تعالت شعبية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في العالم العربي؛ لتذكرَّنا بالشعبية التي نالها، من قبل، الزعيمُ العربي، جمال عبد الناصر، ولتذكر من قريب بالشعبية التي حظي بها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله.

ومن الواضح أن الشعب العربي، وكثيرا من نخبه، لا يقيس الزعماء بمقياس محدد، أو بمرجعية مدروسة، وممحَّصة؛ إذ تطغى الاعتبارات الانفعالية، على سواها، في مفارقة غريبة ترتقي إلى شكل من أشكال التواطؤ، غيرِ المعلن بين تلك الأركان الثلاثة، السياسي وlaquo;المثقفraquo;، والجماهير.

نحن هنا لسنا بصدد التهوين من شأن تركيا، أو من اعتداد الأتراك بكرامتهم الوطنية، والقومية، ولسنا نبخس الأتراك مساعيهم في فك الحصار عن غزة, ولكننا بصدد الحديث عن جوانب سياسية محددة، ودعونا نبدأ بالعلاقات التركية الإسرائيلية؛ لأنها كانت أبرز تجليات الأزمة الأخيرة، وكانت التعبير الأوضح عن غضب الأتراك؛ فهل قطعت تركيا علاقاتها مع إسرائيل؟ وهل كان التراجع في علاقات تركيا بإسرائيل نهائيا؟ أجاب عن هذا السؤال وزيرُ الخارجية أحمد داود أوغلو، حين قال في مؤتمر صحافي في أنقرة، إثر عودته من الولايات المتحدة: laquo;مستقبل العلاقات مع إسرائيل يعتمد على موقف إسرائيلraquo;. وزاد قائلا: laquo;إنني لا أرى سببا لعدم عودة العلاقات إلى طبيعتها؛ بمجرد رفع الحصار عن غزة، والإفراج عن مواطنيناraquo;.
وكان الموقف التركي حريصا على حصر هذه الأزمة في الحكومة الإسرائيلية، لا في دولة إسرائيل، ظهر ذلك جليا في تصريحات الرئيس التركي عبد الله غول:laquo; إن إسرائيل ستندم على خطئها الكبير الذي ارتكبته بمهاجمتها (أسطول الحرية) الذي كان ينقل المساعدات الإنسانية إلى غزة، معتبراً أن الحكومة تتصرف بشكل خاطئ تجاه مستقبلها وباتت عبئا على الإسرائيليين.raquo;

وبعيدا عن الغوغاء والخطاب المشحون، أو المواقف المسبقة، ألا نجد تقاطعا كبيرا بين الموقف التركي والمصري في هذا الجانب، جوهريا، إذ البلدان لا يقطعان علاقاتهما مع إسرائيل، ولكنهما كذلك، لا يرفعان العلاقة معها إلى مستويات دافئة؛ فالرئيس المصري لم يقم بزيارة إلى إسرائيل إلا تلك البروتوكولية للمشاركة في مراسيم دفن رابين، 2005م، وعلى المستوى الثقافي اتخذ وزير الثقافة المصري، فاروق حسني بعد توليه الوزارة قرارا بوقف التطبيع الثقافي مع إسرائيل؛ ما يعني أنه جعل نفسه أسير هذا الموقف، فصار بذلك تحت طائلة المحاسبة والمساءلة؛ بناء على هذا الموقف الرسمي المعلن.

وحتى شيخ الأزهر الجديد الدكتور أحمد الطيب، يعلن رفضه للتطبيع مع إسرائيل، أو زيارة القدس، في ظل الاحتلال، بل إنه laquo;دعا المسلمين لعدم زيارتها من خلال التأشيرات الإسرائيلية، لأن ذلك يعني تكريس الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بمشروعيتهraquo;.
وموقف الرئيس المصري حسني مبارك الذي أعلنه، مرارا، أن laquo; الدول العربية لن تعترف بإسرائيل أو تطبع العلاقات معها إلا بعد laquo;التوصل إلى السلام العادل والشاملraquo;.

طبعا لا بد من الإقرار بالفروق بين كل من الدولتين بحكم المهمة والدور الذي تضطلع به؛ ومع ذلك بقيت تركيا حتى وقت قريب تستعد للقيام بدور الوساطة بين سوريا وحكومة نتنياهو؛ بالرغم من أن هذه الجريمة ليست الأولى لهذه الحكومة، أو سابقتها، حكومة أولمرت، التي دمرت غزة، وارتكبت من الجرائم بحق المدنيين؛ ما استوجب إدانة دولية من خلال تقرير غولدستون.

