حسن أوزال: إذا ما توقفنا عند الاشتقاق الأصلي للفظة الحداثة، سنجد أنها تنحدر من ظرفين اثنين:الأول لاتيني- روماني هوquot;modo quot;أما الثاني فإغريقي وهوquot;modos quot;. و يكفينا و الحالة هاته، أن نعلم أن الظرف الأول يعني الآن والراهن بينما الثاني يفيد اليوم، ليتضح جليا أن الحداثة هي في الأصل إشكالية زمان وقضية موقف أنطولوجي من هذا الأخير. الحداثة إذن تصور به نحيا ضد تصورات نقيضة، تصورات أقل مايمكن أن يقال عنها أنها مناهضة للحداثة. لعلها هي ما دأبنا على تسميتها بالتقليدية أو التراثية وأحيانا الماضوية. لكن ما الفرق بينها والحداثة؟ وفيما يختلف الإنسان الحداثي عن نقيضه الماضوي ؟ بناء على ما أوردناه بوسعنا القول ألا فرق اللهم فيما يخص فهم كل منهما للزمان. فحيثما يتصور الحداثي الزمان في تغير دائم و العالم جريان لاينضب وتيار لايتوقف، يرى الماضوي أن الزمان في سكون تام، والعالم دائري بلا بداية ولا نهاية. حيثما يرى الأول نوعا من السديم والكاووسية المتأصلة في الوجود لا يجد الثاني غير التناغم والتراتب. كل شيء في أعين الحداثي يولد ويحيا ثم يموت ويضمحل وفق منطق القصور الحراري العائد للترموديناميكا بينما لاشيء يولد ولا شيء يموت، لا شيء يبدأ ولا شيء ينتهي بحسب الماضوي. الحداثي إدن هو من يقبل بالتغيرات التي طرأت وما تزال تطرأ في سياق سير الإنسان نحو عدمه، وبدل الإيمان بتناغم مفترض و نظام قبلي للكون، يقر بفوضى الكون وكاووسية الأشياء. الحداثي إذن هو من يفضل هيراقليطس ونهره الجاري عن بارمنيدس القابع في دائرته التابثة، لأنه يحب المتعة قبل أي شيء آخر. مادام أن المتعة وحدها هي ما يجعل الحياة حقا آهلة لأن تعاش قبل فوات الأوان وحلول الموت. فهو كطاقة يدرك ألا فرصة تتاح له ثانية عدا هذه التي هي أمامه. من ثمة ضرورة تحليه بفن العيش، حيث يتعاضد فن المتعة بفن نحث الذات بلورة لديانة لا موضوع يرقى بالنسبة لها عن موضوع الحياة. الحداثة إذن هي دعوة لممارسة الأخلاق كما لو كانت نشاطا فنيا. إنها فلسفة تتمركز حول الذات توخيا لأخلاق التبختر و الغندرة. قوة الحداثي تتجلى أكثر ما تتجلى في رغبته الملحة على أن يصبح في كل يوم أعظم الناس. وذلك ما يستدعي منه حسن استثمار هذا الرأسمال الذي ما من رأسمال سواه وهو حياته، أقصد حاضره، الذي يعبر عنه بودلير كرمز للحداثة قائلا:quot;ليس من حقكم أن تبخسوا الحاضرquot;(1) إذ لا وجود إلا للحاضر على حد تأويل الرواقي كريسيبوس. ومن ثمة وجب العيش دونما مضيعة للوقت ولا عراقيل. هذا ما لا يكترث به الماضوي، الذي يحيا الحياة كما لو كانت عبئا. و يمارس الجنس كلعنة و عقاب. فالليبيدو بالنسبة له طاقة سلبية عليه التخلص منها ما أمكن والجسد عدو لا يستحق إلا التسريع في وأده. وبخلافه تماما يعتبر الحداثي جسده ملكا له يستدعي الإستمتاع كما نستمتع بالثروات التي بحوزتنا. الجسد بالنسبة للحداثي حيز أنطولوجي ينبغي بلورته والإشتغال على إنماءه، فهو ما به يتميز لا الإنسان عن الحيوان فحسب بل كل إنسان عن آخر. وهو من ثمة رهان المتعة. أما بالنسبة للماضوي، فالجسد مجرد وعاء روحي؛ يستحق العداب، والتحقير والتبخيس، النبذ والإقصاء، لأنه يتمرد على الروح ويعرقل كل حوار أصيل مع الخالق. وبطبيعة الحال فالذي يهجو الجسد إنما يفعل ذلك إعلاءا من شأن الروح والفراغ وتمجيدا للفناء على حساب البقاء. وتفضيلا للموت بدل الحياة ودعوة للتقشف ضد الإستمتاع ورغبة في الألم بدل الأتراكسيا ونشرا للترهيب والرعب