كيف يمكن أن تنحدر الآمالُ بـlaquo;عملية سلميةraquo; ذات جدوى، ولا تهوي لها شعبيةُ الزعيمين القائمَيْن عليها: بنيامين نتنياهو، ومحمود عباس، بل تتصاعد؟!
هذا السؤال يفترض أن المعيار الذي يقيس به الشعبان الإسرائيلي، والفلسطيني، قادتَه، وسياسيِّيه، هو مقدار نجاحهم في تحقيق تقدُّم في العملية السلمية. ووَفْق هذا المعيار كان من المفترض أن تهبط شعبيةُ رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو، بعد كل laquo;الإخفاقاتraquo; وlaquo;التراجعاتraquo; والعزلة الدولية التي سبَّبها لدولته، والحرج الكبير، والإدانة العالمية لطريقة تعامل حكومته مع laquo;أسطول الحريةraquo; وlaquo;سفينة مرمرةraquo; تحديدا.

لكن أي تراجع على شعبية نتنياهو لم يحدث، بل إنها ارتفعت، في مقابل تراجع معارضيه، ويشير آخر استطلاع للرأي إلى أن اليمين الحاكم في إسرائيل سيزداد قوة بشكل كبير، خصوصا حزب الليكود، بقيادة بنيامين نتنياهو الذي سيرتفع بنسبة 15%، إذا ما جرت الانتخابات العامة اليوم.

ويستفاد من هذا المؤشر أمور أوضحُها: أن الشعب الإسرائيلي يتجه نحو اليمين، ولا يبدي استعدادا لتقديم laquo;تنازلاتraquo; تتطلبها عملية السلام، في حدها الأدنى.

والثاني: أنَّ نتنياهو لن يكون- وَفْق اعتبارات حزبية وداخلية- مضطرا للانصياع لأية ضغوط يمارسها حزبُ العمل المشترِك في الحكومة، أو حزب كاديما المعارض؛ ما دام قادرا، بحسب استطلاع الرأي المذكور، على تشكيل حكومة من حزبه (الليكود) الذي يَتوقع له الاستطلاعُ 31 مقعدا، بدلا من 27 يتمتع بها الآن، مع الأحزاب اليمينية المتطرفة التي يتوقع لها أن تحوز 68 مقعدا؛ لتتفوق على نفسها؛ إذ تتمتع اليوم بـ 61 مقعدا.

والأمر الثالث الذي يدل عليه هذا الارتفاعُ في شعبية نتنياهو: هو أن الشعب الإسرائيلي، كما دولته، لا يقيم كبيرَ وزنٍ لـ laquo;الرأي العامraquo; العالمي، إذا تعارض مع مصالحه الأمنية، ومواقفه الثابتة العَقَديَّة، وخصوصا عندما لا تكون الولاياتُ المتحدة في صف أولئك المنددين؛ فما السبب؟ السبب، بالطبع، واضح، وهو أن هذا التنديد العالمي لا تخشاه إسرائيل كثيرا؛ لأنه غير قادر على التحول إلى مواقف عملية تضر بإسرائيل، ولو ضرَّ؛ فإنه أقل من المكاسب التي تجنيها، أو أقل من الأضرار التي كانت تتوقعها؛ فيما لو laquo;تقاعستraquo; عما تراه ضروريا، كما في laquo;أسطول الحريةraquo;؛ فما خسرته إسرائيل فعليا، لا يضطرها إلى تغيير حقيقي في سياستها تجاه القطاع المحاصر، وأما سماحها بإدخال السلع العادية, وغير القابلة للاستخدام المزدوج؛ فإنه أتى استجابة لعدة اعتبارات منها الاقتناع بأن حجب تلك السلع لا يضعف حماس، وحكومتها؛ بل إنه يفيدها؛ لأنها المتحكمة بالأنفاق، والمستفيد الأكبر من حركة التجارة من خلالها. ومن تلك الدوافع الرغبة في امتصاص شيء من النقمة العالمية، وتفادي تحقيق دولي تطالب به تركيا، بسبب قتل إسرائيل لمدنيين أتراك كانوا على متن السفينة.

فهل أضرَّ نتنياهو بإسرائيل حقا؟
بعد أن ظن الكثيرون أن حكومة نتنياهو- بسبب مواقفها المتعنتة من العملية السلمية- أوقعت بدولتها بالغَ الضرر، والعزلة الدولية، حتى إن دولا أوروبية قررت مقاطعة منتجات المستوطنات، جاءت الخطوةُ الصارخة، والبالغة الأهمية، والدلالة: انضمام إسرائيل إلى laquo;منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الدوليةraquo;؛ فلم يمنعها كل ذلك الحشد الإعلامي، وكل الانتقادات الدولية، الأوروبية، وحتى الأمريكية من نيل تلك المكانة الاقتصادية المهمة؛ ما يشير بوضوح إلى أن مسار إسرائيل، كـ laquo;دولةraquo; لا يتضرر بمواقف نتنياهو واليمين الذي معه.

