quot;عندما بدأت (القاعدة) في التحول من مكتب خدمات للمجاهدين إلى تنظيم، وذلك عندما طلب بن لادن البيعة لنفسه من الناس عام 1989، قال له أحد من تعاونوا معه في الجهاد الأفغاني (وهو الأخ أبو مصعب السوري): إنه لا يوجد تنظيم له بيعة، دون منهج واضح على أساسه يبايع الناس، وطلب من بن لادن تحديد منهج عقائدي وفقهي مع أهداف واضحة (للقاعدة)، فرفض بن لادن بشدة.quot; هذا بعض ما قاله الدكتور فضل- الرجل الذي يُنسب إليه الدستور الذي قام عليه تنظيم القاعدة من خلال كتابيه laquo;العمدة في إعداد العدةraquo; وlaquo;الجامع في طلب العلم الشريفraquo;- في كتابه الأحدث:laquo;مستقبل الصراع بين طالبان وأميركا في أفغانستانraquo; الذي تنشره quot;الشرق الأوسطquot; على حلقات.

تنظيم القاعدة المفتقر إلى برنامج سياسي، واجتماعي واضح، مرشح إلى مزيد من التخبط، وذلك مبعث التساؤل عن ماهية هذا التنظيم، ومعنى وجوده؛ فالوضوح من أهم ما يبعث على الطمأن ينة والثقة، وهو في الأحزاب والتنظيمات، ضروريٌ لامتحان جِدَّيتها، وفحص واقعية أهدافها، واستراتيجياتها المحددة. وحين ينتاب جمهورَ الناس الغموضُ والضبابية تُجاه حركةٍ ما في عصرنا هذا الذي يضِجُّ بوسائل الإعلام؛ فاعلم أن ثمة ما يُريب في سلوك تلك الحركة المُلْتَبسة، وأن لك الحق في التساؤل عما تخفيه، وما تريده، وقد قالت العرب:quot; الحق أبلج، والباطل لَجْلَجquot;. إذا كان ثمة غموض إيجابي، فإن غموض خطاب quot;القاعدةquot; - الموجه إلى العالم، بعامة، والإسلامي والعربي، بخاصة- واختلاطَه، سلبيٌ، بلا ريب. فما هدف quot;القاعدةquot; المحدد؟! وما أولوياتها؟! وما استراتيجيتها؟! بل ما هي رؤيتها الشرعية الفقهية المفصلة لواقعنا المعاصر؟! وأين علماؤها المؤهلون؟! وما دستورها الذي ستنفذه، في حال بلغت الـ quot;دولة الإسلاميةquot;؟!

وها هي قد أقامت quot;الدولة الإسلاميةquot; في العراق؛ فأين هي تلك quot;الدولةquot;؟! ألا يجدر السؤال عن سبب هذا الإخفاق الذريع الذي مُنِيَ به التنظيم في العراق؟! ولماذا لم تفلحْ quot;القاعدةquot; في الاحتفاظ بذلك الاحتضان الذي حازته، في أول نشاطها، من عدد من مكونات الشعب العراقي؟! لماذا انقلب أنصارُها، وحاربوها، واستأصلوها؟! فـquot;القاعدةquot; بذاك الغموض، في الأهداف، والاستراتيجية، والمواقف إنما تسهم في خلق وسط مائع، وفي تعكير المياه؛ ليفضي ذلك إلى حالة من الاشتباه، كما حدث في العراق، ويحدث، من عمليات انتحارية تُنسب إليها، ولا تحدد موقفها منها، في أغلب الأحيان! وحتى عمليتها الكبرى في (11-9) ظلت القاعدة فترة، غير قصيرة، متذبذبة في إعلان المسؤولية عنها! ومن الجدير بالتَّذكر أنك قلَّما تجد خطأ محضا، بل إن الخطأ قد يشوبه شيءٌ من الصواب في الأقوال، أو في الأفعال، حتى الشيطان، رمز الشر والإفساد، قد يصدق، وهو الكذوب! فما يُلتفت إليه في الحكم على quot;القاعدةquot; هو مسارُها العام القائم على استعداء العالم علينا، وتعمد الخلط بين المقاومة المشروعة للمحتل الذي أقرته كافة المواثيق والمعاهدات الدولية، وبين القتل الذي لا يكاد ينجو منه عرب، ولا عجم، ولا مسلم، ولا غير مسلم. كل ذلك بتوظيف quot; تعطيل الشريعةquot; وquot;الظلم الواقع على المسلمينquot;! والحاصل، أن مشكلة العالم الإسلامي، اليوم، أنه واقع في خضم الصراعات الدولية، وفي عصر تفوقت فيه لغة المصالح، وعالمنا ابنُ عالم أكبر لا يجاملُ الضعفاء...، هذا التعامل لم تنجُ منه الدول المهزومة في الحربين العالمية الأولى، ولا الثانية، من دول أوروبية، كألمانيا، وغيرها، كاليابان، مثلا.