عوض الطمأنينة والأمن. الذي يهجو الجسد يتنكر للرغبة. إنه على حد توصيف نتشه quot;الرتيلاء ذات الصليب quot;التي تبغض الجسد واللحم وتكره الرغبة و المتعة. فهي حيث يلوذ الناس للعيش سعداء لا تكف تدعوهم للعيش بتقشف؛ وحيث يستحسن الضحك تعظهم للصلاة؛ وحيث ينشذون شرب النبيذ احتفاء، تتأهب للعشاء الأخير على نحو ما فعل المسيح مع حوارييه قبل أن يصلب (2). ضد تجار الماورائيات، الذين يرمون إلى تزييف الواقع و التنكر لحقائقه، إذن يقوم الحداثي، محاربا. فهو يحارب دوما ضد كل ما يأسره ويوهنه، ولا شيء لديه يفوق عرش حريته. لذلك فهو إنسان الحرية بامتياز، ينبذ الاستعباد وكل أشكاله و يضع جانبا كل القوالب الاجتماعية انتصارا للفرادات المتميزة، والاستثناءات الجميلة التي معها يتحقق التوازن مابين طرفي الذات الدينزوسي (رمز الغنى والثراء ) والأبولوني (رمز القياس والشكل). قد نعثر للماضوي على نماذج اجتماعية عديدة لكنها كلها عليلة و منمطة على مقاس واحد. و أحسن نموذج ههنا هو البرجوازي. لكن لنأبه حتى لا نسيء الفهم على أن البرجوازي تحديدا معناه هو ذاك الذي يفكر بدناءة. وهو تعريف يعود في الأصل لفلوبير نستحضره، تأكيدا على ضحالة وضع الماضوي الذي لا يعرف إلا الحشد و جمع الثروات تماما مثلما يفعل البرجوازي. فهو كائن من أجل ما يملك، من أجل رأسمال مادي محض بينما الحداثي يوجد من أجل الوجود. رأسماله هو حياته. الحداثي بذلك لا يعرف إلا الإنفاق والتبدير لأنه يعشق الحركة لا السكون. أما الماضوي البرجوازي، فلا يرغب إلا في الادخار والاكتناز، لأن لا رأسمال له إلا ما يملكه من مال. بدهي إذن أن يكون الاختلاف ما بين الاثنين اختلافا في الطباع، لا في الدرجة فحسب. لذلك فأخلاق الأول أخلاق جمالية تنأى به عاليا بالمقارنة مع الماضوي. بينما الثاني لا أخلاق له مهما ادعى، أو لنقل بالأحرى مادام لا بد له من أخلاق، أن له سموم أخلاقية ليس إلا. السموم الأخلاقية la moraline على حد تعبير صاحب جنيالوجيا الأخلاق، هي أخلاق يستفرد بها الغوغاء و الدهماء، كما الناطحة والمتردية. إنها أخلاق تأسر وتقتل و تصب في السلب لا لشيء إلا لأن محركها الأساسي إنما هو غريزة الموت. وهي على عكس أخلاق الحداثي ما يودي بصاحبها إلى رهاب الفناء و الخوف وعدم الإحساس بالامتلاء في الوجود. ففي الوقت الذي يستطيع فيه الحداثي أن يجمل حياته و يثمنها، أن يَستمْتِع ويُمْتِع، منتهجا فن حساب الملذات تجد الماضوي متزهدا في ما يفعل، مجزوعا في ما يملك. الأول يحيا قبل الموت بينما الثاني يموت قبل الموت. بدهي إذن أن تكون الحداثة في آخر المطاف موقفا فلسفيا يمكننا تبنيه أسلبة للحياة و نهجا لأخلاق متعية نحن اليوم أحوج ما نكون إليها ضد آليات التعديم التي مافتئت تطالنا وتنال من قدرتنا على السعادة والفرح. ذلك أن مصير هذه الحياة التي هي حياتنا لا يتوقف إلا علينا، فإما أن نسمو به على نحو جمالي وإما أن نرده القهقرى. إلى هذا الحد تغدو الحداثة سبيلا لا غاية. إنها السبيل الممكن لبلورة ما أسميناه حيزنا الأنطولوجي وذلك يستحيل بطبيعة الحال دونما اقتفاء أثر فن نحث استعمالاتنا للرغبة.

الهوامش:
1-حكمة الحداثيين، أنطولوجيا الحاضر، ترجمة وتقديم حسن أوزال، سلسلة أبحاث فلسفية يشرف عليها مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب ص 45 الطبعة الأولى 2004.
Michel onfray,Le deacute;sir drsquo;ecirc;tre un volcan,journal , heacute;doniste1,eacute;d. grasset,1996. p. 39(2)