دانييل أودِيَا Daniel Odija(1974- )

ترجمة وتقديم هاتف الجنابي: من ممثلي الجيل الشاب الموهوبين من القصاصين والروائيين البولنديين. صدرت له عدة مجموعات قصصية وروايات من بينها: quot;رحلات في المكانquot; (قصص 2000)؛ هُوتَا الزجاجيةquot; (قصص 2005)؛ quot;لا يكنْ هذا حلماquot; (رواية 2008)؛ quot;مدونة الموتىquot; (رواية 2010). قوبلت كتاباته باهتمام وخصوصا روايتيه: quot;الشارعquot; (2001) وquot;المنشرةquot; (2003). تم ترشيح الثانية إلىquot;نيكهquot; - أكبر جائزة بولندية أدبية معاصرة.
يصف أودِيَا أعماق الريف البولندي، القرى بعد حل الجمعيات التعاونية الحكومية، عالَم غير معد أو مستعد أساسا للتحولات التي جرتْ بعد سقوط الشيوعية، إنه عالم محكوم عليه بالفناء البطيء. أما رواية quot;الشارعquot; فهي تصف مقاطعة يقطنها فقراء في مدينة صغيرة تقع في القسم الشمالي الغربي من بولندا. في حين أن quot;المنشرةquot; تتناول مصير صاحب مشروع يعيش في إحدى المقاطعات، شخصٌ قاس ومكروه من قبل محيطه، بما في ذلك عائلته. مصلحته البارزة واهتمامه منصبّان على ndash; المنشرة- لكنه في النهاية يغرق في بحر من الديون في محيط غير ملائم. يصف أوديا واقع بولنداquot; باءquot;(الدرجة الثانية) بطريقة مقتصدة لغويا. لكنْ، لا تنقصه الاستعارات العميقة وكذلك الأفكار الدالة حول طبيعة العالم، والتحول، والموت، وكذلك العلاقات ما بين الناس في الواقع الجديد، أيْ: بعد زوال النظام الاشتراكي السابق.

البيت وأكثر من ذلك

الشيء الوحيد الذي أحبه ميشليفسكي أكثر من المنشرة هو بيته. كان فخورا به، فالبيتُ كان كبيرا بل حتى حديثا، رغم أن بناءه دام سنوات عديدة. يتألف من طابقين وسرداب. وفي الحقيقة عدا المدخل إلى السرداب كان كل شيء فيه منتهيا، مصبوغا ومُبَسْمرا.
ليس كل واحد عنده بيته الخاص. في الحقيقة قلة من الناس عندها بيتها الخاص. لهذا فالكثيرون قد حسدوا ميشليفسكي على هذا البيت. هو كان يعرف بذلك حتى أن الأمر جعله مغتبطا. إذا ما عملوا سيكون عندهم!- قال ذلك أحيانا إلى ماريا، وهي بصمت أذعنت، وإلا فماذا يمكنها أن تفعل؟ كانت توافق لأنه لم يعترف لها بحق. كان الكلام بينهما يبدأ وينتهي بتعبيره. لم يكن أطول من عبارته وتعز عليها الجملة.
أحبّ ميشليفسكي أن يتخيل بأنه يبني بيتا لعائلة كبيرة. سوى أن الواقع قد نفخ بتصوراته. فماريا خلاص ما كان بوسعها الإنجاب. في الواقع كان ينبغي عليه أن يجد لنفسه زوجة ثانية، لكن كل النساء الأخريات بنظره بغايا، والبغي لا يمكنها أن تكون أما لأطفالهن على الأقل في بيته.