هل يختلف عبد الناصر عن مبارك في laquo; قضية السلامraquo;؟

والحاصل أنه من حيث الجوهر، لا فرق بين الموقف التركي من إسرائيل، والتفاوض معها، وبين الموقف العربي العام، كما لم يكن كبير فرق بين مواقف الرئيس جمال عبد الناصر من هذه القضية، وموقف مصر الراهنة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الكبير في الظروف العربية والعالمية، وتطورات الجهود السلمية وتراكماتها؛ فإذا كان ناصر قد وافق في حينه، على مبادرة وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز؛ - ولم تكن الأسباب الداعية إلى مثل ذلك الموقف بقوة الأسباب الحالية- فماذا كان عساه، يفعل، لو أمد الله في عمره، الآن؟!

ومن الثابت أن عبد الناصر وافق رسميا على laquo;مبادرة روجرزraquo; التي، وإن اختلفت عنlaquo;مشروع روجرزraquo; في التفاصيل؛ إلا إنها اتفقت معها في المضمون الأساسي، وتنص على الآتي:laquo; تعلن أطراف النزاع في الشرق الأوسط، وقفا محدودا لإطلاق النار، مدته تسعون يوما، وفي هذه الفترة ينشط السفير جونار يارنج؛ لينفذ قرار مجلس الامن رقم 242، وبالتحديد فيما يتعلق بالتوصل إلى اتفاق سلام عادل ودائم، يقوم على الاعتراف المتبادل والسيادة، ووحدة الأراضي والاستقلال السياسي. وتقوم إسرائيل بسحب قواتها من أراض احتلتها في معركة 1967raquo; laquo;المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيلraquo; لمحمد حسنين هيكل,ج2، ص: 165.

وقد تناول هيكل في كتابه السابق تطور الاتصالات بين عبد الناصر والإسرائيليين، والذين تطرقوا إلى هذه الاتصالات الناصرية بإسرائيل -من مؤيدي عبد الناصر- لم ينكروها, ولكنهم سلكوا سبيل التبرير المستند إلى حرصه على الحفاظ مع علاقاته مع واشنطن، أو laquo;عدم كسر الجرة معهاraquo; بحسب تعبير أحدهم!!

ويكفي عبد الناصر فخرا، وجدارة بالتبجيل العربي والتعظيم مساهمتُه الكبيرة في صنع هزيمة الـ 67م التي أفضت إلى خسارة الضفة الغربية، و قطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان.. وتحطم معنويات الجيوش العربية وأسلحتها...!!!

وعودا على تركيا؛ فهي تعمل ضمن السقف الدولي، وتخضع لتوازنات من المصالح، مع الغرب، والإدارة الأمريكية، وقد كان لافتا أنَّ ردة الفعل الرسمية لم تكن بحجم الجريمة التي تجرأت عليها إسرائيل، تُجاه جهد ترعاه الحكومة التركية؛ وقد كان أردوغان في غاية الحلم، حين خطب أمام البرلمان التركي، في ذروة الغضب، وبعد الأنباء عن مقتل ثمانية من الأتراك،؛ قائلا: laquo;حان الوقت لأن يقول المجتمع الدولي: كفى. ينبغي ألا يقتصر تحرك الأمم المتحدة على قرارها الذي يدين إسرائيل، ولكن يجب أن تقف وراء قرارهاraquo;.
وللأسف الشديد، ما يزال المنطقُ الانتقائي، والتفكير الرَّغَبي يمعن في الشعوب العربية؛ بتضليل من بعض laquo;المثقفينraquo; أو بمجاراة منهم! وما زالت المبالغات والأوهام تستحوذ على ذهنيات إعلامية شعبوية، وغير مسئولة؛ فبدلا من التقييم السليم للموقف، وتقدير كل شيء بقدره، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، وكل ذي خطأ، أو خطيئة، حظه من المساءلة، والمراجعة، ينجرُّ البعض نحو تأليه زعماء، واختزال الأوطان بهم!

وفي التجربة التركية الأردوغانية يتمنى عرب حالمون أن يستعيد laquo;أردوغان التُّركraquo; laquo;ناصرَ العربraquo; فيما نُؤْثر الانتظار والحذر، دون الانتقاص من أي موقف إنساني انخرطت فيه الحكومة التركية، أو قادته، وتحملت في سبيله.

[email protected]