لطالما عاش اللاجئون الفلسطينيون في لبنان تحديدا ظروفا تنتقص من إنسانيتهم، ولطالما أحال ذلك إلى مقارنات بين أوضاعهم فيه، وفي بلدان عربية أخرى منها سوريا والأردن, ولطالما تردد السؤال: لماذا ينفرد لبنان بهذه السياسة؟ وما حجم المخاوف الخاصة، وما مدى وجاهتها؟

الوضع الفلسطيني في لبنان معقد، فعلا، يتداخل فيه الدولي بالإقليمي بالعربي، بالتوازنات اللبنانية، والاعتبارات الطائفية. وتختلف النظرة إلى أوضاع اللاجئين الفلسطينيين باختلاف زوايا النظر، ومصالح الناظرين، لكن المؤكد أن الصفة الإنسانية تطغى على الاعتبارات الأخرى، ومن هنا رأينا التفافا فلسطينيا، ولبنانيا، على أحقية الفلسطيني في أوضاع معيشية لائقة وكريمة، بمنأى عن الاشتباكات السياسية.

الكل مقتنع بخصوصية التركيبة السياسية في لبنان، والكل معترفٌ بالثمن الباهظ الذي دفعه لبنان؛ نتيجة اضطلاعه بجزء كبير من عبء القضية الفلسطينية. والكل يجمع على رفض التوطين؛ فلسطينيا؛ لأسباب تتعلق بتمسك اللاجئين بالعودة، ولبنانيا؛ لاعتبارات وطنية.

لماذا المطالبة بالحقوق المدنية؟
لأنها ببساطة لا تمثل مخاطر على لبنان، ولا على القضية الفلسطينية، فهذه الحقوق لا تشمل السياسية، والحقوق الدستورية، ترشيحا، وانتخابا، ولا حتى تمثل مخاطر اقتصادية، ولا تشكل تهديدا جديا لفرص اللبنانيين، وإنما تلتزم بالموقف العربي العام، وفقا لبروتوكول الدار البيضاء الذي صدر عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب عام 1965م، والذي نص في فقرته الأولى على أن laquo;يُعامل الفلسطينيون في الدول العربية التي يقيمون فيها معاملة رعايا الدول العربية في سفرهم وإقامتهم، وتوفير فرص العمل لهم، مع احتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينيةraquo;. ومع ذلك لا تتحمل الحكومة اللبنانية- وهي تحرم الفلسطينيين من مزاولة ما يزيد عن ستين مهنة، وتحرمهم من حق التملك- تبعات سياسية، ولا اجتماعية، أو اقتصادية؛ لأنها تنطلق من مبدأ المعاملة بالمثل، وما دام أنه لا وجود للبنانيين في الكيان الفلسطيني؛ فإن الحكومة اللبنانية ليست ملزمة بتقديم أية حقوق لهم.

وفي منح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حقوقا في العمل والتملك مصلحةٌ للبنان؛ إذ أين المصلحة في بقائهم في هذه الأحوال المعيشية المأساوية، وفي ظروف تدفع نحو الانحراف، أو التطرف؟! ومن المعروف أن أي تجمع سكاني لا يندمج في بلد الإقامة يبقى مَبْعثا للقلق، بعزلته، أو شعوره بالظلم والتهميش، وبمقدار قوة الدولة وثقتها بنفسها تسمح بمقدار أوسع من الدمج.

هذا بصفة عامة، ولكن التجاذب السياسي الذي يعرفه لبنان داخليا وخارجيا جعل من اللاجئين الفلسطينيين ورقة مساومة، ومحلا للاستخدام، من أطراف عربية مجاورة؛ فالحقُّ أن تسوية أوضاع اللاجئين مرتبط بتوافق إقليمي، وسوري لبناني، ومن هنا جاء موقف تيار المستقبل الذي ربط بين الحقوق المدنية وحل مشكلة السلاح الفلسطيني، وفق ما قاله النائب عاطف مجدلاني معتبرا أن الحقوق يجب أن تقرن بواجبات، فالدولة اللبنانية لا تستطيع أن تدخل المخيمات الفلسطينية.

أما التوطين؛ فلا يجد من يقبل به من الفلسطينيين المطالبين بالحقوق المدنية، بل إن إجماعا فلسطينيا ينعقد على رفضه؛ رسميا، وفصائليا، وشعبيا. ولكن المرحلة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، والمفاوضات التي لا تعرف أفقا في ظل تنامي اليمين المتطرف في إسرائيل، يجعل من حق العودة حلما جميلا، ولكنه بعيد المنال، وفق المؤشرات المتوفرة، والموقف الدولي، والأمريكي، تحديدا.

فهل تخشى القوى اللبنانية الرافضة لمنح الفلسطينيين حقوقا إضافية في العمل والتملك أن يغدو ذلك التفافا لإنجاز نوع من الحلول على حساب لبنان؟

قد يكون هذا التفكير غير بعيد عن الواقع؛ إذا تذكرنا المشاريع الأمريكية لتوطين اللاجئين في أماكن لجوئهم، بأن يكون هذا التوسع في الحقوق خطوةً على طريق تطبيع الوجود الفلسطيني، وتأبيده، في لبنان، وهو البلد الذي يشتمل على نسبة عالية من الفلسطينيين تقدر بما يفوق الـ . (أربع مئة ألف نسمة)، وفق أخر إحصائية للأونروا (2008م) بالرغم من كونه عددا غير مؤكد.
ومع أن الموقف الرسمي الذي أعلنته السفارة الأمريكية في يناير /كانون الثاني من هذا العام، يرفض أية حلول على حساب لبنان، ويتعهد بعدم دعم توطين الفلسطينيين في لبنان؛ فإن الجهود التي تقودها واشنطن لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تقوم على إسقاط laquo;حق العودةraquo;، والتوقيت الذي تأتي فيه هذه المطالبات، يمكن أن يعد مؤشرا مقلقا، وقد يشكك بجدية التعهد الأمريكي.

ومهما يكن؛ فإن التواجد الفلسطيني في لبنان يظل رهين التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية، ومع هذا يُشرع السؤال: ما دام الفلسطينيون لا يقبلون بنزع صفة اللجوء التي يتمتعون بها، على الأقل بصفة جماعية، وأنهم لن يزاحموا اللبنانيين على بلدهم دستوريا؛ فما المانع من بلورة أوضاع جديدة؛ لهم تلبي حدا معقولا من الكرامة، وتعينهم على صمودهم، من خلال توافقات فلسطينية لبنانية وعربية؟!
[email protected]


.