شعر في بيته جيدا. خصوصا في الليل، حينما كان كشيشتوف وماريا نائمين، وأن باستطاعته أن يتجول بهدوء وينظر إلى ما هو كائن وراء النافذة. خلل النافذة الأولى والثانية شاهد جدار الغابة بحيث أن سوادها العميق قد انفصل عن سواد السماء الخابي. أما النافذة الثالثة الكبيرة البانورامية فقد شاهد منها منْشَرَتَهُ. حدق في الظلال المختبئة في الزوايا تلك التي تتوق لابتلاع ضوء المصابيح الأصفر التي تضيء الساحة، الماكينة وسقيفة الخشب. انبثقت خيوط لمعان من خلف الكتل المليئة بالسواد، لكن ذلك لم يُنْعِش اللوحة، لأن كل شيء قد تجمد كما لو كان بانتظار نفس عميق مهمته تغيير العالم. وميشليفسكي استغرق في هذا الانتظار مستعدا للحدث الكبير. غير أن بعض الأحداث البسيطة التي أيقظته من الخدر قد حصلت. لقد انسل كلبان بهدوء عبر سقيفة الخشب، كان يوزيف يطلقهما في الليل لكي يقوما بمراقبة المنشرة.
في البيت كان ثمة ردهة كبيرة وموقد تشتعل فيه النار فعلا. أحب ميشليفسكي الجلوس أمامه. في المساءات. وبيده كونياك جيد. وحيدا. رقص اللهب في عينيه، ورغم أنه لم ينشر الحبور فيه أبدا، إلا أن وثباته الإيقاعية العنيفة هدأته. كان ميشليفسي يحتاج دائما إلى شيء ما بإمكانه أن يهدئه. هدأته النساء والكحول، والعمل سابقا، لكن منذ أن أصبحت لديه مشاكل، أخذت تضايقه. أخذ القلق المتصاعد يعكره، هل يخرج من أعباء ديونه. هل سينجح في إنقاذ البيت والمنشرة. فكر في حقيقة كونه لا يحب زوجته، رغم أنه لم يكترث بذلك كثيرا. كان ينقصه شيء، لكنه لا يعرف ما هو. قبل كل شيء خاف أن يبقى وحيدا، وأن ابنه الوحيد بعد أن يكبر ذات يوم سيذهب لحاله ويتركه. وماريا. لكن ما أهمية ماريا! هي لا تعني شيء.
هي نوعا ما قد ضاعت في كل ذلك. لم تفهم ماذا كان يعني يوزيف حينما ينظر إليها بشزر، حتى أخذت تخاف منه. كان البيت بالنسبة لها كبيرا. لم تتمكن من تنظيفه جيدا. بعد أن تفرغ من تنظيف زاوية، تتجمع في الزاوية الأخرى أعشاش غبار منتفخة. لم تردْ أن تطلب من يوزيف منظفة، لأنه قد شكا مؤخرا من شحة النقود، وبعد كل ذلك، لم تردْ أن تخلق لنفسها منافسة في عقر دارها. كانت تعرف جيدا من هو يوزيف. لذلك لم تطلب منه منظفة. ستنظف وحدها كل شيء. لهذا فالطابقان في البيت قد أثقلا كاهلها. كانت ماريا تجري من الأعلى إلى الأسفل وتعرف أنها لن تتعود على ذلك أبدا. لماذا قرر يوزيف أن يبني طابقا ثانيا؟ كان يمكن أن يبقى الوضعُ على حاله كما كان. بدون هذا الطابق الإضافي. والآن الناس من المزارع الحكومية التعاونية يسمون البيت قلعة، بسبب كبره. حتى أنه فارغ لضخامته. لكن الذنب هو ذنبها. لو لم تكنْ معها مشاكل لكان الأطفال يَعْدونَ في البيت ولكان البيت على المقاس. عند يوزيف حق حينما ينظر إليها هكذا. هي التي خذلته. لقد أدى واجبه على أكمل وجه. البيت كبير. تم عمله من الطراز الأول، ولو أنه لم يتم التخلص من الديون الناجمة عنه. وإذا صدقنا يوزيف فهي ضئيلة.
والدرابزون عند مدخل السرداب هو من بين تلك التوافه. كان شيئا تافها لأنه ما كان موجودا. لا بسبب نقص المال، إنما لانعدام الرغبة. كشيشتوف تغلب على الرعب الناجم من السرداب، لكنه قبل أن يصل إلى ذلك، قد شاهد ما شاهد وعانى ما عانى. المدخل إلى السرداب يمر عبر الدهليز ولذلك كان دائما يهب منه هواء بارد.