ومن باب أولى أن لا يحمل الشعب الإسرائيلي laquo;الغضب العربيraquo; وأيامَه المتتالية، وكذلك laquo;الغضب التركيraquo; على محمل الجِد، ولا يجبره على إعادة التفكير في خياراته، بل يزيده تصميما عليها.

هذا شان شعبية نتنياهو، ومحدداتها؛ فكيف حال شعبية الرئيس الفلسطيني محمود عباس؟

شعبية عباس:
يدرك السيد محمود عباس أنه لن يملأ مكانَ الرئيس الراحل ياسر عرفات؛ فقد كان في نظر كثير من الفلسطينيين زعيما استثنائيا، ورمزا وطنيا أصيلا، فوق تمتعه بكاريزما خاصة، واقترابا شعبويا- إذا صح التعبير- لم يحاول عباس تقليده، وظل أقرب إلى النُّخـبة، وlaquo; العقلانـيةraquo; بعيدا عن الشعارات الرنانة، وكان هذا طبيعيا، بحسب مواقفه السياسية الشديدة الوضوح، إلى حد الصدمة، أحيانا؛ إذ رفضَ laquo;الكفاح المسلحraquo; وكان ضد laquo;عسكرة الانتفاضةraquo; فيما كان عرفات غيرَ مقطوع الصلة، حتى بعد أن أصبح رئيسا للسلطة الفلسطينية، بالنشاط العسكري، ضد الاحتلال؛ فقد كان معروفا دعمُه لكتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري الذي مثَّل فتح في انتفاضة الأقصى.

لقد نزع عباس ثياب الثورية، وارتدى ثوباlaquo;واقعياraquo; يقدِّمُ الطعام، والأمن، على سواهما، وكان شعارُه، في الانتخابات الرئاسية، مقتبسا من السورة القرآنية: laquo;لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْف* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍraquo; وما انفكَّ يقيس نفسه بهذين المقياسين؛ فعلى مستوى الأمن الغذائي استطاعت السلطة، ولا سيما بعد الانفصال عن غزة, وتسلُّم فياض رئاسة الحكومة أن تلتزم شهريا برواتب الموظفين؛ ما انعكس حيوية, ونموا اقتصاديا ملحوظا، في الضفة الغربية، وما زالت حكومة عباس التي يترأسها فياض تولي اهتماما كبيرا للمشاريع الاقتصادية المحلية، في أثناء انخراطها ببناء مؤسسات laquo;الدولة الفلسطينيةraquo; وهي من أجل ذلك تشنُّ حملة على منتجات المستوطنات، وتتجه نحو تحريم عمالة الفلسطينيين في المستوطنات.

لكننا إذا خرجنا من هذا النطاق المعيشي الذي لا ينفك عن الدلالات السياسية، ومعاني الصمود, والثبات الفلسطيني في أراضي الضفة الغربية، ولا سيما الريف الفلسطيني، الأكثر استهدافا بالنشاط الاستيطاني، إذا خرجنا إلى الصعيد السياسي الأوضح، وهو المحك الحقيقي لنجاح السلطة، وأبو مازن على وجه التحديد؛ فإننا لا نعدم محطاتٍ كان لها تأثيرٌ سلبي على شعبيته، وقد صرح عباس، مرارا، وبمرارة عن الآثار النفسية التي لحقته، شخصيا، وعائلته، على خلفية تعامل السلطة مع laquo;تقرير غولدستونraquo;.

وباقتراب أكثر من الهم الفلسطيني المصيري يتبدَّى لنا الإخفاقُ المعلن عن الوصول إلى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية عن طريق المفاوضات التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد للسلام 1991 م.

في هذه الأثناء يعتصم الفلسطينيون بإرادة الحياة، والبقاء، ويتعالون على منغصات الاحتلال، ومخططاته المستمرة، ويدلف أبو مازن إلى الشارع الفلسطيني، المرة بعد المرة؛ فيشارك الفلسطينيين سمرهم، وتسلياتهم بمشاهدة المونديال؛ وهو إذ يفعل ذلك يحاول أن يضفي على علاقته بمواطنيه مسحة طبيعية؛ ويشعرهم بصدق ما وعد في برنامجه الانتخابي، من تحقيق الأمن، وتوفير الطعام.

لكن المفاوضات غير المباشرة- مع حكومة نتنياهو، المعنية بالاستيطان، وتهويد القدس، وهدم منازل العرب فيها- التي لا تستشرف أفقا مضيئا، ولا يعوِّل المفاوضُ الفلسطيني عليها، ولا يؤمِّل، تبقى المؤشرَ الأعمق على أزمة، قد لا تسمح بالاطمئنان إلى شعبية مرتفعة للرئيس عباس، وإذا كان نتنياهو واليمين يزداد قوة؛ فإلى أي مدى تتغذى شعبيةُ نتنياهو على شعبية عباس؟ وإلى أي وقت تُستبقى المسافةُ بين المعيشيِّ والسياسيّ؟
[email protected].