والسؤال، ليس عن انحياز أميركا والغرب إلى إسرائيل؛ لأن هذا منطقي، بحسب منظومة القيم المشتركة، والعقدة المستحكمة في الغرب، عموما تجاه اليهود الذين ما زالت دولتُهم تنجح في توظيف وضع quot;الضحيةquot; المهددة بدول وشعوب تحدق بها، وتهدد بإبادتها، في أية فرصة سانحة. وأطروحات quot;القاعدةquot; الشعاراتية- غير المبتعدة في طابعها عن فرقعات إيران بتدمير إسرائيل- من جملة ما تحسن الأخيرة توظيفه، في مخاطبة الرأي العام الغربي، المؤثر على صانع القرار السياسي هناك.فخطاب القاعدة السطحي المقتضب، عن إسرائيل، مثالا، غير المصحوب بالوقائع، والخلفيات الحقوقية، والإنسانية لقضية فلسطين يجرِّد مضامينها الخاصة من القدرة على التجاوز، بل إنه يصب في صالح الفكرة الذي تحرص إسرائيل على تكريسها بتثوير فكرة الضحية في الوجدان الغربي. وفي معالجة quot;القاعدةquot; للقضية الفلسطينية يتبدى خلطُها الضار بين إسرائيل بوصفها دولةً محتلة، وبين الغربيين عموما، شعوبا، وحكومات، حيث الفرق بينهما قائم وثابت، إذ لا ننفك نشهدُ مواقف شعبية غربية منددة بسياسات حكوماتهم من قضايا متعددة، وكان أبرزها الموقف من الغزو للعراق، وكذلك المواقف المنددة بسياسات إسرائيل الاحتلالية في قطاع غزة والضفة الغربية. فهذا الخطاب quot;القاعديquot; الذي يوسع دائرة quot;الأعداءquot; بدلا من تحييد ما أمكن من القوى العالمية والغربية عن دائرة المواجهة، يكشف عن أضرار لا زالت تتوالى على قضايا الأمة، وتنعكس سلبا على طريقة تعامل تلك الدول الغربية، وغيرها، مع المسلمين والعرب الذين تدعي quot;القاعدةquot; النطق باسمهم، وتشوه الخطاب الإسلامي الذي تحاول احتكاره!


السلبيةُ هي ما يطبع quot;فكر القاعدةquot; ومواقفها؛ إذ يتراوح بين التكفير والتحريم من جهة، وإزهاق الأرواح وتدمير المنشآت والمرافق العامة، من جهة أخرى، وهذا يكشف عن نفوس يائسة من التغيير الإيجابي الذي يسلك مسلك العقل والعمل السياسي والاجتماعي الطبيعي، وهذا ليس غريبا؛ إذ تمثل quot;القاعدةquot;- في حركة التطور التي مرت بها quot;الجماعات الإسلاميةquot;- مرحلة متقدمة، من quot;الفكر الجهاديquot; الذي انبثق في مصر، كردة فعل، في ظروف المواجهة التي احتدمت في ثمانينات القرن الماضي بين quot;الإسلاميينquot; والدولة.
لقد جرَّبت quot;الجماعة الإسلاميةquot; أسلوب المواجهة العسكرية مع الأمن المصري؛ فلم تفلح، وانتهت بمراجعات، وتراجعات، وكذلك تورطت quot;جماعات إسلاميةquot; في الجزائر في حرب مع الجيش الجزائري؛ فماذا جرت على البلاد؟ وأين انتهت؟ وها هي التجربة الخاطئة تستعاد من جديد في اليمن؛ فماذا سيجرُّ هذا، غير المزيد من الاقتتال الداخلي، والضحايا من شعب اليمن المُنكَّل الأركان، على حد تعبير مثقفٍ يمني، وهل يقرِّب سلوكُ quot;القاعدةquot; اليمن غير السعيد، من السعادة، أم يجلب له مزيدا من التدويل، والارتباك، والقلق له، ولمحيطه العربي؟! وهل تُبنى المجتمعات، وتُشيَّد الدول، بمثل هذه السلبية، واليأس، والإفلاس الفكري؟! وهل من سنَّة الإسلام والعقلاء تقمص صورة رئيسِ الدولة، وخطابه إلى الدول والرؤساء، والمتقمص: (أسامة بن لادن) أبعد الناس عن هذه الصفة المادية، والاعتبارية؟

إن افتقاد quot;القاعدةquot; إلى برنامج سياسي واضح، ومتكامل، ومنهج فكري محدد، وتعمد خطاب شعاراتي فضفاض، ومختلط، يشكك بجدية ما تعلن من أهداف، بقدر ما يورط الأمة وقضاياها في معمعان صراعات تتفاقم، في غير محلها، وفي أثناء ذلك ضربات تنم عن تخبط مدبريها، وتمعن في تدوير حلقة القتل والاقتتال، وسط حالة من القلق والتساؤل عن المغزى، والمعنى!
[email protected]