عندما كان كشيشتوف صغيرا اعتقد بوجود جثث بشرية تتعفن في السرداب، وأن بقاياها تم دفنها مع البطاطا في الأكياس. كلما دسّ يده في الكيس، كانت البطاطا ضرورية للغداء، كان لابد وأن يلمس شيئا متفسخا. دلفت أصابعه تدريجيا في المادة المسفوحة على الدرنات الصُّلبة وهذا ما كان يقززه جدا. في ضوء المصباح المتدلي من السقف، بدا له اللون النحاسي الذي دبّقَ يده، كأنه غائط أو جسد متعفن.
يوجد زر المصباح في الأسفل تماما. وهذا كان أسوأ شيء. في البداية، كان عليه أن ينزل في الظلام عبر السلالم وأن يكون حذرا للغاية، بسبب عدم وجود الدرابزون. وهذا الزر اللعين موجود في الأسفل تماما. كانت مجرد نقرة خافتة تجعل الانفجار المنقذ في العيون يطرد الأشباح التي كانت طوال نزوله بالسلالم تقنع المخيلة بأن يدا ما ستمسك حالا بالوجه وتمزقه إربا إربا. على أن هذه القاتلة ما كانت مجبرة على إثارة الألم في لحظة الضربة، لأن الرعب الذي أحدثته اليد كان بمستطاعه مبكرا أن يجتث القلب ويحوله إلى كتلة هامدة.

*
كل نظرة من أمه كانت بمثابة تحدٍّ لكشيشتوف. لقد رفض الموافقة على حبها، حتى لا يكون مضطرا للادعاء بكونه ابنا محبا. لم يشاطر والديه المشاعر، لأنه أحس بأنهما قد حاولا أن يجعلاه معتمدا عليهما. لم ينخرط في لعبة الحب مع الأم ولا الطاعة مع الأب. لم يردْ ذلك!
مع ذلك أجبراه لدى كل مناسبة على أن يعكس وجهُه الشيءَ الذي تاقا لرؤيته.عادة ما كان ذلك في كل مناسبة عيد تتطلب جلوسا جماعيا عند المائدة. حينئذ، كان يشعر بأن عليه أن يتماشى مع مزاجهما ولدى الضرورة عليه أن يغير وجهه لكي لا يفاجئهما بتقطيبة فظة غير محسوبة تلك التي عليها ألا تحدث. لأن بإمكانه أن يقود أمه للبكاء، وأباه للغيظ.
هما لم يشعرا إزاءه بتأنيب الضمير. لأن ابنهما كان يملك كل ما يتوق إليه. لم يسمحا لنفسيهما بأي إحساس بالذنب،في حين كان يجب عليه أن يبدي الندم، لأنه دائما كان يحسّ إزاءهما بالذنب.لم يكنْ يعرف كيف يحدث ذلك، لكن لم يكنْ لديه ما يكفي من القوة لكي يخالفهما ويثبت لهما أنهما مخطئان. دائما كان عندهما حق حتى لو لم يمتلكاه.
لكنهما، من جانب آخر، أعطياه كل ما تتمناه النفسُ. كان موقفهما منه بدون شائبة. سليما على الإطلاق. حتى لو أنهما لم يحبا بعضهما البعض، إلا أنهما مازالا يحبانه. كلٌّ منها بطريقته الخاصة، لكنهما أحباه. الأب باستثناء هذه الحالات المتفرقة، حينما كان مجبرا، لم يضربه، حتى لو ضرب أمه. هو لم يردْ حبهما. لقد فقد بسبب معارضته، وهما ربحا الأفضلية. أمه فعلت ذلك بالتأكيد. جرّبَ حيلا مختلفة. قبل كل شيء جرّب أن يشعرهما بأنهما لم يقوما بما يكفي في أداء واجبهما. وهذا كان طريقا سيئا. لأنه باستثناء حبهما له، لم يكنْ هناك شيء ما يمكنه أنْ يلومهما عليه.إذا كان ثمة شيء هناك فهو عدم الامتنان الصادر عنه. بالأحرى ينبغي عليه أن يكون ممتنا لهما على كل شيء. كان شيئا لا يطاق. وهذا الإذعان الخنوع لنظراتهما التي شكّلته ابناً طيبا، محبوبا مُحِبّا. تُفْ، واصل محاولته. فوجد الجواب في النهاية.
