في أواخر عام 1987م التي سميت بانتفاضة الحجارة, وانتفاضة الأقصى عام 2000م, والظروف الحالية استبان لنا الفرق في وجود السلطة التي على رأسها قيادةٌ تعلن رفضها للعودة إلى أي شكل من أشكال المقاومة العسكرية, أو شبهها.

وما زالت السلطة قوية, وممسكة بالمالية, والأمن, وما زالت تستقطب الكثيرين من الشباب إلى أجهزتها الأمنية, ولكن السؤال المهم عن دور حركة فتح: هل تستمر في التماهي مع موقف السلطة, وهي الأقدر على إشعال فتيل الانتفاضة في الضفة, أم تعيد تقدير موقفها في ظل التغيرات في مزاج الشارع, وفي ضوء حرصها على الإمساك بزمام القيادة, على ضوء إيمانها بمهمتها في حماية المشروع الوطني؟

وقبل السؤال عن موقف حركةٍ, كفتح, لا بدَّ, بداهةً, من اختبار مزاج الشعب الفلسطيني, وتقدير اتجاهه, وإن كان هذا أمرا بالغ الصعوبة؛ إذ يصعب التنبؤ بردات الفعل الشعبية, ومحدداتها؛ فكثيرا ما تفاجِىء, وتكذِّب التكهنات.

ومن الناحية النظرية ثمة, الآن, أكثر من سبب يدعو إلى انخراط شعبي واسع في الانتفاضة, لكن الشعب, وقد جرَّب انتفاضتين سابقتين, واختبر الحركات التي قادتها, وعرف تنافسها, حتى الاقتتال, على مصالح, تقف في النهاية دون تحرير فلسطين, إلى حفاظ كل منهما على مكتسباتها, وانحياز كل طرف إلى معسكر له خياراتُه السياسية غير المختلفة, جوهريا, ربما لا يندفع بالسرعة المطلوبة, أو بالزخم المتوقع, إلا أن تبرز قيادة جديدة؛ فتعطل هذا العائق الجزئي.

هذا بحسب المنطق, ولكن ما نسبةُ المنطق, وما منسوبه, في تصرفات حكومة اليمين؟! إنَّ كثيرا من الحسابات العقلانية قد لا تصمد أمام الشعوب العاطفية, أو في حال انتهاك المقدَّس, واستفزاز المشاعر, بدرجة صادمة, ومستمرة.

وإن الأمر أشبه بمجنون رمى- كما يقال- حجرا في بئر؛ فلا يخرجه ألفُ عاقل؛ فإذا أريقت الدماء, ودبت العدوى, ودخلت المنطقة في دوامة جديدة من العنف؛ فكيف تُكبح؟!

هل إسرائيل معنية بانتفاضة؟

الجانب الإسرائيلي, ممثلا بحكومة اليمين, لا يبدو, معنيا بمنع هذه الانتفاضة, أو تلافي أسبابها, وسواء تقصَّدها, أو لم يفعل, فإن وتيرة التهويد التي ارتفعت ضد القس, وطرد المقدسيين من بيوتهم, أو هدمها بحجة عدم الترخيص, والاستيطان في محيط القدس يفضي إلى ردود فعل عنيفة, ويصبح الأمر أخطر, مع انسداد الأفق السياسي.

وقد باتت حكومة نتنياهو أكثر احتياجا إلى مثل هذه الأجواء العكرة, لصرف الأنظار عن تردي موقفها, واستحكام عزلتها, على المستوى الدولي, بعامة, والأمريكي, بخاصة. وهي في الوقت الذي ترفض فيه الاحتجاجات السلمية التي تقودها القوى المساندة للسلطة, أو المقربة منها, فإن موقفها من انتفاضة شبه عسكرية, قد يختلف؛ ذلك أن الشكل الأول من الاحتجاج يصب في تعرية موقفها, ويسلط الضوء على احتلالها؛ فتغدو أكثر حرجا, وهي تقمع احتجاجات مدنية, سلمية, ولكن الشكل العسكري من الاحتجاج, أو شبهه, يجعلها في موقف المدافع عن نفسها, أو هكذا تخادع, أو تصوّر.

وقد سبق أن خاض الشعب الفلسطيني انتفاضة شبه عسكرية في عام الـ 2000م فيما عرف بانتفاضة الأقصى, صعدت فيها إسرائيل من درجة الردود غير المتناسبة, مع حجم أعمال الانتفاضة, وقد رجعت حماس, في غزة إلى تفادي أية مواجهة عسكرية مع إسرائيل؛ عندما اقتنعت أنها قد تفضي إلى إسقاط حكمها, أو إلى خسائر فادحة.

أما السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية, فهي, كذلك, ليست بعيدة عن الابتزاز؛ إذ حتى الاحتجاجات السلمية لا تستطيع المُضيَّ فيها إلى النهاية؛ لما تسمعه من تهديدات إسرائيلية بتكثيف الاقتحامات لمناطق السلطة, وهي المعروفة بمناطق(أ), وقد سحبت إسرائيل عددا لا بأس به من بطاقات الـ quot;V.I.Pquot; من أعضاء في حركة فتح, لمشاركتهم في تلك النشاطات الاحتجاجية.

إن خطورة الانتفاضة تأتي من تداعياتها؛ فهل تريدها إسرائيل ذريعة لخلط الأوراق, وضعضعة السلطة, أو إرجاعها, إلى المربع الأول؟ بعد أن قطعت شوطا بعيدا في بناء أجهزة الدولة الأمنية, ومؤسساتها المختلفة, وأنجزت, ما يزيد عن ألف مشروع, وفي طريقها العاجل نحو الألف الأخرى؛ تمهيدا لاستحقاقها الدولة الفلسطينية؟ أم أن إسرائيل تريد الانتفاضة مجرد ذريعة للتملص من الاستحقاقات السياسية؟ أم أنها تبتغي العودة إلى توازنات القوى الفلسطينية؛ بحيث تخرج الضفة الغربية عن هذا الحسم الذي أصبح شبه كامل لصالح المشروع التفاوضي, بعد سيطرة حماس على قطاع غزة, منذ الرابع من يونيو (حزيران) 2007م؟

ومع إيماننا التام بضرورة مواجهة هذا الصلف الإسرائيلي, والعدوان المتصاعد إلا أننا لا نرى في مجرد ردود أفعال غاضبة, ومبتورة عن مشروع متكامل, عملي, ومجدٍ,ٍ حلا جذريا, أو مبرِّئا من المسئولية الملقاة على الجميع.

[email protected]