اتضح له، أن أفضل طريقة للتحرر منهما هو الامتناع عن التفكير فيهما، عدم الاكتراث بهما، ونسيانهما، والنظر إليهما كما لو كانا شخصين غريبين، وعدم التفكير بأن لديهما شعورا إزاءه. لكن لبلوغ ذلك، كان ينبغي عليه أن يكون بمستواه، وهذا يتطلب استقلالية تامة. وهذا ما حدث. ذات يوم، توقف عن ملاحظة نظرات أمه المؤثرة، وومضات عين أبيه ذات المغزى التي كانت تعني: نحن يا ولدنا نعرف، نحن فقط نعرف، والحقيقة أن الوالد بقي وحده مع هذه المعرفة، لأن كشيشتوف لم تكنْ لديه فكرة عمّا كان يعرفه الأب وعن أي شيء كان عليه، باعتباره ابنه، أن يشاركه بمعرفته. توقف عن الاكتراث بهما. فقد معنى الشفرات العائلية وحينئذ أدرك أن الطريق سالكة.
الآن يمكنه المغادرة. وهذا ما سيكون، أن يغادر. لأول مرة بدون شعور بتأنيب الضمير. بمعرفة في رأسه، بأنه كلما حاول الوالدان أن يخضعاه لهما، أصبح من السهل أن يخضع الآخرين له.
*
كانت ماريا ترى في الطائر المحلق عظاما خفيفة بفضلهما يستطيع الطيران وألا يكون مجبرا على المشي. لا يثقل كاهله شيء- أكثر ما يفكر به هو الأكل. مثل هذا الطائر لا يشعر بثقل جسمه، لا شيء في داخله من قبيل العجز الذي يكبله بالأرض. إنه أعلى من كل مخلوق.
إذا توقف كشيشتوف ونظر إلى الطائر، فليس من أجل مقدرته على الطيران. كشيشتوف انتظر قرار الطائر. من السهل التعرف على المفترس الذي يرصد الحركة هناك في الأسفل، فوق الأرض. معلقا فوق الرؤوس، مستندا على دوامات تحمله، إنه ينتظر. وكشيشتوف كان ينتظر. حينما سقط الطائر بإصرار نحو الأسفل وبعد لحظات كان يجب عليه أن يصطدم بالأرض، حبس كشيشتوف للحظة أنفاسه. وأصابه مغص في معدته من الانتشاء. اللطمة الخاطفة بالمخالب في الرأس الغافل وكتلة الوبر الهامدة المرفوعة أعلى يعني النجاح. مرة أخرى كان بمستطاع كشيشتوف أن يتنفس.
تخيّلْ أن تملك داخلك مخيخ طائر فلا تكون مجبرا على التفكير- هكذا كان يفكر يوزيف أحيانا. بدون أوزار غير ضرورية ومشاكل، بدون مكائد، لكي تُبقيَ رأسك فوق سطح الماء بدون أن تفقد ما جمعته. الطائر لا يجمع. الإنسان هو الذي يدّخر مثل الحيوان القارض. يقتل الطائرُ القارضَ بضربة منقار واحدة. تخيّلْ أن تملك في داخلك مخيخَ طائر لا يعطيك تصورا للخطر. تخيّلْ أن تعيشَ دون وعي بأي شيء، خارج المعدة والطيران.

* نقلا عن البولندية، من كتابه: المنشرة، دار نشر تشارْنَه، فووفيتس 2003، ص: 64-69